دائماً ما نخلق الدوامات حول الحدث ، ونغرق فيها ، ونستمرأ الغرق ، دون أدنى محاولة منا فى البحث عن أسباب الحدث الحقيقية ، وبالتالى إدراك طريق الوصول لحلول جذرية لإستئصاله .. مباراة فى كرة القدم ، تنتهى بمأساة غير مسبوقة ، ويسقط على أثرها ما يزيد عن سبعين شهيداً ، بكل قسوة ، ودون أية رحمة ، وما زلنا كعادتنا ننحو الى التعميم فى إلصاق التهم ، سواء بإلصاقها بمدينة عريقة وباسلة كبورسعيد ، أو الإيماءة الى تعصب أبناء المدينة وتطرفهم ، دون أى إشارة الى أننا نحيا مرحلة تحول فارقة فى تاريخ الوطن ، مرحلة تخلت الشرطة فيها عن دورها ومسئوليتها ، منذ أن انسحبت فى جمعة الغضب يوم 28 يناير ، وأطلقت أسراب الخارجين الى الشوارع ، وتركت المصريين عاريين من أى حماية ، فى آخر محاولة من وزيرها القاتل ( العادلى ) لإعادة الحياة لمشروع التويث ، بعد أن وأده الثوار بخروجهم فى الخامس والعشرين من يناير .. والشرطة التى انسحبت فى جمعة الغضب هى ذاتها التى تعاملت برعونة مكشوفة فى حادثة استاد بورسعيد .. منذ سنوات طويلة والأنظمة المصرية المتعاقبة تحاول إختزال معنى الوطن فى مباريات كرة القدم ، سيما فى العشرة سنوات الأخيرة ، ففى عام 2006 ، جلس الرئيس المخلوع – حسنى مبارك – بمقصورة استاد القاهرة ، فى قفص من الزجاج ، يتابع منتشياً أحداث مبارة مصر وكوت ديفوار فى نهائى كأس الأمم الافريقية ، بينما أرواح شهداء العبارة المصرية – السلام 98 – هائمة على الماء ، وغارقة قى قاع البحر .. وبعد أن حازت مصر اللقب الافريقى ، انتشى الشيخ الثمانينى الآفل – مبارك – انتشاءً لم يخف وهن جسده وعقله ، فالشيخ لم يعد ير مصر ، إلا من خلف قفصه الزجاجى ، مثلها تماماً مثل المباراة التى فضّل مشاهدتها عن متابعة حادث جلل كحادث العبّارة الغارقة بأرواح ما يزيد عن الألف شهيد .. واستمر الشيخ الرئيس فى قفصه الزجاجى ، وسعى الوريث الى حلمه بالرئاسة ، ولم يجد غير كرة القدم كمحفة سحرية للوصول الى غايته ، ولعلنا نتذكر يوم أن صحب معه فى طائراته كل نجوم الصف الثانى والثالث من حاملى المباخر ، أثناء رحلته الى الخرطوم لحضور المباراة النهائية للتصفيات المؤهلة لكأس العالم بين مصر والجزائر عام 2009 ، حتى تبدأ أول مهرجانات التوريث مع الفوز بالمباراة .. وحال هدف اللاعب الجزائرى عنتر يحيى بين الوريث وحلمه بالرئاسة ، وبين فريق الكرة والوصول الى كأس العالم .. لكن رغم تبخر الوهم ، ظلت الكرة المستديرة المطاطية هى الوطن ، ولاعبى كرة القدم فرسان عصر الفشل المباركى الرشيد ، وحتى لحظتنا الراهنة .. وتجلى فساد النظام وسؤاته فى مجال كرة القدم بوضوح وشفافية كاملة ، وكأن الاثنين صورة واحدة لنفس الشخص ، وتحول الاعلام الرياضى الى إعلام مدفوع الأجر ، غير خال من الهوى ، والى منصة إطلاق صواريخ حيّة للتعصب والتنابذ بين الفرق الرياضية .. ومع تماهى العلاقة بين الكرة والوطن ، غاب الوطن وحضرت الكرة ، خاصة أن الوطن أُختطف لصالح حفنة من رجال الاعمال أحاطوا بالمخلوع وعائلته ، وأحاطوا بكل ما تملك مصر من ثروات وبشر .. وكان طبيعياً فى هذا المناخ أن تتنامى روابط الألتراس مثل أشجار اللبلاب ، بين شباب عرفوا الكرة ولم يعرفوا الوطن ، فالوطن فى ظل مبارك ، سلبهم حق الحلم بمستقبل أفضل ، وواقع أرحم . ومنحتهم أقدام اللاعبين أحلاماً لم يروها ، وتحققاً لن يصلوا اليه ، وتحوّل فريق الكرة الى معنى فوق الجميع ، انتصاره هو الحياة ، وهزيمته معناها الموت .. ما حدث فى استاد بورسعيد نتاج سنوات طويلة ، تحوّل الوطن فيها الى كرة ، والكرة الى وطن .. ومن حوّلوا الكرة الى وطن ، سواء من زيول النظام السابق ، أو من ينتمون الى نفس آليات تفكيره ، ومناهج إجرامه ، كان سهلاً عليهم أن يرتكبوا جريمتهم ، التى دبروها بليل ، دون أى شعور بالذنب ..