شهدت بعض المناطق في فلسطين تصعيداً في الأيام الأخيرة تفاعلاً مع الأسرى الفلسطينيين الذين يخوضون إضراباً مفتوحاً عن الطعام منذ السابع عشر من نيسان لهذا العام، إضرابٌ لأجل مطالبهم الإنسانية العادلة التي يكفلها القانون الدولي والشرائع التي تنص على حقوق أسرى الحرب. وفي ظل غياب الموقف الرسمي القادر على تحريك ملف الأسرى والضغط على الاحتلال لأجل أن تنفذ مطالبهم الإنسانية اختارت الجماهير حَملَ ملفِ أسراها، فَخرجت صارخة لنقاط التّماس مع العدو مُحاولة الضغط من خلال الشارع. لقد خرجت الجماهير عارية الصدر ليس في يدها سوى أعلام بلادها وكفّها الأعزل في وجه دبابات ومصفحات عاتية، خرجت إلى نقاط التماس حيثُ حواجز الاحتلال والشوارع التي يَمُرُ منها المستوطنين في رسالة هي الأشدُّ بلاغةً في الفعل الحقيقي الذي قد تحمله الجماهير لنصرة أسراها. ذلك أن المُواجهة المفتوحة في شوارع وطرقات الضفة الغربية من قِبَلِ الجماهير في ظل غياب صوت الفصائل والقيادة الفلسطينية سَيكون كفيلاً بالضغط على الاحتلال لإنهاء الإضراب المفتوح عن الطعام بتحقيق مطالب الأسرى. ولأن الإحتلال يُدرك جيداً مدى خُطورة تحول المعركة من قلب المُدن حيثُ خيام الاعتصام لأهالي الأسرى إلى الطرق الرئيسية ومداخل المدن حيثُ نقاط التفتيش والحواجز فإنه يسعى جاهداً لمواجهة ذلك والحيلولة دونه بأية طريقة. تدرك الجماهير خطورة تحركها الميداني لأنها ستواجه عدواً جاهزاً للمعركة، في الوقت الذي لا تملك هذه الجماهير إلا حناجرها الهادرةُ بالغضب.. إلا أنها أمام المشهد المرعب الذي يسير إليه إضراب الأسرى بعد دخوله الشهر الثاني وليس هناك بادرة حل حقيقي لإنقاذ حياتهم من الموت الجماعي. في هذه الأجواء تحركت الجماهير الغاضبة جنوب مدينة نابلس في محاولة لإيصال رسالة أسراها بالضغط على الاحتلال من خلال الوصول للشارع الرئيسي الذي يمر من بلدة حوراه واصلاً شمال فلسطين (الضفة الغربية) بجنوبها. فخرجت المسيرات يوم الخميس18/5/2017 من بلدة بيتا جنوب نابلس مُؤمنة بدورها ورسالتها الوطنية في إسناد الأسرى في معركة الكرامة التي يخوضونها بأمعائهم الخاوية. كانت المسيرة تهدف لإيصال رسالة لقيادة الاحتلال بأن الجماهير لا يمكن أن تبقى غائبة عن ملف أبنائها الذين يُصارعون الموت في سبيل حياة كريمة. وكان ينبغي لهذه المسيرة أن تنتهي بهدوء لولا أن المستوطنين الذين يسلكون هذا الشارع لجأوا لاستخدام الرصاص الحي مُستمدين الشجاعة من جيش الاحتلال الذي يَسندهم ويوفر لهم الغطاء الأمني والقانوني، ولا يتردد بفتح معركة لأجل فرض هيمنة المستوطن وسيادته على الشارع الذي يتشارك فيه مع العرب. في هذه المسيرة هاجم أحد المستوطنين الجماهير وحاول دهسها وسارع لإطلاق النار من مسدسه بشكل مباشر على المسيرة التي تحمل صور الأسرى وأعلام فلسطين. لقد كانت تلك الرصاصات قاتلة إذ صُوبت بشكل مباشر على الرأس فأدت لاستشهاد الشاب الفلسطيني معتز تاية 23 عاماً من بلدة بيتا، وجرح صحفي وأصيبَ آخرون، وهنا سارع الجيش للتدخل في المعركة وفتحَ نار جهنم مُطلقاً النار والقنابل تجاه الفلسطينين. في تلك الأحداث كان هناك مشهدٌ متداخل بين الواجب الوطني والإنساني.. حيثُ سارع سائق سيارة الإسعاف الفلسطينية لقطع الشارع بشكل عكسي مُلبياً نداء الناس لإسعاف الجرحى، في تلك الأثناء كانت سيارة أحد المستوطنين قد تقدمت بشكل سريع ملاحقةً الشبّان الفلسطينين لدهسهم. إلا أن حركة سائق الإسعاف العفوية منعت المستوطن من مواصلة جريمته والفرار. انتهت المسيرة والمواجهات بعد التدخل العسكري من قبل الجيش واستخدام الرصاص والغاز المسيل للدموع. ونقل المُصابون للمستشفى للعلاج وحملت الجماهير شهيدها وشيعته لمثواه الأخير. هذا المشهد ترتب عليه أمران مُهمان يُظهران بوضوح وجه الاحتلال البغيض وسياسته في التعامل مع الفلسطينين. ويزيل المُجملات التي يُصرُّ البعض على وضعها على وجه دولة الاحتلال كَي يراها شريكاً له في وَهم السلام. سارع المُستوطنون لتوزيع الحلوى على السيارت المارة من ذات الشارع ابتهاجاً بقتل الفلسطيني وإصابة آخرين. وُزّعَت الحلوى من قبل هؤلاء المُتطرفين أمام الجيش الذي وَفّرَ لهم الحماية والأمان، ولا عجب فهم يؤمنون بأن العربي الجيد هو العربي الذي مضى على موته أربعين عاماً. وكان هذا المشهد الذي تداولت صُوره وسائل التواصل الاجتماعي من أكثر المشاهد إغاظة للفلسطينين الذين يُجابهون عدواً قذراً بلا أدنى حد من الوازع الإنساني والأخلاقي. في هذه الليلة 19/5/2017 كان جيش الاحتلال قد اقتحم بلدة عقربا جنوب نابلس لاعتقال سائق سيارة الإسعاف الفلسطيني الذي كان حاضراً لحظة الحدث وشاهداً على الجريمة. وكان الاعتقال بحجة (نقله للمصابين ومشاركته بأعمال الشغب) كما زعم الناطق باسم جيش الاحتلال. ضابط الاسعاف الفلسطيني الذي تم اعتقاله هو ذاته ضابط الإسعاف الذي قام قبل شهر بإنقاذ حياة مستوطنين تعرضوا لحادث سير بالقرب من بلدته، حَيثُ سارع لإنقاذ حياتهم مُبرراً ذلك لمن انتقده بأنه يؤدي عمله الإنساني بعيداً عن الصراع وخلفياته. إن اعتقال ضابط الاسعاف الفلسطيني هو كشفٌ سافر للاحتلال عن وجه القذر، فالاحتلال يريد للفلسطينين أن يموتوا بصمت وأن يُقتلوا دونَ صُراخ، وإنَّ أي عَمل قد يُقلل من أضرار جرائمة وفداحة اعتداءاته سيكونُ عَملاً ارهابياً سيلاحق مُمارسه حتى لو كانت سيارة اسعاف تؤدي عملها الانساني بحياد. إن جيشاً يُكرم القتلة من المستوطنين ويتشارك معهم الحلوى ابتهاجاً بقتل الأبرياء العُزل ويُسارع لاعتقال المُسعف الذي يداوي جراح أبناء شعبه لن يكون شريكاً في عملية السلام، بل إن أبعد ما يسعى له ويؤمن به هو السلام. وسلامٌ على شعبي وأسراه كُل وقت وحين.