رغم مرور 69 عامًا على النكبة الفلسطينية، إلا أن مصطلح النكبة لايزال واقعا يعيشه كل فلسطيني يومًا بعد يوم، فلا تزال أسباب وقوع النكبة موجودة ومستمرة، ويأتي في مقدمتها الانقسام الداخلي، سواء كان في الأفكار أو الرؤى أو المصالح، الأمر الذي جعل معظم الفصائل الفلسطينية تنحي قضيتها المركزية جانبًا، بحثًا عن المزيد من السلطات والمكاسب السياسية، الأمر الذي يستغله الاحتلال كاملًا لتحقيق أهدافه التي يأتي في مقدمتها، تعميق الانقسام وشرذمة الأرض والشعب والمجتمع. فتح وحماس.. معارك تكسير العظام بدأ الانقسام الفلسطيني الداخلي في منتصف عام 2007، إثر سيطرة حركة حماس على الأوضاع في قطاع غزة، بعد جولات اقتتال داخلي مع القوات الموالية للسلطة الفلسطينية، وعلى مدار السنوات الماضية، فشلت عدة تفاهمات جرى التوصل إليها بين حركتي التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" التي يتزعمها الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، وحركة حماس المسؤولة عن الأوضاع في قطاع غزة، في وضع حد عملي للانقسام الفلسطيني، واستعادة الوحدة بين الضفة الغربية وقطاع غزة. الإجراءات والخطوات والتصريحات التي تخرج من قيادات الفصائل الفلسطينية البارزة، تجعلنا نعيش كل يوم نكبة جديدة، تارة تكون نكبة انقسام، وتارة أخرى نكبة تطبيع، لتصبح الأيام نموذجًا مصغرًا ليوم 15 مايو عام 1948، الموافق يوم النكبة الكبرى، لنتأكد أن الأيام تسير بفلسطين من سيئ إلى أسوأ، فقبل أسابيع من حلول الذكرى ال69 للنكبة، تبادلت حركتي فتح وحماس، اتخاذ مزيد من الإجراءات التي من شأنها تعميق الانقسام. في إطار اتهام "حماس" للسلطة الفلسطينية بإهمال قطاع غزة، وعدم تحمّل مسؤولياتها تجاه توفير حاجاته، اتخذت الحركة قرارًا بتشكيل لجنة حكومية لإدارة قطاع غزة، تتألف من سبعة أعضاء، ما دفع السلطة الفلسطينية في رام الله إلى اتهام حماس بتشكيل حكومة موازية لحكومة الوفاق التي يقودها رامي الحمد الله، وهو ما نفته حماس مؤكدة أنها لم تشكّل حكومة بديلة لحكومة الوفاق، وما جرى تشكيله لجنة إدارية حكومية فقط وليست حكومة، لتكون ناظمًا لعمل المؤسسات الحكومية. في المقابل، اتخذت السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس، مجزرة رواتب في قطاع غزة، حيث تفاجأ عشرات الآلاف من موظفي السلطة الفلسطينية بتطبيق وزارة المالية خصومات على رواتبهم المستحقة لشهر أبريل دون سابق إنذار، حيث شملت الخصومات العلاوة الوظيفية بنسبة 40% لجميع موظفي السلطة في قطاع غزة، وعلى الراتب الأساسي بنسبة خصم 30% لبعض الفئات، دون المساس بموظفي الضفة الغربية، وتذرعت السلطة حينها بأزمتها المالية، الأمر الذي أشعل الشارع الغزاوي متهمًا السلطة بالتمييز الممنهج وعدم المساواة. الخطوة الفتحاوية رغم أنها استهدفت الموظفين في قطاع غزة، إلا أنها استهدفت بشكل أكبر حركة حماس، حيث حاولت سلطات فتح تقليص الأموال الداخلة إلى غزة، الأمر الذي سيؤدي إلى تقويض اقتصادها الهش في الأساس، وتضييق الحصار عليها، ومفاقمة مشكلات القطاع، وبالتالي سيضع حماس المسؤولة عن القطاع في فوهة البركان الشعبي الغزاوي، لتواجه السكان المتضررين من الحصار المتفاقم. "الخطوات الحاسمة" التي توعد بها الرئيس الفلسطيني في مواجهة حماس خلال تواجده في واشنطن ولقائه مع نظيره الأمريكي دونالد ترامب، لم تتوقف عند مجزرة الرواتب، حيث أصدر عباس السبت الماضي، قرارًا يقضي بإعفاء المواطنين والمكلفين في المحافظات الجنوبية "قطاع غزة" من دفع الضرائب ورسوم الخدمات، مستخدمًا صلاحياته المكفولة دستوريًا بالحق في التشريع في حال غياب المجلس التشريعي، واستثنى القرار ضريبة الدخل على الشركات والأفراد، وعمليات الاستيراد للبضائع من الخارج وعمليات الشراء والبيع بموجب فواتير المقاصة، وضريبة الأملاك المترتبة على المباني المؤجرة للحكومة أو منظمة التحرير ومؤسساتها أو الهيئات العامة أو الأهلية والدولية، ورخص المهن للشركات المرخصة في المحافظات الجنوبية وتمارس عملًا في المحافظات الشمالية التي تعود جميعًا إلى خزانة السلطة الفلسطينية. قرار أبو مازن الذي جاء ليضرب حركة حماس في مقتل، يهدف إلى مناكفة الحركة سياسيًا وتجفيف مواردها المالية التي تجبيها من خلال فرض الضرائب والرسوم على مليوني فلسطيني في القطاع، الأمر الذي جعل "حماس" تنتفض ضد القرار، معتبرة إياه غير قانونيًا. حماس.. على نهج فتح تمضي بالنظر إلى وثيقة حماس الجديدة التي تم نشرها قبل أيام، نجد أنها تتجه قليلًا نحو مسار المفاوضات ونبذ الكفاح المسلح والتنازل عن بعض البنود التي من المفترض أن تكون من الثوابت الوطنية الفلسطينية لمواجهة العدو الصهيوني، حيث تقبل الوثيقة الجديدة لحركة حماس بفكرة الدولة الفلسطينية في الأراضي التي سيطرت عليها إسرائيل في عام 1967، لكنها ترفض فكرة إقامة دولة إسرائيل، معتبرة إياها "غير شرعية" وتدعو إلى تحرير فلسطين من نهرها إلى بحرها، وتؤكد الوثيقة على الحق الفلسطيني في كامل أراضي إسرائيل، وحق العودة لجميع اللاجئين، فيما تؤكد على أن حماس لا تحارب اليهود كديانة لكنها تحارب إسرائيل. الوثيقة الحمساوية الجديدة تذكرنا بوثيقة منظمة التحرير الفلسطينية، التي قدمت سلسلة من التنازلات بداية من موافقتها على إقامة دولة فلسطينية على أي أرض يتم تحريرها من العدو الصهيوني، ثم تطور الأمر إلى الاعتراف بقرار مجلس الأمن الدولي الذي يحصر الحق الفلسطيني في مناطق محتلة عام 1967، لتصل إلى توقيع اتفاقية أوسلو ثم نبذ العنف والكفاح المسلح والاتجاه إلى المفاوضات والاعتراف بإسرائيل، إلى أن صارت تنسق أمنيًا واستخباراتيًا مع الاحتلال. تشابه الوثيقتين وانسجام وثيقة "حماس" في مواقفها مع المواقف التي اتخذتها منظمة التحرير الفلسطينية قبل عقود، دفع مسؤولين في حركة فتح إلى مطالبة حماس بالاعتذار للحركة على اتهامها بالخيانة، حيث قال المتحدث باسم فتح، أسامة القواسمي، إن وثيقة حماس الجديدة هي وثيقة مطابقة لموقف منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1988، وطالب حماس بالاعتذار لمنظمة التحرير الفلسطينية بعد ثلاثين عامًا. بالنظر إلى الإجراءات العقابية التي يتبادلها شطري المجتمع الفلسطيني "فتح وحماس"، التي من المقرر أن تستمر وفق تهديدات الرئيس الفلسطيني، وبالتعمق في وثيقة حماس الجديدة ومقارنتها بمثيلتها في فتح، نجد أن المجتمع الفلسطيني يزداد انقسامًا ويتعمق الانفصال بين شطري الوطن، وأصبح مبدأ البحث عن المكاسب السياسية هو الأساس حتى إن كانت على حساب القضية المركزية والقضاء على كل الآفاق والآمال للخروج من هذا النفق المظلم، الأمر الذي يعني ضياع ما تبقى من الآمال الفلسطينية في مواجهة الخطط الصهيونية الرامية لطمس القضية.