منذ عام 1948، أصبح مايو شهر تجديد العهد والميثاق، الذي أعلنته كل النفوس الحرة الأبية ممزوجا بالدماء والتضحيات، وعلى مدار حوالي سبعة عقود، كانت كل نقطة دم تسيل فداءً لهذا الميثاق، تتحول بدورها لشجرة راسخة في الأرض، طارحة ثمارها جيلا جديدا تسيل دماؤه أيضا، فيطرح بدوره شجرا أكثر رسوخا وثباتا، في دورة حياة لموجود باقٍ اسمه "المقاومة" يستحيل عليه الانتهاء أو الفناء. لم ولن يكون الميثاق مكتوبا على أوراق أو معلنا في مؤتمر صحفي، ولم ولن يحتوي بنودا تحتمل التفسير والتأويل، ولم ولن يكون ميثاقا يهتم بالحسابات السياسية والاقتصادية والواقعية، بل تأسس على «الميعاد مع الله» الذي لا يخلف ميعاده أبدا؛ لأنه الحق والعدل الذي كتب على نفسه أن يمن على الذين استضعفوا في الأرض ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين. مر من وقعوا الميثاق بمراحل عديدة ومخاطر جسيمة كأنهم عاشوا الدهر كله، فالعارف بحالهم وثباتهم والتحديات التي واجهتهم والمخاطر التي اعترتهم عبر السنين يشعر بشيء من العجز حين يحاول إثبات أن كل هذه التجربة عمرها 69 عاما، لأنها بتفاصيلها وعجيب صنعها ووطأة الزمان عليها، تبدو وكأنها بالفعل قصة البشرية منذ فجر الخليقة. كانت النكبة والتهجير نقطة انطلاق وليست نهاية حزينة كما يتم تصويرها عمدا، نقطة انطلاق أدرك فيها أهل الميثاق أن شرور قرون عديدة سبقتهم قد تجمعت وكادت كيدها وسعت سعيها وأن لحظة المواجهة بدأت اليوم ولم تنته كما يظن هؤلاء الذين لا يفهمون الميثاق ولا يدركونه. نعم، كما بلغت مسيرة الظلم والاستكبار والطغيان كامل استعدادها في مايو 1948 وبلغت أيضا مسيرة المقاومة ونصرة المستضعفين والحق والعدل كامل نضجها واستعدادها في نفس الوقت والتاريخ، لذلك فإن أهل الميثاق يعلمون جيدا أن النكبة كانت بداية المعركة وليس نهايتها، فتراهم يشعرون بالدهشة كلما حدثهم أحد عن التنازل أو الرضا بالواقع، وكأن أعينهم تقول "وهل انتهت المعركة؟"، وترى لسانهم غير قادر على التعليق والشرح لأناس لم ولن يفهموا الميثاق الغليظ الذي وقعوا عليه بدمائهم. أصحاب الميثاق ليس لهم مسمى سياسي ولا يجتمعون تحت مظلة من مظلات الاستقطاب السياسي أو الأيدولوجي والمشروعات الإقليمية، بل ينتشرون في كل مكان وتحت رايات متعددة وفرادى وموجودون في كل ميدان قد يتيح لهم فرصة التوقيع بالدم، "سيماهم في وجوههم من أثر النضال"، نفوسهم منهم في تعب والناس منهم في راحة، لا يشغل بالهم سوى هم عظيم، أما هموم المشروعات والاستقطاب السياسي فهم عنها غافلون. يمر عليهم العام ال69 وهم يواجهون تحديات جسيمة وخطيرة وكأن لحظة الحسم باتت وشيكة، وأعد كل عدته وشحذ كل سلاحه وجهز كل راحلته وبوصلته، فإما نحن وإما أنتم. أشباه الرجال وسلاح الطعن من الظهر تأتي الذكرى هذا العام وقد انتشر في أرض المعركة التاريخية أشباه رجال؛ يشبهون الناس شكلا وكأنهم منهم وهم العدو إذا ما تم رفع الأقنعة، تجمعوا من شتى بقاع الأرض وليس لهم هم ولا طلب سوى "أهل الميثاق"، فرفعوا السلاح على أهل الحق لا العدو "ولما لا وهم العدو بذاته مقنعا"، وباتوا يحرقون الأخضر واليابس ويقتلون البشر والحجر، وبعد أن كان أهل الميثاق منذ أقل من عقد من الزمان على أبواب الجليل شمالا والنقب جنوبا، وتبدو القدس في الأفق على مرمى البصر، وضربوا العدو ضربات أفقدته اتزانه وأربكت حساباته وأعادت للأمة عزتها، جاءتهم الطعنة من الظهر من أخس البشر وأنذلهم وأكثرهم وحشية وهمجية، وبعد أن كان النداء "نحن على أبواب يافا وحيفا وأشدود وبئر السبع"، دخل عليهم العدو من الباب الخلفي عبر أشباه رجاله من المرتزقة التكفيريين في حلب وحمص ودرعا والجولان وسيناء وأرض العراق في خسة وندالة وخيانة لم يشهدها التاريخ من قبل. هي هي نفس المعركة يعرفها أهل الميثاق كما تعرفون أبناءكم. أنظمة تباع وتشترى بثمن بخس تأتي الذكرى أيضا هذا العام وقد بلغت الأنظمة العربية ما لم تبلغه في ال7 عقود من ضعف وهوان واستسلام، بين من ينفق مال الأرض وكنوزها ليحاصر أهل الميثاق ويشترى البلاد والعباد ويجند الجنود ويشتري السلاح ليقتل به أبناء جلدته ويزين بجماجمهم عرشه وصولجانه ويقدم أوراق اعتماده لدى الأمريكي ويسعى في الأرض فسادا وظلما، وبين من يحافظ على سلطته وكرسيه بأي ثمن وأي تنازلات حتى في الأرض والاستقلال الوطني، وبين من باع نفسه لهوى المشروعات الإقليمية التي تصنع على عين العدو في أنقرة واسطنبول والدوحة. تأتي الذكرى هذا العام وأغلب الأنظمة العربية تقدم أوراق اعتمادها لدى العدو وتسعى أكثر من العدو نفسه لتثبيت واقع الهزيمة، رغم أن المعركة لم تنته بعد والعدو نفسه يعلم أنها لم تنته بعد، يأتي مايو هذا العام والحكام العرب يحاصرون أهل الميثاق كأنهم هم العدو ويطلقون مبادرات السلام الدافئ والتطبيع والاستعداد للاعتراف بالكيان الإسرائيلي والسعي لتحقيق مخططاته في السيطرة على المنطقة بأسرها وتمدد نفوذه الجيوسياسي والإقليمي، ويركضون واحدا تلو الآخر على أبواب البيت الأبيض لنيل الرضا وأخذ البركة، ويطلقون حملاتهم لتشويه الشعب الفلسطيني والقضية برمتها. هي هي نفس المعركة يعرفها أهل الميثاق كما تعرفون أبناءكم. مسيرة لا تعرف العودة ولا الهوان تأتي الذكرى هذا العام وأهل الميثاق لا يستوحشون الطريق لقلة السالكين فيه، ويعرفون جيدا أن "كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم"، فيخرج أحدهم بسكين للطعن، والآخر بسيارة للدهس، وثالث بصاروخ من صنع محلي، ورابع يناضل حتى بجوعه داخل سجون العدو، وخامس وسادس بكل وسيلة وطريقة متاحة. أصحاب هذه المسيرة ليس لهم مسمى سوى "أهل الميثاق"، يعرفهم أهل السماء أكثر من أهل الأرض شباب وشيبة في بيوت فلسطين وحاراتها وشوارعها وقراها بين صفوف الفصائل والتنظيمات وخارجها، من العامة والخاصة، داخل فلسطين وحولها وبعيدا عنها، سائرون لن توقفهم التحديات ولا المخاطر حتى إن بدا عددهم قليلا إلا أن أثرهم كبير وعظيم، يفزعون العدو على ما يجمع من مال وعتاد وخونة. يعرفون جيدا أن الله لا يخلف الميعاد وأن موعدهم الصبح "أليس الصبح بقريب؟".