أولى خطوات علاج أي مرض ببساطة، أن يدرك المريض أنه مصاب بمرض ما، والمريض يدرك ذلك من إحساسه بألم ما في جزء من جسده، أو شعور عام بالإرهاق والضعف. تأتي بعد ذلك خطوة الذهاب إلى الطبيب لتشخيص المرض، ثم إجراء الفحوصات الطبية المطلوبة إذا لزم الأمر، ثم تناول الدواء المناسب حتى يتحقق الشفاء، أو إجراء عملية جراحية لاستئصال مصدر الألم، لكن تظل كل تلك الخطوات قيد رهن أن يدرك المريض نفسه أنه مريض. ولكل مرض أعراض، وإذا عالجت العرض ولم تعالج المرض، قد تنتهي حياة الإنسان وبعض الأمراض تتشابه في الأعراض، فالصداع وارتفاع درجة الحرارة من أعراض مرض الأنفلونزا، وهي أيضًا من أعراض مرض التهاب غشاء المخ، وإذا عالجت المرض الأخير بأنه مجرد أنفلونزا أو نزلة برد بسيطة، قضيت على المريض بالفناء، وأظن أن ما ينطبق على الأفراد ينطبق أيضًا على الشعوب. نحن كشعوب عربية وإسلامية لا ندرك أننا شعوب مريضة، أو في أفضل الأحوال ندرك أننا مرضى، ولكن نشخص دائمًا مرضنا بالخطأ. ندرك أننا متخلفون ولكن نشخص تخلفنا بالخطأ، نتصور أن سبب تخلفنا يرجع إلى الاستعمار أو الاستبداد أو مؤامرات الغرب ضدنا، ولا ندرك أن تلك الظواهر ليست أسباب المرض وإنما أعراضه. فالاستعمار كان نتيجة لتخلفنا وضعفنا وتفرقنا، إذ لو كنا شعوب متقدمة ما كان لدولة أوروبية أو غير أوروبية أن تستعمرنا. والاستبداد أيضًا نتيجة لتخلفنا وتخاذلنا ورغبتنا الدفينة في تأليه حكامنا على مدى التاريخ، ومؤمرات الغرب ضدنا ما كان لها أن تنجح في كسر إرادتنا وإضعاف قدرتنا، لو لم نكن متخلفين بالفعل عن الغرب حضاريًّا، ثم إن جميع دول العالم معرضة لمؤمرات من الدول الكبرى، وهذه هي طبيعة السياسة الدولية القائمة على المصالح، فلماذا تنجح مؤمراتهم ضدنا نحن فقط، ولا تنجح ضد الشعوب الأخرى؟ إذن مرضنا الحقيقي هو التخلف، ولكي نشفى من هذا المرض المزمن اللعين لابد أن نعرف أولًا سبب تخلفنا أو لماذا تخلفنا؟ والجواب بسيط وواضح، لا نحتاج للوصول إليه إلى بحث طويل، وإنما نحتاج فقط لقدر من الشجاعة، نتغلب به على الخوف الكامن في قلوبنا لننطق بالحق، لقد تخلفنا منذ قرون بعيدة، حين خاصمنا العقل وتنكرنا له واستسلمنا لسلطة النصوص وسلطة قراء النصوص الذين فرضوا علينا ما فرض عليهم في عصرهم، وما وجدوه متفقًا مع مصالحهم ومصالح الحكام الذين يعملون في خدمتهم، فنحن لم نترك مناسبة نتنكر فيها للعقل ونخضع للاستبداد إلَّا وفعلنا، ولندع التاريخ يتكلم. في الصراع الذي دار بين المعتزلة «أنصار العقل» وبين أهل السنة «أنصار النقل»، انحزنا لأنصار النقل وتخلينا عن حقنا في أن نفكر وأن نختار، والمعتزلة فرقة إسلامية ظهرت في القرن الثامن الميلادي، وتنتسب إلى واصل بن عطاء، وسميت بالمعتزلة لاعتزال مؤسسها مجلس الحسن البصري، بعد خلاف معه حول حكم الفاسق، إذ اعتقد واصل بن عطاء أن الفاسق في الدنيا لا يسمى مؤمنًا ولا يسمى كافرًا، بل هو فى منزلة بين هاتين المنزلتين، فإن تاب رجع إلى إيمانه، وإن مات مصرًّا على فسقه كان من المخلدين في عذاب جهنم. وكانت فلسفة المعتزلة تتركز على أن الإنسان مخير ويتمتع بالإرادة الحرة؛ لأنه يمتلك العقل الذي بواسطته يستطيع التمييز بين الخير والشر، وبين العدل والظلم، ولذلك فهو مسؤول عن نتائج أعماله وفق الآية الكريمة: «فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًّا يره»، وكان الخليفة العباسي المأمون محبًّا للفلسفة ومن أنصار العقل، ولذلك ازدهرت الثقافة في عصره، وأسس بيت الحكمة في بغداد، وشجع ترجمة الكتب من مختلف الثقافات، وأيد المعتزلة ودعم حركتهم، وأسند لهم المناصب وخاصة في القضاء. واعتمد المعتزلة على العقل فيما سكتت عنه النصوص الدينية، بدلًا من الاعتماد على ما نقل إليهم من السلف من أحاديث نسبت إلى الرسول، وأغلبها في رأي بعض الفقهاء مشكوك في صحتها، فمثلًا الإمام أبو حنفية النعمان «مؤسس المذهب الحنفي» لم يأخذ من الأحاديث النبوية سوى سبعة عشر حديثًا فقط، ورفض الباقي. ومن هنا بدأ الصراع بين المعتزلة وأهل السنة الذين يعتمدون على ما نقل إليهم من السلف بغض النظر عن تعارض المنقول مع العقل. وتصاعد الصراع بين المعتزلة وأهل السنة عندما انشق أبو الحسن الأشعري عن المعتزلة في القرن التاسع الميلادي، وأسس المذهب المعروف باسمه، وأصبح المنظر الأول لفكر أهل السنة. وقد غيَّر الأشعري موقفه من المعتزلة بعد أن رأى النبي في المنام ثلاث مرات، معاتبًا إياه في المرتين الأولى والثانية على تخليه عن أحاديثه، وأمره بالدفاع عن سنته، ولما عمل الأشعري بما أمره النبي، جاءه في المرة الثالثة وطالبه بالدفاع عن أحاديثه مع الالتزام بالعقلانية. لذلك أقام الأشعرى مذهبًا وسطًا جمع بين منهج المعتزلة العقلاني والفكر السني المعتمد على الحديث. وبلغ الصراع أشده في عهد الخليفة العباسي المتوكل، الذي اضطهد المعتزلة وطاردهم، وقتل عددًا كبيرًا منهم، كما أحرق مؤلفاتهم، ولم يبق منها سوى القليل، فمثلًا الجاحظ، وكان من المعتزلة وألف نحو مائة كتاب، أكثرها في الفقه الإسلامي من منظور المعتزلة، أحرقت معظم كتبه ولم يترك منها إلَّا تلك التي لم تتعرض للدين، مثل: البيان والتبيين، والحيوان، والبخلاء. وكانت تلك الحملة الشعواء ضد المعتزلة بداية التخلف الفكري والحضاري، وضعف الدولة العباسية، والتمهيد لسقوطها على يد المغول لاحقًا. وفي القرن الحادي عشر الميلادي، جاء الإمام أبو حامد الغزالي، فشن حربًاعنيفة ضد العقل والفلسفة، وألف كتابًا بعنوان «تهافت الفلاسفة» لهذا الغرض. رغم أن الغزالي نفسه كان مفكرًا وفيلسوفًا، واسع الاطلاع على الفلسفة اليونانية، إلى جانب ثقافته الإسلامية الواسعة، حتى لقبوه بحجة الإسلام. ولذلك كان لانقلابه على العقل تأثير مدمر على الفكر الإسلامي. ومنذ ذلك الوقت فرض الغزالي الحجاب على عقل المسلم. فالعقل عند الغزالي هو العدو الأول للدين، ويجب على المسلم أن يُسلم بكل ما جاء من السلف الصالح من تفسير للنصوص بدون نقاش. ثم جاء ابن تيمية، وهو أحد كبار فقهاء أهل السنة من المذهب الحنبلي المتشدد، وأطلق مقولته الشهيرة: «من تمنطق فقد تزندق». وهكذا أغلق فقهاء أهل السنة باب الاجتهاد، وقالوا إن السلف لم يتركوا لنا شيئًا إلَّا ووضعوا له تفسيرًا، وأن أي تفسير جديد للشريعة غير مقبول، فما كان صحيحًا في عصرهم هو صحيح في كل زمان ومكان. وفي القرن الثاني عشر الميلادي، ظهر ابن رشد في الأندلس، وكان فيلسوفًا مستنيرًا، ترجم بعض أعمال أرسطو إلى العربية، إضافة إلى مؤلفاته الغزيرة، فحاول أن يرد الاعتبار إلى العقل والفلسفة، ورد على كتاب الغزالى «تهافت الفلاسفة» بكتاب «تهافت التهافت». وواصل ابن رشد الطريق الذي بدأه المعتزلة وسار خطوة أبعد إلى الأمام، حيث لم يكتف بالرجوع إلى العقل فيما سكتت عنه النصوص، وإنما جعل العقل مرجعه في فهم النصوص ذاتها. إذا وجد فى النص ما لا يتفق مع العقل لجأ إلى تأويل النص ليصبح معقولًا. ونحن في التأويل لا نقف عند المعنى الظاهر؛ لأن اللغة ظاهر وباطن، وحمالة أوجه نميز بينها بالعقل، وهو الميزان الذي زودنا الله به لنعرف الخير والشر ونفرق بين الحق والباطل. ولكن كما تنكرنا في القرن التاسع الميلادي للمعتزلة تنكرنا في القرن الثاني عشر لابن رشد، فقد ثار فقهاء قرطبة على ابن رشد وحرضوا الناس عليه، يرمونه بالكفر والإلحاد ويتهمون الحكام بحمايته، مما دفع هؤلاء للتضحية بابن رشد ونفيه خارج البلاد، وجمعت مؤلفاته «أكثر من مائة كتاب» في ساحة المدينة وأشعلت فيها النيران. وهكذا انتصر الأشعري والغزالي على المعتزلة وابن رشد، وانتصر النقل على العقل. وتلك كانت نهاية عهدنا بالعقل الذي هاجر إلى أوربا واستوطن اللغة اللاتينية بعد أن نفاه المسلمون من اللغة العربية. حيث ترجم الأوروبيون مؤلفات ابن رشد التي كانت عاملًا مهمًّا من عدة عوامل بعثت في الأوربيين روحًا جديدة استعادوا بها إيمانهم بالعقل والعلم والتقدم، ودخلوا عصرًا جديدًا، تأسس على احترام العقل والرجوع إليه، وعلى اكتشاف الطبيعة وتسخيرها لخدمة الانسان، وعلى الفصل بين الدين والدولة، وعلى الإيمان بالديموقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان. هكذا خرج الأوروبيون من عصور الظلام ودخلوا العصور الحديثة، على حين تخلفنا نحن وتأخرنا عن ركب الحضارة، وظللنا نجتر الماضي ونعيده ونقلد أسوأ ما فيه؛ لأننا تنكرنا للعقل واستسلمنا للطغيان. والمؤسف أن العقل العربي الإسلامي لم يتعاف من هذا التخلف إلى الآن، فالتنظيمات الإرهابية المعاصرة مثل داعش، والقاعدة، وبيت المقدس، وحركة طالبان، وجماعة بوكو حرام، وغيرها، ليست إلَّا إحدى ثمار هذا التخلف الذى بدأ على يد الأشعري فكريًّا والمتوكل سياسيًّا منذ اثني عشر قرنًا من الزمان.