على فراش قرطبة الأملس في ظاهره، المدجج بأسنة الويلات الفكرية في باطنه، كان مولد المفكر ابن رشد، ذلك الطفل الذي ولد لعائلة ذات نسب عريق بالأندلس، تمتد فروعها إلى كل حدب وصوب ويرتفع شأنها الاجتماعى لصفوف القضاة والفقهاء الذين رافقوا الحكام وعايشوا تخبطات السلطة. اثنان وسبعون عامًا هي العمر الذي أفرط عقده ابن رشد في بلاط الفكر والفلسفة، حيث ولد عام 1126 م وتوفى في 1198 م، فكان شاهدًا على مسيرة الدولة الأندلسية نحو الانحطاط، وسط جملة من التطورات السياسية والاجتماعية التي صبغت عمله الفكرى والفلسفي، وعالم تتغلب فيه النزعات المحلية، لتنعكس فيه صراعات القوى المقربة والبعيدة على مراكز القرار، إضافة إلى علاقة يشوبها المد مع الخليفة ابن يعقوب، والجزر بينه وبين الخليفة المنصور. التقوى والورع، اللذين تحلى بهما الخليفة ابن يعقوب، كانا سببًا رئيسيًا في الصلة الجيدة التي نشأت بينه وبين ابن رشد، حيث عرف ابن يعقوب عن سائر أقرانه من حكّام الأندلس بحبه إلى التفقه في أمور الدين والرحابة في النظر إلى علومه من ناحية، والسعى الدؤوب للاطلاع على الحكمة والفلسفة وكسب المعارف فيهما وانفتاحه على العاملين في هذا الميدان بل احتضانهم وحمايتهم، من جهة أخرى، الأمر الذي أعطى أبن رشد طرفى البساط لتكوين فكره وفلسفته التي جلبت عليه الويلات فيما بعد. لم يبق بساط الازدهار ممدودًا لابن رشد طويلا، فبعد وفاة الخليفة أبى يعقوب وتولّى ولده المنصور السلطة، انقلبت الأمور في الأندلس فيما يخص موقع الفلسفة والعاملين في مجالها، واشتداد نفوذ الفقهاء المحدثين الذين استفادوا من علاقتهم بالسلطة لتصفية الحساب مع "أهل الرأي"، لإضعاف نفوذ الفلاسفة والمفكرين، وتقليص شعبيتهم عند الناس، فصار رمى تهم "الهرطقة والكفر" هي الذريعة التي يتخذها هؤلاء لتحقيق مساعيهم. لم ينج ابن رشد من هجمات التكفير التي طالت غيره، خاصة أنه كان شوكة في حلق الكثيرين منهم لكونه قاضى القضاة في قرطبة، لذا تطلب إقصاءه والنيل منه، جهد كبير من أصحاب الوشايات الذين كانوا يفترشون من أذن المنصور مكانًا رحبًا لتلقى كلامهم الذي كان يرمى لخروج ابن رشد عن صحيح الدين بفلسفته التي تضر هيبة الدولة – على حسب أقوالهم – وتشكك العامة في دينهم، ويذكر المفكر ابن عبد الملك المراكشى في كتابه "الذيل والتكملة" أن المنصور تريث في حكمه على ابن رشد في البداية؛ ثم عقد مجلسًا استدعى إليه فقهاءه وقضاته للبت في أمره، وأمر طلبة مجلسه وفقهاء دولته بالحضور بجامع المسلمين وتعريف الملأ بأن ابن رشد مرق من الدين، وأنه استوجب لعنة الضالين. أسباب تكفيره استندت تأويلات تكفير ابن رشد إلى عدد من الأسباب التي قلبت العامة والخاصة عليه، والتي تتعدد في: "خلافه مع الغزالي، الفتوى الشرعية بضرورة الفلسفة، دعواه لتصحيح العقيدة وعدم تحريفها، ميوله الأرسطية"، وعلى الرغم من إيضاح تلك الأسباب، إلا أن هناك أسئلة كثيرة تدور حول الأسباب الحقيقية لتكفير ابن رشد وما إذا كان السبب يقتصر على آرائه الدينية والفلسفية أم تتصل بآرائه في السلطة السياسية وموقفه السلبى من الاستبداد السائد وحملته على المحيطين بالخليفة. الغزالي تتفق الأبحاث والدراسات التي تمحورت حول ابن رشد، على أن خلافه الفكرى مع الإمام الغزالى كان أشد الأسباب فتكًا به، حيث قاوم ابن رشد فكر الغزالى المتشدد نحو النظريات المحافظة والسائدة في تأويل النصوص الدينية في كتابه "تهافت الفلاسفة" والذي عمد فيه الغزالى إلى تكفير كبار الفلاسفة الأوائل واتهامهم بالزندقة، وكان كتاب "تهافت التهافت" لابن رشد بمثابة رد على كتاب الغزالي، ليعيد فيه مكانة الفلاسفة الأوائل، من خلال سجال فكرى حاد مع الغزالى والأشاعرة الذين يمثلون حارسًا للنظريات المحافظة. يؤكد الكاتب خالد غزال في دراسته عن ابن رشد، أن قضية التأويل لم تكن القضية الرئيسية حول خلاف الغزالى ورشد، فوراء ستار هذه المناظرة تتضح إشكالية "التعدّدية وحق الاختلاف"، فالقبول بمنطق التأويل هو قبول بالخلاف في الرأى والسماح بتعدّد وجهات النظر في قراءة النص الدينيّ، وهو أمر رفضه الغزالي، وكان ابن رشد من الأوائل الذين أدركوا أهمية الاختلاف وحق التعدد في التعبير عنه، إلا أن زمنه السياسي والاجتماعى وهيمنة الفقهاء التقليديين جعلت مفاهيمه هذه غريبة لا أرض جاهزة لتنبت فيها. تحريف الشريعة أما كتابه "الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة" و"تصحيح العقيدة" ففيهما يعبر ابن رشد عن استيائه وغضبه من العلماء الذين ألبسوا أنفسهم ثوب القدسية التامة، مشيرًا إلى أن الشريعة أصيبت بالتحريف واعتقادات باطلة وإدخال الأهواء الفاسدة عليها بما منع تبيان جوهرها الحقيقى الروحيّ والإنساني، وتحريم الاجتهاد، داعيًا صراحة إلى فتح باب هذا الاجتهاد أمام "الخواص" من العلماء المؤهلين للقيام بهذه المهمة، فيقول في كتاب "تصحيح العقيدة": "التأويل الحق لا يوجد لا في مذاهب الأشعرية ولا في مذاهب المعتزلة، أعنى أن تأويلهم لايقبل النصرة ولايتضمن التنبيه على الحق ولاهى حق، ولهذا كثرت البدع، ونشأت فرق الإسلام حتى كفر بعضهم بعضا وبدع بعضهم بعضا وبخاصة الفاسدة منها، فأولت المعتزلة آيات كثيرة، وصرحوا بتأويلهم للجمهور، وكذلك فعلت الأشعرية، فأوقعوا الناس من قبل ذلك في شنآن وتباغض وحروب وفرقوا الناس كل التفريق". رشد وسقراط أبرز أسباب اتهام بالكفر، هو ميله لفكر الفيلسوف أرسطو، والذي كفره الفقهاء من قبله، وكان يميل ابن رشد لمؤلفات أرسطو لأنه لم يجد أفضل منها لتقديم قراءة توفق بين ما يقدمه العقل من مفاهيم وتصورات، وبين ما يأتى به الوحى من عقائد وشرائع تحمل في جوهرها وظاهرها ما يتعارض مع تفسيرات العقل، وهو ما فتح الباب لمسألة التأويل، ورأى ابن رشد أنه لا بد عن إعمال العقل في تقديم النص الدينى كوسيلة لإقناع الجمهور به، وشكلت دراسات ابن رشد وتعليقاته على كتب أرسطو فيما بعد مرجعا أساسيا للفلاسفة الأوروبيين في العصر الوسيط. "العلمانية" على الرغم من المحاولات التي بذلها ابن رشد للتوفيق بين الدين والفلسفة، أي بين الحكمة والشريعة، إلا أن أفكاره كانت ولا تزال موضع رفض من التيارات التقليدية، ويؤكد الكاتب خالد غزال في دراسته عن ابن رشد أن تلك التيارات تعتبر دعوة ابن رشد لتحكيم العقل أوصلت عمليا إلى دعوة لفصل الشريعة عن الحكمة، وهو أمر يعنى بالمفهوم السياسي الحديث فصلا للدين عن السياسة وبالتالى دعوة لإحلال "العلمانية" القائمة على هذا الفصل والمستندة إلى العقلانية في قراءة وتحكيم النظر إلى مختلف الأمور. نفى ومحاكمة ذاق ابن رشد الويلات والتشريد نتيجة لأفكاره ومؤلفاته، حيث تألب الخليفة المنصور عليه، وأمر بإحراق كتبه ونفيه إلى قرية لا يسكنها غير اليهود، في إشارة من جلاديه إلى أنه ليس من المسلمين، وأن نسبه يعود إلى بنى إسرائيل ولايُعرف له نسب في قبائل الأندلس، ليبلغ به التشنيع إلى منتهاه وصولا إلى تصويره في ثوب من لا علاقة له بالملة، كما أصدر المنصور منشورا تمت قراءته على الملأ، يعدد فيه اتهامات ابن رشد وجرائمه، وقد غلبت على المنشور النزعة التحريضية، وسيطرت عليه الاتهامات المختلفة الموجهة لابن رشد وجماعته، حيث تم تصنيف ضرر ابن رشد بأنه بالغ وشديد الخطورة. ورافقت محاكمة ابن رشد حملة دعائية ضخمة للإشارة إلى كتب ابن رشد وأمثاله هي سبب بلائهم، ويذكر كتاب "عيون الأنباء" أنه سرت في الأندلس حملة شاملة لاستئصال الفلسفة وكان المنصور قد قصد ألا يترك شيئًا من كتب المنطق والحكمة باقيًا في بلاده وأباد كثيرًا منها بإحراقها بالنار وشدد على أنه لن يبقى أحد يشتغل بشيء منها وأنه متى وجد أحد ينظر في هذا العلم أو وجد عنده شيء من الكتب المصنفة فيه فإنه سيلحقه ضرر عظيم.. ورغم كل ذلك لايزال فكر ابن رشد باقيًا.. أما مكفروه فلا ذكرى لهم.