يعتبر القمص سيرجيوس مثالًا حقيقيًّا للمعنى الحرفي لكلمة الوحدة الوطنية، ذلك المصطلح الذي دأب الجميع على ترديده دون معنى حقيقي له، حيث حمل سيرجيوس على عاتقه إضفاء قيمة له بمشاركته في ثورة 1919 وصعوده على منبر الأزهر للمرة الأولى؛ لحشد الجماهير المصرية ضد المستعمر الإنجليزي، الذي اعتبره أحد العناصر الخطرة على إرساء دعائمه في مصر، فلم يجد أمامه إلا التضييق عليه ونفيه خارج القاهرة، إلا أن محاولاته باءت بالفشل، وظل سيرجيوس مثالًا حيًّا لوحدة المصريين. كان القمص سيرجيوس المولود في جرجا بمحافظة سوهاج عام 1882 يحمل بداخله الطابع الثوري دائمًا منذ أن وطئت قدماه أرض الوطن، ففي سنة 1903 قاد إضراب الطلبة فى كلية اللاهوت؛ بسبب خفض الوجبات عن الطلبة، فتم فصله وهو المدرس فى الكلية، وحاول بشتى الطرق التركيز على قضية الوحدة الوطنية بين قطبي مصر المسلمين والمسيحين، خصوصًا وأن نشاطه الثوري ظهر في فترة ثورة 1919 وما تبعها من محاولات الإنجليز شق الصف الوطني؛ للسيطرة على الثورة المصرية. وخلال الفترة التي عمل فيها القمص سرجيوس وكيلًا للمطرانية القبطية بالسودان (1912- 1915م)، لعب دورًا محوريًّا مع نظائره من العلماء المصريين؛ لتخطي أزمة اغتيال بطرس باشا غالي رئيس الوزراء (1908 1910م)، خصوصًا وأن تلك الفترة شهدت انشقاق المسلمين والمسيحيين بشكل كبير، الأمر الذي ظهر بوضوح في انعقاد المؤتمر القبطي بأسيوط والمؤتمر المصري "الإسلامي" بضاحية مصر الجديدة سنة 1911م. وخلال هذه المرحلة أصدر القمص مجلة "المنارة المرقسية"، تلك المجلة التي اتخذها منصة لبث أفكاره التي حاول من خلالها أن يصلح اعوجاج الكنيسة بشكل خاص والأمة بشكل عام، الأمر الذي أشعل غضب الكنسية والإنجليز، الذين قرروا عودته إلى مصر بشكل سريع؛ ليعقد له مجلس إكليريكي بالقاهرة، وجه له خلاله عدة اتهامات، منها الطعن والتحقير والتشهير بالآباء والمطارنة، لكن الأمر تم تداركه بسرعة، وعاد إلى السودان من جديد، ولم يكف عن طبيعته الثورية، فقرر الإنجليز من جديد إيقاف مجلته وعودته إلى القاهرة، خصوصًا وأن المنطقة وقتها كانت على مشارف الحرب العالمية الأولى. خلال ثورة 1919 برز دور «سيرجيوس» بشكل لافت للنظر، حتى أطلق عليه لقب «خطيب الثورة» بعد اعتلائه منبر الأزهر الشريف وخطبته في المصريين، داعيًا إياهم إلى استمرار مواجهة الانجليز ودعم سعد زغلول، وذلك لمدة 3 شهور متتالية، كان يخطب خلالها بالأزهر وجامع ابن طولون، فلم تجد السلطات الإنجليزية طريقة للتخلص منها إلا نفيه إلى سيناء؛ للحد من خطورته، وهناك لم تقل نبرته الثورية، فقد دأب على كتابة خطابات منددة باحتلال الإنجليز لمصر، وإرسالها إلى المندوب السامي البريطاني. الدكتور محمد عفيفي، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب جامعة القاهرة، ذكر في كتابه «الدين والسياسة في مصر المعاصرة: القمص سرجيوس» أن القمص دائب على روح الدعابة في مخاطبته للمصريين، نظرًا لمعرفته بقدرة هذا الأسلوب السحري على إقناع الشعب، فقدر روي أنه أثناء إحدى المظاهرات بميدان الأوبرا ضد الإنجليز خلال أحداث ثورة 19 هتف قائلًا: «يحيا الإنجليز». استغرب الجميع سلوكه، لكنه أصر أنه لن يكمل حديثه إلا بعد أن تردد الجماهير هتافه، وبالفعل حدث، فما كان منه إلا أن أكمل حديثه قائلًا: «نعم يحيا الإنجليز، لأنهم استطاعوا بظلمهم واستبدادهم وفجاجتهم أن يجعلوا منا هذه الكتلة الموحدة المقدسة الملتهبة». ومن المواقف التي تدل على شجاعته أيضًا أنه اثناء إحدى التظاهرات تقدم نحوه جندي إنجليزي مشهرًا مسدسه في وجهه، فهتف المشاركون في المظاهرة: «حاسب يا أبونا، حايموتك»، فما كان منه إلا أن رد في هدوء: «ومتى كنا نحن المصريين نخاف الموت؟ دعوه يُريق دمائي لتروي أرض وطني التي ارتوت بدماء آلاف الشهداء، دعوه يقتُلني ليشهد العالم كيف يعتدي الإنجليز على رجال الدين»، وأمام هذا الثبات تراجع الجندي عن قتله. عاد القمص سيرجيوس إلى إصدار مجلة «المنارة المقدسية» عام 1928، وفي عام 1935 غير اسمها إلى «المنارة المصرية»، وظل على طابعه الثوري حتى رحل عن دنيانا في 5 سبتمبر سنة 1964 عن عمر ناهز 81 عامًا، وتقديرًا لدوره الوطني أطلقت الدولة اسمه على أحد شوارع مصر الجديدة بالقاهرة.