تكررت خلال الأيام الماضية، أخبار من نوعية طرح أسهم شركات من القطاع العام في البورصة, لتكون صيغة أخرى للخصخصة، التي أصبح اسمها ثقيلاً على الشارع المصري نتيجة ما خلفته من تدهور للاقتصاد في العقود الماضية, فقررت الحكومة الحالية تغيير الاسم فقط دون السياسات. وقبل الحديث عن نتائج الخصخصة التي أدت إلى الوضع الاقتصادي الحالي, يجب أن نتعرف عليها ومن أين جاءت, «عملية انتقال الملكية والإدارة التشغيلية للمؤسسات المملوكة للدولة إلي القطاع الخاص إما جزئيا أو كليًا»، وهذا تعريف الخصخصة الذي اتفق عليه الجميع حول العالم. عرف العالم الخصخصة وبدأت تجتاحه خلال النصف الثاني من العقد التاسع من القرن العشرين, وكانت البداية مع إنجلترا ثم تبعتها دول أخرى كفرنسا وإيطاليا وإسبانيا وكندا, وانتقلت الموجة إلى الدول النامية مثل الأرجنتين والبرازيل وشيلي وبنجلادش وباكستان وتركيا ونيجيريا ومصر. كما أن الدول الاشتراكية في السابق، أخذت خطوات نحو تبني برامج الخصخصة مثل الاتحاد السوفيتي وجمهوريتي التشيك والسلوفاك وبولندا والمجر، وظهر هذا الاتجاه نتيجة للشروط التي وضعها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي أثناء التمهيد لعملية إعادة جدولة ديونها، طبقا للقواعد المعروفة لنادي باريس ونادي لندن. أزهى العصور الاقتصادية لمصر في مصر وبعد ثورة 23 يوليو 1952, نفذ الرئيس جمال عبد الناصر حزمة من الإجراءات الاقتصادية, أوقف فيها إجراءات الخصخصة, وبدأ في تبني منهج التأميم, وبناء المصانع والشركات التي مازالت الحكومات المتعاقبة حتى اليوم تتنازل عنهم للقطاع الخاص. اعتمد عبد الناصر في مشروعه على الصناعة والزراعة حتى وصل إلى الاكتفاء الذاتي لجميع المحاصيل عدا القمح، الذي حقق وقتها 80 % من احتياجات المصريين, واستمر معدل النمو في الارتفاع ولم يتأثر بالنكسة. قضى عبد الناصر على البطالة بشكل كبير بفضل الخطة التي انتهجها في بناء المصانع الكبيرة التي تسد احتياجات مصر, بدأ الأمر بصناعات الحديد والصلب، وشركات الأسمدة للمشاركة في النهضة الزراعي, ومصانع عربات السكك الحديدية سيماف, والكابلات الكهربائية, بتمويل ذاتي، دون الحصول على قروض أجنبية أو معونات. لم يستغرق عبد الناصر وقتا طويلا لاتخاذ هذه الإجراءات, فكان أول إصلاحاته بعد شهرين من اندلاع الثورة, وكانت النتيجة انخفاض نسبة الأمية من 80% قبل 1952 إلى 50% عام 1970 بفضل مجانية التعليم, ومجانية التأمين الصحي والاجتماعي والمعاشات لكل مواطن, وكان الجنيه يساوى ثلاثة دولارات ونصف، ويساوى أربعة عشر ريالا سعوديا بأسعار البنك المركزي المصري, وبلغ سعر الجنيه الذهب 4 جنيهات. ما بعد عبد الناصر عادت الدولة إلى الخصخصة في منتصف السبعينات مع بداية التحول الاقتصادي والخضوع لبرامج التثبيت الهيكلي، وظلت الخصخصة تتم ببطء حتى بعد تولي الرئيس مبارك للحكم, لكن دخلت الخصخصة مرحلة جديدة في التنفيذ منذ عام 1991 بصدور القانون رقم 203 لسنة 1991 بشان شركات قطاع الأعمال العام. وأكدت دراسة للباحث الاقتصادي إلهامي الميرغني، أن بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المنشورة نقلا عن وزارة المالية, توضح أنه بين عامي 1991 و2009 تم بيع 407 شركات قطاع أعمال عام، وبلغت حصيلة البيع أكثر من 57.3 مليار دولار, 9% منها تم في عهد وزارة الدكتور عاطف صدقي، و21% في عهد وزارة الدكتور كمال الجنزوري، و21.6% في عهد عاطف عبيد، و48.4% في وزارة الدكتور أحمد نظيف. ولم يتم الشروع في بيع المشروعات المشتركة إلا بعد عام 2000 في عهد وزارة الدكتور عاطف عبيد، وبلغ قمته في عهد حكومة نظيف، التي باعت 76.7% من المشروعات المملوكة ملكية مشتركة, ونتج عنها إحالة أكثر من 500 ألف عامل إلى المعاش المبكر. لم يتوقف قطار الخصخصة عند الشركات العامة، بل امتد للهيئات العامة التي خرجت من الموازنة العامة للدولة، وتحول بعضها إلى شركات مثل الاتصالات والمياه والصرف الصحي والكهرباء والنقل العام والسكك الحديدية ومصر للطيران تمهيدا لبيعها, وتبعها قطاعي التعليم والصحة حيث انتشرت المدارس الخاصة حتى مطلع الألفية ثم الجامعات الخاصة وكذلك التوسع في العلاج الاقتصادي والمستشفيات الخاصة بحيث امتد مفهوم الخصخصة ليشمل كل القطاعات الاقتصادية. ويؤكد الدكتور رائد سلامة، الخبير الاقتصادي، أن الخصخصة بدأت في المنطقة العربية مع انهيار الاتحاد السوفيتي، لكنها لم تأخذ الشكل الفج إلا في منتصف تسعينات القرن الماضي؛ حيث بدأ عرابو الجيل الجديد من الليبراليين الذين يؤمنون بمبادئ وآليات السوق وانسحاب الدولة التام من أي نشاط اجتماعي واقتصادي في الترويج للخصخصة ورفع الدعم وخفض الإنفاق العام وتحرير الأسعار وتعويم العملة وكلها أمور وجدت طريقها للتنفيذ الفعلي في عهد مبارك على يد يوسف بطرس غالي ومحمود محي الدين. نتائج الخصخصة وبالحديث عن الخصخصة لا يمكن تجاهل تباعتها على المواطنين، فمع انطلاق أول شرارة للتخلي على القطاع العام ومع صدور قانون 203 لسنة 1991, ارتفعت أسعار الكهرباء بدءا من مايو عام 1990، وفي 28 يونيو 1992، وصلت أسعار الكهرباء في مصر إلي 80% من الأسعار العالمية, دون زيادة في الأجور, كما تم تغيير شرائح الاستهلاك، مع توالي انقطاع التيار الكهربائي خاصة في فصل الصيف. وعلى مستوى قطاع النقل، تم رفع تذاكر السفر بالسكك الحديدية ما بين 15% إلى 40% عام 1991، ثم 15% أخرى عام 1993، وتوالت الزيادات, وفي قطاع الاتصالات، رفعت قيمة التعاقد على الهاتف الثابت من 650 جنيها إلى 850 ، واشتراك الخدمة الشهري تضاعف من 4 جنيهات إلى 8، وتم تقليل فترة المحاسبة من 6 أشهر إلى 3، كما تم تخفيض المكالمات المجانية الشهرية من 125 دقيقة إلى 55 دقيقة, و عام 1996 تم رفع قيمة الاشتراك الشهري 25% وتخفيض الدقائق المجانية من 55 دقيقة إلى 16 دقيقة شهريا. وعلى المستوى التعليمي، ورغم أن الدستور أقر مجانيته إلا أن الحكومة فرضت رسوما عليه بالقانون رقم 139 لسنة 1981، إضافة إلى التوسع في إنشاء المدارس التجريبية الحكومية، كما استحدثت نظام الانتساب الجامعي برسوم تتراوح بين 265 إلى400 جنيه في السنة، إضافة إلى التدريس باللغات الأجنبية في عدد من الكليات تتراوح المصروفات الدراسية بها من 1850 إلى 4000 جنيه. كل ما حدث من إجراءات اقتصادية بعد الخصخصة، كانت قاسية بشكل كبير على المواطنين, واليوم تعود الخصخصة تحت مسمى آخر؛ بطرحها كأسهم في البورصة مثل البنوك، حتى أصبحت مصر لا تصدر شيئا وكل احتياجاتنها نستوردها من الخارج, ووصلت البطالة إلى أعلى معدلاتها اليوم بنسبة 12.5%, وأصبح المصريون يصنفون من الشعوب الاستهلاكية نتيجة قلة الإنتاج وارتفاع الاستهلاك. ويؤكد سلامة أن ما يحدث اليوم يعد خصخصة بمنتهى السفور، بحسب تعبيره، وفقا لتصريحات محافظ المركزي منذ فترة ببيع بنوك رابحة لمجرد جمع حصيلة البيع لاستخدامها في تمويل الاستيراد وخفض عجز الموازنة بدلاً من علاج حقيقي للأزمة الاقتصادية.