احتمالية تعطيل الاتفاق النووي قد تبدو – كما استعرضناها في الجزء الأول– إعلامياً ذات فرص أكبر من ذي قبل، ولكن على مستوى سياسي فإن الأمر أدق وأكثر تعقيداً من تصريحات متبادلة بين واشنطنوطهران، فعوامل الاتفاق النووي ودوافعه كانت أكبر من أن تكون ثنائية فقط بين البلدين، فخارطة الصراعات الإقليمية والدولية قد ساهمت في تشكل رؤية الاتفاق بشقيها؛ السلبي والايجابي، حتى وإن تم توقيع الاتفاق فعلياً، فإن فوز ترامب قد يؤدي إلى إحياء اعتراض شرائح من الساسة الأميركيين في الداخل، وكذا في إيران، على الاتفاق وطريقة تنفيذه، فيما تشير العوامل الإقليمية والدولية إلى أن فرص بقاء الاتفاق أكبر من ذي قبل حتى بعد انتخاب ترامب. من جهة فإن شركاء الولاياتالمتحدة في المنطقة المعترضين على الاتفاق النووي؛ إسرائيل والسعودية، لا يمكنهم بذل ما هو أكثر مما بذلوه عشية توقيع الاتفاق والمفاوضات التي أفضت إليه، سواء على مستوى محاولات التأثير في الداخل الأميركي، أو على مستوى ثنائي لمجابهة الاتفاق النووي وعقد تحالف مضاد لإيران على كافة المستويات، وذلك أن حتى محاولة تأثير الرياض وتل أبيب على مسار تنفيذ الاتفاق النووي في جانبه الأميركي فإن هناك ثغرة كبيرة في إنفاذ هذا الأمر، وهو أن الرياض علاقاتها بواشنطن لن تتحسن إلى ما كانت عليه في عهد أوباما، بل أنها مرشحة للتدهور بقوة في عهد ترامب، الذي وجه تصريحاته اللاذعة ضد الرياض والإيجابية تجاه روسيا حول سوريا ودور دمشق في محاربة تنظيم «داعش» على عكس تمويل الرياض له، ناهيك عن قانون «جاستا» الذي أشرف عليه تشريعياً الجمهوريين في الكونجرس، وأيده ترامب إبان حملته الانتخابية، وبالتالي فإن واشنطن إذا استمرت في سياسة المماطلة والتسويف ومحاولات التعديل والربط بملفات أخرى فيما يتعلق بتنفيذ الاتفاق النووي فإن هذان الطرفان وخاصة السعودية سيكون لهما تأثير ضعيف في توجيهُّ، ويبقوا سوياً في إطار الاستفادة والاستثمار لما ستؤول إليه مسألة عقبات التنفيذ مستقبلاً. وفي ذات السياق، وبالنسبة لإسرائيل، فإن الإيجابية التي رأت بها تل أبيب انتخاب ترامب تأتي من زاوية أنه الاختيار الأقل سوءاً من إدارة أوباما، وأنه اختيار يخلق فرص استفادة واستثمار إسرائيلية تجاه أكثر من ملف، ليس شرطاً أن يكون من ضمنها الاتفاق النووي وتنفيذه، لارتباط هذا الأمر بالنسبة لترامب بتحديات وفرص متشعبة أكثر مع موسكو، وفرص التقارب بينهم في ملفات المنطقة، وبالتالي حتى محاولة ربط تنفيذ الاتفاق النووي بدافع أصيل من مطالب الجمهوريين واشتراطاتهم بخصوص الصواريخ الباليستية وغيرها سيؤثر سلباً على مدى التقارب الروسي-الأميركي مستقبلاً في كونه سيصعب التفاهم حول سوريا وغيرها من الملفات التي تصطف فيها طهرانوموسكو سويا على نفس التقاطعات والمصالح. وجدير بالذكر أن الاتفاق النووي لم يكن اتفاق ثنائي بين إيرانوالولاياتالمتحدة، ولكنه اتفاق بين القوى الدولية – مجموعة 5+1- وبرعايتها وبين إيران، حتى ولو كان ثقله الأساسي يقع بين واشنطنوطهران، فحتى مع احتمال أقصى بتعطيل الاتفاق بين الطرفين فإنه ساري بين باقي أطراف الاتفاق وطهران، وبالحد الأدنى مسألة تطوير الاستثمارات والعلاقات الاقتصادية التي بدأت بعد رفع العقوبات الدولية واستئناف العلاقات التجارية بينها وبين الدول الأوربية والآسيوية، كما أن هذه الدول لن تكون مع واشنطن في حال ميل الأخيرة لاستبدال الاتفاق بخيار التصعيد العسكري، وخاصة إذا كان دافع واشنطن الرئيسي لخوض هذه المغامرة هو ملفات مثل الصواريخ الباليستية، والتي هي ملفات خارج الاتفاق النووي بالأساس. وبشكل عام فإن السابق لا يعني إلغاء الاتفاق النووي، ولكنه خاص بتأثير كل من تل أبيب والرياض في تغيير أو الاستثمار في إستراتيجية تنفيذه أميركياً والتي تم إيضاح فرص نجاحها من عدمه على النحو السابق، إلا أنه أيضاً لا يعني أن صعود أسهم تعطيله بصعود ترامب والجمهوريين في البيت الأبيض والكونجرس لن تستغل، فحتى قبل صعوده دخل تنفيذه طوّر مماطلة وتسويف أميركي حول تفاصيل تنفيذ التعهدات الأميركية وبنودها من الاتفاق، ولكن هنا سيكون الأمر رهن تحدي واستجابة لإستراتيجية السياسات الأميركية في عهد ترامب وارتباطها بأكثر من متغير وطرف مثل موسكو على سبيل المثال وكيفية مواجهة «داعش»، وإدارة مرحلة ما بعد اندحارها من العراقوسوريا وتقسيم النفوذ بين وكلاء القوى الكبرى في العالم والمنطقة في هاتين الدولتين أو فيما سيتبقى منهم.. ولكن لهذا حديث أخر يطول. وكنقطة أخيرة؛ فإن بعد مرور عام وأكثر على توقيع الاتفاق النووي، فإن الآمال المرتفعة التي سادت أروقة السياسة والإعلام حول تنفيذ الاتفاق وكأنه أمر بديهي أصبحت من الماضي، ليحل مكانها شكوك حول تنفيذ الاتفاق في ظل المماطلة والعرقلة الأميركية الذي قابله عدم ثقة وتلويح بالرد من جانب إيران، وإن ظل الطرفان حتى كتابة هذه السطور لا يريدان إسقاط الاتفاق الذي يُعد الإنجاز السياسي والدبلوماسي الأكبر منذ عقود، وإن كان ذلك لا يعني أن احتمالية إدارته من جانب واشنطن وتوظيفه لمصلحتها سيواجهه اصطدام مع طهران لا تزال خطوطه الحمراء غير واضحة، في وقت تتشابك فيه الملفات والقضايا الإقليمية والدولية وعلاقة ذلك بما أراده كل طرف من ثمار الاتفاق، فمن ناحية لم تتحرك إيران عن موقفها الخاص بعدم خلط القضايا والملفات وربط بعضها بالاتفاق النووي سواء في المفاوضات أو بعد التنفيذ، ومن ناحية أخرى لا تزال واشنطن تريد العكس، بل وتطوير أمر الاتفاق النووي برمته إلى ورقة ضغط على إيران بعد أن كان، وعلى مستويات عديدة، انتصاراً لها. وما يؤكد هذا الاحتمال أن كل من واشنطنوطهران على مستوى صناعة القرار قد اختبرا دلائل أولية متمثل في انتخاب ترامب، المُحمل بشعارات ووعود "انتخابية" تجاه الاتفاق النووي، ولكن استبقت طهران هذا الأمر بتصعيد الحذر والشك في تنفيذ الولاياتالمتحدة لالتزاماتها ببنود الاتفاق النووي، وإدارة هذه الشكوك على أساس إجهاض محاولات تحويل الاتفاق النووي لعبء سياسي، وبالتالي فإنه كما هناك أصوات في الكونجرس والبيت الأبيض تريد تغييره أو إسقاطه، فهناك في طهران نفس الأمر، بما يعني أنه إذا انتوت الإدارة الأميركي الجديدة في الاستمرار في التسويف والمماطلة فإن الحكومة الإيرانية ستتراجع عن الإجراءات التي اتخذتها في الشأن النووي، بما يعني انهيار الاتفاق عملياً، ولكن هذا الأمر يتطلب إحاطة بجميع أطراف وعوامل الاتفاق النووي وكذلك عواقب إلغاءه أو تعطيله.