يقول المثل الغربي الشائع "إذا عطست أمريكا, يُصاب العالم بالزكام", و لا عجب في هذا فهي الدولة الأهم في العالم و الأكثر حداثة و الأغني بمواردها الذاتية والأكثر تأثيرا في تحديد الخريطة السياسية العالمية وتفاصيل أحلافها والأكثر قدرة و نفاذا في حلحلة الأزمات أو تعقيدها, ولا عجب أيضا أن تحظي نتائج انتخاباتها بهذا الاهتمام العالمي! يردد الكثيرون كلاما غير دقيق عن طبيعة الحكم في الولاياتالمتحدة, إما بفعل الجهل أو بغرض القفز علي ما أفرزته مؤخرا من صعود حالة سلطوية غاضبة كدونالد ترامب, فترى البعض يقول أن الولاياتالمتحدة تحكمها مؤسسات ليس بمقدور الأفراد المنتخبين تغيير الكثير في سياساتها أو توجهاتها, وترى آخرين يرددون أن الوعود الانتخابية ليست إلا وسيلة لجذب الناخبين وما يحدث بعد موسم الانتخابات هو مزيد مما سبقها من سياسات وقرارات و توجهات, وما يدعو للأسف أن كثيرا ممن يردد هذه الكليشيهات معدودون ضمن النخبة المثقفة العارفة ببواطن الأمور في هذه المنطقة التعيسة المليئة بالجهل و المغالطات والتعالم ! قد يكون لهذه القراءات المتعالمة ما يبررها إن كان من يرددها يعتقد يقينا في محورية الشرق الأوسط في العالم, و أن الانتخابات الأمريكية هي جزء من هذا العالم الذي يدور في فلك الشرق الأوسط وقضاياه, ولأننا لا نعدم الخيالات المريضة التي تتصور هذا فمن المنطقي أن تصل تلك الخيالات لتلك النتيجة نظرا لأن السياسة الأمريكية لعقود كانت شبه ثابتة تجاه القضايا الرئيسية بالشرق الأوسط, ولكن أن تنسحب هذه القراءة شديدة السطحية علي مجمل ما يحدث خارج المنطقة, وأن تنسحب تلك القراءة علي ما حدث في هذه الانتخابات الأخيرة تحديدا فهذا هو العته المحض!. إن ما حدث هذا الأسبوع هو أكبر بكثير من مجرد انتخاب رئيس أمريكي, فالنظام السياسي الأمريكي قائم علي مبدأ فصل السلطات الثلاث التقليدية, التنفيذية في البيت الأبيض, والتشريعية في الكونجرس بغرفتيه النواب و الشيوخ, والقضائية و التي تمثل المحكمة الدستورية أعلى سلمها, وفي العادة لا تكون تلك السلطات الثلاث في يد قوة سياسية واحدة, ولتمرير الكثير من القرارات المهمة على الرئيس أن يتفاوض مع الكونجرس لفعل هذا, وعادة ما تصل الأمور للحلول الوسط جراء تلك المفاوضات, ربما لهذا يبدو عادة أن الرئيس ليس بوسعه تنفيذ كل ما يطرحه من وعود إنتخابية أو تغيير الكثير من الثوابت السياسية الأمريكية, فالأمر مرهق و شاق ويتطلب دعما من السلطتين التشريعية و القضائية!. تكون لدي الرئيس قدرة أكبر علي تمرير ما يطمح فيه من مشاريع أو قوانين إن كان يمتلك حزبه أغلبية في الكونجرس, لكن هذا أيضا رهن بموافقة أعضاء حزبه في الكونجرس مجتمعين على دعمه, وهذا بالضرورة يعتمد علي مدى نفوذ الرئيس في دوائر حزبه وعلي مدي شعبيته بين قواعد الحزب التقليدية, والتي تمثّل ورقة الضغط علي النواب, وحجم هذا النفوذ وتلك الشعبية هما ما يحددان قدرة تفاوض الرئيس مع قادة حزبه في الكونجرس, وهي القدرة التي تتراوح من بين الإملاء و الرجاء تبعا لقوة الرئيس ذاته!. تعالوا نتأمل حال تلك السلطات الثلاث إذا في تلك اللحظة التي سيتسلم فيها دونالد ترامب السلطة التنفيذية. السلطة التنفيذية تمحور الخلاف بين الجمهوريين والديمقراطيين في شأن السلطة التنفيذية في معادلة تبدو بسيطة ولكن تبعاتها أكبر كثيرا مما يتصور الكثيرون, فالجمهوريون يدعمون حكومة صغيرة وضرائب أقل, بمعني تدخلا أقل من السلطة التنفيذية في السوق وإنفاقا أقل على برامج الحكومة الاجتماعية كشبكات الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية و التعليم في مقابل تخفيضا للضرائب, علي النقيض يدعم الديمقراطيون حكومة أكبر وضرائب أكثر خصوصا على الدخول الأعلي, وكان تبادل الإدارات الأمريكية بين الحزبين كفيلا بإحداث توازن جعل السلطة التنفيذية في حدود سيطرة مقبولة دون توغل في التدخل ودون الإنسحاب, لكن إدارة بوش الإبن الجمهورية، والتي كان من المفترض أن تدعم حكومة صغيرة واجهت تحديات تاريخية منذ البدء, فعقب تولي بوش الرئاسة بأقل من 9 أشهر حدثت كارثة الحادي عشر من سبتمبر, وأعقبها إغلاق البورصة وتراجعا شديدا في الاقتصاد, الأمر الذي دفع الحكومة لإقرار حزم محفزات اقتصادية وزيادة الإنفاق علي البرامج الاجتماعية للسيطرة على تبعات الأزمة الطارئة, كما توسعت الإدارة في اتخاذ القرارات وإقرار القوانين لمحاربة الإرهاب والتحسب لهجمات أخرى محتملة, كما توسعت سلطة الرئيس في أجندة السياسة الخارجية وحظي بهامش أوسع من سابقيه في إعادة رسم خريطة التحالفات الدولية وشن الحروب والتدخل السريع لملاحقة الإرهاب, وزادت أيضا معدلات الإنفاق علي التسليح والتكنولوجيا العسكرية!. و أعقب إدارة بوش الجمهورية إدارة ديمقراطية بسلطات أوسع وهوامش أكبر, ساهمت في قدرة أوباما في تنفيذ وعوده عن البرامج الاجتماعية كتوسيع قاعدة المستفيدين من التأمين الصحي الحكومي وبرامج الإعانة الاجتماعية الأخري وبرامج تطوير التعليم. إذا نحن إزاء توسع غير مسبوق في صلاحيات سلطة تنفيذية سيتسلمها ترامب خلال أقل من شهرين!. السلطة التشريعية يتكون الكونجرس من حجرتين, مجلس الشيوخ وعدد مقاعده 100 مقعد, ومجلس النواب وعدد مقاعده 435 مقعد, ويمكننا أن نتصور حجم المفاوضات والمداولات اللازمة لتمرير مشروع قرار داخل أروقة كلتيهما, وما يلزم من تعديلات بين الحجرتين للتوصل إلى اتفاق, ثم ما يلزم من مفاوضات للتوصل لتفاهم مع ساكن البيت الأبيض, هناك الكثير من الأمور داخل الكونجرس يحكمها الإنتماء الحزبي, ولكن هناك أيضا قائمة من القرارات سيتم محاسبة كل نائب عليها من قِبل الناخبين!. تصور الجميع أن تدني شعبية ترامب في استطلاعات الرأي ستكلف الجمهوريين أغلبيتهم في الكونجرس, وهو الأمر الذي دفع العديد من قادة الحزب الجمهوري للتبرؤ من ترامب بحجة أنه لا يمثل قيمهم, قام بهذا عديدون كليندسي جراهام وجون ماكين وميت رومني, وحتي زعيم الأغلبية في مجلس النواب بول رايان حاول إحتواء الخسارة عبر تشجيع القواعد الجمهورية للذهاب للاقتراع للتصويت في انتخابات الكونجرس واختيار مرشح مستقل في انتخابات الرئاسة!. لكن ما حدث أن دونالد ترامب بالفعل أنقذ الجمهوريين في انتخابات الكونجرس, وأنقذ سبعة مقاعد من أصل تسعة كانت في حكم الضياع من الجمهوريين في مجلس الشيوخ, وحافظ الجمهوريون بفضله علي الأغلبية في الكونجرس بغرفتيه, وليس هذا فحسب, بل إنه صنع هذا بمفرده وبالرغم من انقسام الجمهوريين حول ترشيحه, وهو الأمر الذي سيمنحه القدرة علي الإملاء على هؤلاء لا التفاوض معهم, وسيمنحه القدرة علي تعرية خصومه داخل الحزب أمام قواعدهم حال مناوئتهم له!. المحكمة الدستورية المحكمة الدستورية هي السلطة القضائية العليا بالولاياتالمتحدة, وهي ليست سلطة قضائية وحسب وإنما سلطة سياسية أيضا, فهي تتكون من 9 قضاة يختارهم الرئيس بعد مواقفة الكونجرس, والقاضي المختار يخدم في المحكمة حتي وفاته أو تقاعده الاختياري, وهم قضاة منحازون سياسيا, فالمحكمة الآن بها 8 قضاة بعد وفاة القاضي أنتونين سكاليا في فبراير الماضي, الثمانية قضاة مقسّمون بالتساوي بين الجمهوريين و الديمقراطيين, وبعد فشل أوباما في تعيين القاضي التاسع -و الذي كان سيحدد الأغلبية- بسبب تعطيل الكونجرس لهذا, أصبح الآن الأمر بيد ترامب ليعيّن القاضي الأهم بالمحكمة, وهو القاضي الذي وعد ناخبيه أن يكون جمهوريا متدينا محافظا, ومع الأغلبية الجمهورية في الكونجرس أصبح الأمر الآن في حكم الأمر المنتهي, والمحكمة الدستورية بإمكانها فعل وتغيير الكثير, فبوسعها الحكم في قضايا شائكة قد تمس الإجهاض أو مزايا تتلقاها الأقليات أو غيرها, وقرارا سهلا كتعيين قاض محافظ بالمحكمة سيصعد أكثر بأسهم ترامب بين قواعد حزبه وسيجعل منه زعيما حقيقيا بإمكانه حصار من قد يعارضه داخل الكونجرس من حزبه, وبهذا تزداد قدرته على الفعل وعلى الوفاء بما وعد ناخبيه! ماذا وعد وماذا بإمكانه! لقد وعد ترامب بالكثير, وعلي الأرجح كان هذا سلوك مرشح غاضب لا يتوقع النجاح, ولكن المرشح الغاضب هذا اكتشف فجأة أنه يمثل حركة غاضبة واسعة تصوّر الجميع أنها مجرد هامش في المشهد, ولكن صعودها المتسارع أظهر أنها هي المتن وليس الهامش, وقد صعدت بالفعل بمرشحها لرأس السلطة التنفيذية في البلد الأهم في العالم, بل ومنحته سلطات لم تتسنى لرئيس سابق في ظرف مشابه, ومنحته أغلبية مريحة في الكونجرس وأغلبية في أعلى هرم السلطة القضائية, والآن عليه أن يفي بوعوده وإلا واجه غضبا لا يمكن تنبؤ أبعاده من جمهوره الغاضب بالأساس!. لكن في الوقت ذاته فتنفيذ وعوده تلك قد يقود لتبعات أكثر خطورة وأبعد تأثيرا, فالرجل يعادي نحو 30% من مواطنيه من الأقليات الإثنية, ويحتقر نص سكان البلد الذي يحكمه وهم النساء, وهو عازم في اليوم الأول من حكمه علي حرمان 20 مليون من مواطنيه من خدمات التأمين الصحي التي تدعمها الدولة, وهو أيضا يعادي جيرانه الذين تعتمد اقتصادياتهم علي حركة التجارة مع بلاده, و يلّوح بالانسحاب من الناتو والتخلي عن حلفاءه التاريخيين في شرق الأطلسي, ويعادي الصين الشريك الاقتصادي الأهم مع بلاده, ويبدو عازما علي تغييرات متطرفة في الشرق الأوسط, تلك التغييرات التي ستدعم تدخلا روسيا أكبر في المنطقة وتخليا عن حليف أساسي لبلاده كدول الخليج, كما قد يرغب في مراجعة الإتفاق مع إيران في الآن ذاته!. الرجل بوسعه فعل الكثير حقا, و ربما كان خطابه الغاضب تحضيرا لعفريت لن يستطيع صرفه إن لم يفِ بوعوده, كما لن يستطيع السيطرة عليه إن وفّي!.