تقدَّم هرناندو دي سوتو - مدير مركز الحرية والديمقراطية فى بيرو - بمشروع أمام لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي تحت عنوان 'نداء من أجل الحرية الاقتصادية في العالم العربي'.. وهو مقترح قيد المناقشة من أجل التنفيذ من قِبل حكومات عربية ورواد القطاع الخاص، ومن شأنه أن يرفع نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي بنسبة 2٪، حسب تقديرات مصرية وأميركية. حيث يقول سوتو مستعرضًا مشروعه: يمثل الربيع العربي فرصة غير مسبوقة لإزالة القيود التي تعوق النمو الاقتصادي على نطاق واسع في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ولم يدرك إلا قلة من الناس أن التوتر المستمر في العالم العربي هو عَرض من أعراض ثورة مؤيدة للسوق أشعل لهيبها مئات من أصحاب المشروعات الصغار، احتجاجًا على قيود من بينها نزع الملكية. لكن إزالة هذه العوائق لا يمكن أن تتأتى من دون التصدي للأسباب الكامنة وراء هذه القيود. نشير إليها بتعبير 'القيود الجوهرية' أو الحواجز الرئيسية التي تحول دون تحقيق التنمية المستدامة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ويضيف: حسب الاعتقاد السائد في الغرب، تُعتبر روح المبادرة والاستثمار اللذين يقومان على آليات السوق بمثابة المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي. ولتحقيق النمو على نطاق واسع في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الموسومة بالكساد، يجب تحديد المعوقات الاقتصادية التي تعترض طريق النمو وإزالتها.. وباعتبارنا أميركيين لاتينيين نُساهم في خفض تكاليف المعاملات بالنسبة للحكومات في جميع أنحاء العالم، ونحن فى معهد الحرية والديمقراطية نتفق مع هذا الطرح. ونحن نعلم أن معظم النخب العربية المدربة تدريبا جيدا تتفق أيضا مع هذا الطرح. وفى عرضه للمشروع يتساءل سوتو: لماذا لا تقوم تونس - وبقية الحكومات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا - بالتخلص من 'القيود التي تعوق النمو'؟ بالنسبة لنا، هناك طريقتان للإجابة عن هذا السؤال: أولا، السبب الذي كان يجعل دائما من الصعب إزالة القيود التي تعوق النمو في البلدان النامية والاقتصاديات التي تمر بمرحلة انتقالية هو أن القيود الحقيقية توجد على مستوى مؤسساتي عال. يمكن التعبير عن هذه المسألة بطريقة أخرى والقول بأن البلدان الغربية أصبحت بارعة في إزالة القيود لأنها قامت قبل ذلك بوضع حد لما أسميه 'القيود الغالبة للقيود'، أو ما قد أسميه 'القيود المفروضة على القيود'. جوابنا الثاني يكمن في الرد الذي أتصور أن يقدمه محمد البوعزيزي، البائع المتجول التونسي الذي أطلق شرارة الربيع العربى فى 17 ديسمبر 2010 عندما أشعل النيران فى نفسه، لو أنه تجسد ثانية في جلستكم هذه وهو يحمل شهادة أكاديمية في اقتصاد المؤسسات. لديَّ الجرأة لقول هذا لأنه بعد وفاته، أرسلنا فريقا إلى تونس حيث قضى 20 شهرا بالمنطقة لمعرفة لماذا يُقدم شخص ما على الانتحار بسبب مصادرة السلطات عربة محملة بالفواكه وميزانا مُستعملا. ونحن في خضم بحثنا، حددنا 63 حالة من الرجال والنساء الذين حذوا حذو البوعزيزي خلال الستين يوما التي أعقبت إحراقه لجسده، وقاموا هم أيضا بالاحتجاج وإحراق أنفسهم، في بلد تلو الآخر. القاسم المشترك بينه وبينهم هو أنهم كانوا جميعا أصحاب مشروعات تجارية تعرضوا لنزع الملكية أيضا. قمنا بتدوين قصصهم، ليس فقط لأننا أجرينا حوارات مع أسرهم وزملائهم والسلطات فى بلادهم، بل أيضا لأن الفرصة أتيحت لنا لمقابلة العديد ممن نجوا والبالغ عددهم 37 شخصا. بما أنكم ساسة، تعلمون أكثر مني أن السياسة تتعلق بالحكم بقدر ما هي تتعلق بالناس. هذا هو السبب الذي جعلني منذ يومين أمزق مداخلتي الطويلة ذات المنحى المهنى الصرف، لأن قصة البوعزيزي تُوضح بجلاء ما يعنيه أن يُحْرم المرء من حقوق مِلكية تصونها سيادة القانون، وهي حقوق يعتبرها الغربيون أمرا مفروغا منه. أعتزم التطرق بإيجاز إلى الجانب المهني كي أتمكن من تخصيص المزيد من الوقت المحدد لي كي أحدثكم عما تعلمته من العرب الذين أشعلوا النيران فى أنفسهم. أبدأ بما أريد أن أسميه 'المعوقات الجوهرية التي تكبح نمو منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وحلولها' قمنا بتقسيم هذه المعوقات الجوهرية والحلول إلى أربع فئات: 1. المعوقات الوهمية: كثيرون في العالم العربي - وخارجه – يعتقدون أن ثقافة العرب واقتصاد السوق شيئان مُتنافران. ونتيجة لذلك، لا توجد إرادة سياسية بما فيه الكفاية لإزالة المعوقات الاقتصادية. استنتاج معهد الحرية والديمقراطية: الأغلبية العربية موجودة بالفعل في السوق، إذ إن 380 مليون شخص بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يستمدون رزقهم من السوق، دون أي حماية قانونية. ويرجع السبب في ضعف أدائهم إلى النقص في المعلومات والثقة وآليات الربط التي تُوفرها حقوق المِلكية والقانون التجاري. من دون هذه الأمور، يستحيل استخدام الأصول للحصول على الائتمان أو رأس المال، أو الجمع بين الأصول والمواهب حتى يكون حاصل الجمع أكبر من الأجزاء. خلاصة: أداء أصحاب المشروعات والأسواق ليس جيدا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لأنهم يفتقرون إلى العنصر الحاسم في خلق الثروة، ألا وهو حقوق المِلكية. 2. المعوقات المرتبطة بحقوق المِلكية: في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يمكن استخدام 8٪ فقط من الأراضي لضمان القروض. حوالي 15٪ فقط من الشركات والأسر العربية لديها حقوق الملكية التي تُسهل التركيبات القيِّمة وتحميهم من تلك المصادرة التعسفية التي أشعلت فتيل الربيع العربي. استنتاج معهد الحرية والديمقراطية: يحتاج صاحب المشروع العربي في المتوسط إلى تقديم 57 وثيقة وتلزمه مدة سنتين أو أكثر من الروتين والتباطؤ البيروقراطي للحصول على حق مِلكية قانوني يتعلق بأرض أو مشروع تجارى. إذا أزيلت جميع هذه القيود، يمكن أن يرتفع معدل النمو السنوي بنسبة 2٪ بعد 5 سنوات. خلاصة: أنظمة حقوق الملكية بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ليست سيئة بهذا القدْر. يكمن المشكل الحقيقي في التفرقة العنصرية الاقتصادية: غالبية العرب ليس لديهم الحق في حقوق الملكية هذه. 3. معوقات ما قبل الثورة الصناعية: من وجهة نظر المشروعات التجارية، لا يمكن للمرء إزالة القيود من خلال التركيز على دائرة أو اثنتين من الدوائر الحكومية. فالعقبات تُشكل ركيزة النظام القانوني بأكمله. في مصر، على سبيل المثال، يتطلب إنشاء مشروع بشكل قانونى التعامل مع 29 هيئة حكومية واجتياز 215 مجموعة من القوانين. استنتاج معهد الحرية والديمقراطية: إن التحدي الذي تمثله إزالة هذه المعوقات مكون من شقين: (1) تطوير النظام برمته كى يتلاءم مع المجتمع الذي يمر بمرحلة انتقالية من نظام ما قبل السوق إلى نظام السوق؛ (2) منح الأغلبية ليس فقط حقوق مِلكية أفضل، بل الحق في حقوق المِلكية. خلاصة: تتطلب إزالة المُعوقات مجموعة مختلفة من المهارات تتجاوز تكييف المجتمع مع الثورة الصناعية. إن مكافحة التفرقة العنصرية الاقتصادية هى مسؤولية سياسية على أعلى مستوى. 4.المعوقات المتعلقة بالدوافع السياسية: بالنسبة لأي سياسي –مهما كانت نزعته الإصلاحية– تنطوي مواجهة الوضع القائم على تكاليف سياسية باهظة. إن ما يجعل هذه التكاليف باهظة للغاية هو عدم وجود الإجراءات والآليات التي تسمح بتحقيق الإجماع على نحو منهجي. استنتاج معهد الحرية والديمقراطية: فقط عن طريق إزاحة هذه الفئات الأربع يمكن للحكومات العربية أن تكون على استعداد للسير قُدما نحو تحقيق هدفها الأسمى المتمثل في إزالة القيود الاقتصادية التي تعوق النمو إلا بإزاحة هذه الفئات الأربع من المعوقات الجوهرية. وللقيام بذلك، عليها أن تُكمِّل تقنيات النمو بالقدرة على إدارة المرحلة الانتقالية التي يمر بها مجتمع تقليدي نحو مجتمع منسجم مع الثورة الصناعية. خلاصة: بما أن الغرب قد نسي عدد الإصلاحات المؤسساتية وحجمها التي كان عليه تطبيقها من أجل استيعاب الثورة الصناعية على مدى أكثر من ال150 سنة الماضية، قد تكون رحلة الزعماء العرب رحلة وحيدة للغاية. عندما تلتقي النظرية بالواقع: قصة البوعزيزي دعونا نبدأ بالرأي الشائع الذى يقول إن الملكية والأسواق ليست مهمة بالنسبة لمعظم العرب. إذا تركنا هذا الاعتقاد يسود بدون أي اعتراض، من غير المحتمل أن يقوم الساسة بوضع مهمة إزالة القيود على رأس جدول أعمالهم. الشيء الوحيد الذي يمكن أن يدحض هذه الفرضية التي استمرت لزمن طويل هو الأدلة الواقعية التي تكشف أن هذا الادعاء مجرد خرافة. على مدى ال13 سنة الماضية من الأبحاث في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من أجل مساعدة الحكومات على إزالة المعوقات وإيجاد أسواق إدماجية (15 باحثا من البيرو و120 من الباحثين العرب ونحو 300 مساعد على المستوى القاعدي)، قام معهد الحرية والديمقراطية بتجميع ما يكفي من الأدلة الواقعية لتفنيد الحجة القائلة بأن العرب والأسواق أمران متنافران. في مصر وحدها، يمثل سوق القطاع الخاص 'المُقيد' ما بين 40٪ إلى 68٪ من القوى العاملة في البلاد، حسب منهجية الإحصاء المعتمدة، و84٪ من المشروعات و92٪ من القطع الأرضية. في الواقع، يقدر معهد الحرية والديمقراطية أن ما يقارب 380 مليونا من العرب يستمدون معظم دخلهم من السوق المقيدة. كيف يمكن لشيء بهذه الضخامة أن يكون غير مرئي إلى هذا الحد؟ الجواب بكل بساطة هو سوء التصنيف. إذا كان نشاط اقتصادي ما في أي دولة نامية لا ينتج الثروة، سوف تعتبره حكومة هذا البلد بأنه 'غير رسمي'، 'تقليدي'، 'عُرفي'، 'قَبلي'، 'ثقافي'، 'لاجئ'، 'صغير' أو ببساطة حل يتبناه الفقراء لمواجهة البطالة. يتم اعتبار مثل هذه المشاريع بأنها خارجة عن نطاق الأعمال الحقيقية، ثم يتم وضعها على الرفوف ونسيانها – ولو أنها تكون مُقَنّعة في الإحصاءات الحكومية الرسمية حول النشاط الاقتصادي في البلاد. عندما يحصل أصحاب المشروعات الفقراء على تسمية مشروع تجاري سليم، يمنحهم النظام وضعا قانونيا، لكن بدون أي من الآليات القانونية التي تمكن مشروع حديث من توسيع نطاق عملياته، مثل: حقوق الملكية التي تسهل البيع والشراء من أجل خلق تركيبات ذات قيمة مضافة، المسؤولية المحدودة، وتقاسم الأصول للحد من مخاطر نزع الملكية؛ والقدرة على تقديم التزامات بالوثائق التعاقدية بدلا من الوعود الشفهية؛ بنية هرمية مستقلة عن منظمات أُسرية أو سياسية لتقسيم العمل بين وظائف فرعية محددة تخضع لنظام تحكم واحد؛ مسؤولية محدودة للحد من المخاطر وفصل ما هو شخصي عما هو تجاري؛ تعاقب دائم، وذلك لنقل رأس المال والسمعة على مر الزمن؛ تجزئة الأصول بصورة مجردة لجذب الموارد وتوزيعها دون الحاجة إلى تقسيمها على نحو مادي؛ إصدار أسهم تمثل الممتلكات مقابل الاستثمار؛ إنشاء شخصية معنوية لإقامة كيان منفصل ومستقل عن مالكيه حيث يمكن في إطاره تنظيم الجهود التعاونية بشكل موضوعي؛ الضمانات الاحتياطية للأصول من أجل الرهون العقارية، وضمان الائتمان، وتشجيع الامتثال عن طريق الربط بين الأصول وأصحابها، وبين الأصول والعناوين، وبين العناوين والتنفيذ. من دون هذه الأدوات القانونية، لا يمكن لأي مستثمر أو صاحب مشروع أن يكون فعالا في القرن الحادى والعشرين. باختصار، ما أود قوله هو أن انعدام الملكية وسيادة القانون، وفوائدهما يمثلون أهم جميع العوائق. لا يمكن لمجتمع أن يعتبر اقتصاده غير مقيد حقا إلا عندما يعرف من يمتلك ماذا، وأين يوجد شيء ما، وكيفية تقسيم العمل والجمع بين المواهب والموارد. طالما لا وجود لأنظمة المِلكية، لا يمكن لأصحاب المشاريع أن يمتلكوا القيمة وأن ينقلوها ويقيِّموها ويوثقوها، ولا أن يعرفوا أنهم وبقية العالم يلعبون وفقا لنفس القواعد والإجراءات والمعايير. تمنح المِلكية المعرفة والترابط؛ وبدونها، لا تنجح الأسواق. بعد نشر مثل هذه الأدلة، اكتسبت منظمتنا الصغيرة الموجودة بأحلك وأعمق أرجاء البيرو سمعة عالمية في أوساط المهتمين بمجال التنمية وفي الدوائر الأكاديمية والصحفية. لم يتم اعتبار تحليلنا مثيرا للاهتمام فقط، بل أثار انتباه الخبراء أيضا إلى طرحنا القائل بأنه لأغراض التنمية، يجب تقسيم العالم بين أولئك الذين يعملون وفق حقوق الملكية وسيادة القانون (ملياري شخص، حسب تقديرات معهد الحرية والديمقراطية) وأولئك الذين لا يفعلون ذلك (ما بين 4 إلى 5 مليارات شخص). حذَّرنا الحكومات التي تلجأ إلى مساعدتنا في إطار جهودها الإصلاحية بأن الأغلبية الفقيرة التي تتدافع من أجل لقمة العيش على هامش النظام القانوني تشكل المصدر الرئيسي للصراع والعنف اللذين يؤديان إلى تصدع ضخم في مجتمعاتهم. اعتمد العديد من المنظمات الدولية والحكومات اتجاه معهد الحرية والديمقراطية في مجال التنمية. بالتأكيد، كنا مثيرين للجدل وكان لنا أيضا تأثير ملحوظ، ولكن ليس إلى درجة إسقاط الخرافة القائلة بأن غالبية العرب غير مؤهلين ثقافيا لولوج الأسواق العالمية. اكتشفنا أن الأمر سيتطلب جيلا أو اثنين لتتبين الحقائق التي جمعناها حول الحجم الهائل من نشاط السوق الذي يروج في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا – إلا إذا حدث شيء مفاجئ. تحدث البوعزيزي نيابة عن 380 مليون عربي محروم من حقوق المِلكية، وبالفعل حدث شيء مفاجئ للغاية يوم 17 ديسمبر 2010 عندما أقدم البائع المتجول طارق محمد البوعزيزي على إضرام النار في جسده أمام مقر حاكم المدينةالتونسية الصغيرة سيدي بوزيد، احتجاجا على إنهاء تجارته بشكل تعسفي. فالربيع العربي نفسه الذي انطلقت شرارته بعد أن أشعل أصحاب المشروعات النيران فى أنفسهم احتجاجا على حرمانهم من حقوق الملكية، والذى استمر من خلال تعاطف الملايين من العرب معهم، يقدم الدليل الكافى لتفنيد الفرضية القائلة بأن العرب لا يريدون أن يعيشوا في ظل اقتصاد السوق الحديث. كما اكتشف معهد الحرية والديمقراطية أن الاحتجاج المتوهج الذي أقدم عليه البوعزيزي لم يكن ظاهرة معزولة، بل جزءا من عمل جماعي عفوي: 63 شخصا من الرجال والنساء حذوا حذوه خلال الستين يوما التي أعقبت إحراقه لجسده، فقاموا هم أيضا بإحراق أنفسهم، في تونس والجزائر والمغرب واليمن والسعودية ومصر. كانوا هم أيضا من أصحاب المشروعات العاملين خارج إطار القانون (البناء، المقاولة، تقديم الطعام، تكنولوجيات المعلومات، الخ). خلال مقابلات مطولة أجريناها مع أسر الضحايا ومع العشرات من الذين نجوا والبالغ عددهم 37 شخصا، سمعنا نفس الكلمة التي تُفسر دوافعهم وراء الانتحار في الشارع أمام الجماهير: 'نزع الملكية'، أي عدم وجود قانون ملكية قابل للتنفيذ. عندما سألنا عائلة البوعزيزي: من أجل ماذا ضحى ابنهم؟ كان الجواب: 'للحصول على الحق في البيع والشراء.' كشفت أبحاث معهد الحرية والديمقراطية أيضا عن أن أكثر من 380 مليون شخص يعتمدون في كسب معيشتهم على الاقتصاديات غير الرسمية الضخمة المتواجدة في المنطقة، ويعانون جميعهم نفس مخاوف نزع الملكية. لا عجب إذن أن تنزل الملايين إلى الشوارع للمطالبة بالتغيير وإسقاط الحكومات. من الصعب على العقل الغربي الحديث أن يفهم هذا العدد الهائل من حالات الانتحار، دفاعا عن حقوق الملكية، لاسيما وأننا نتحدث عن رجل مثل البوعزيزي، الذي يبدو أنه أحرق نفسه احتجاجا فقط على فقدان ميزان إلكتروني وبعض الفواكه، وهي الخسارة التي قدرها معهد الحرية والديمقراطية بقيمة إجمالية تبلغ 225 دولارا أمريكيا. ومع ذلك، من السهل جدا على أحد سكان الحدود الأوائل بالولايات المتحدة أن يفهم هذا الأمر: حق البوعزيزي في الحصول على الأشياء، وشرائها وبيعها لا يتمتع بحماية القانون ولكن بالإرادة التعسفية وحسن نية السلطات المحلية. لذلك، عندما سلبوا بضاعته وحرموه من مقر تجارته ورفضوا التراجع عن قرارهم، فقد البوعزيزي المصدر الوحيد لجميع حقوقه تقريبا. لم يكن للبوعزيزي أي قانون يلجأ إليه وبالتالي وجد نفسه مفلسا فجأة: لم يكن بوسعه الحصول على موقع آخر، إذ لم تنزع منه السلطات الموقع فقط، بل أيضا الحق في موقع؛ وبما أنه لم يعد قادرا على سداد القروض التي أخذها لشراء البضائع المصادرة منه، أصبح مفلسا وغير جدير بالائتمان أيضا؛ كما لا يمكنه أن يبيع مشروعه التجاري ويرحل إلى مكان آخر لأنه لم يكن لديه أية 'شخصية اعتبارية' موثقة يمكنه نقلها إلى المشترين؛ لم يكن باستطاعته الحصول على تدفق رأسمال جديد لأنه ليس من حقه إصدار أسهم. يشتغل غالبية أصحاب المشروعات بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ضمن نظام اقتصادي يعود، في الواقع، إلى الفترة حيث كان معظم الناس العاديين في بداية الثورة الصناعية. بدؤوا يدركون أنه مع تلاشي التقاليد القديمة والقواعد المحلية، أصبحوا في أمَس الحاجة إلى الملكية القانونية وأدوات العمل التي يعتبرها نظراؤهم في الغرب - ونُخب بلدانهم - أمرا مفروغا منه. يعلمون أيضا في قرارة أنفسهم أن حكوماتهم ونُظمها القانونية أقصتهم من تلك الحقوق؛ وبعد ثوراتهم، لم يعودوا على استعداد لقبول البديل الوحيد المتاح لهم، أي الحماية المبنية على المحسوبية التى توفرها السلطات المحلية والتي قد تقوم بمصادرة ممتلكاتهم في أي لحظة وتعريضهم للإفلاس. هذا هو السبب الذي دفع بالبوعزيزي وآخرين من أمثاله إلى إضرام النار في أنفسهم: إنهم فقدوا أكثر من السلع التي تراها العين؛ بل صودرت منهم أيضا تلك الأدوات القليلة التي تساعدهم كأصحاب مشروعات على كسب لقمة العيش. وهذا هو السبب الذي جعل الملايين من الناس لهم نفس حقوق الملكية المؤقتة والهشة يخرجون إلى الشوارع، في غضون أيام قليلة بعد أن أشعل البوعزيزي النار فى نفسه، ويطيحون بالحكومات في دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. حقوق الملكية تعني أكثر من مجرد حماية الملكية تعتبر حقوق الملكية أمرا مفروغا منه في الغرب، علما أنها غير واضحة المعالم. ولكن بالنسبة للبلدان النامية والاقتصاديات التي تمر بمرحلة انتقالية، وبالنسبة لنا جميعا، نحن الخمس مليارات من الأمريكيين اللاتينيين والعرب والأفارقة والآسيويين، تعني لنا حقوق الملكية أكثر من مجرد حجة أنانية في مواجهة ممتلكات الأثرياء من ذوي الغِنى الفاحش. في الواقع، إذا سلمنا بأن المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي هو في المقام الأول المشروعات والاستثمارات، فلا مناص إذن من إعطاء المجتمعات مثل تلك الموجودة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أدوات الوصول إلى المعلومات وآليات الربط التي يمنحها قانون الملكية والتجارة حتى يتمكنوا من ابتكار تركيبات قَيِّمة وإطلاق عجلة النمو على نطاق واسع وعلى أساس روح المبادرة. إنجاز 'تركيبات'، هذا هو ما يفعله أصحاب المشروعات. توفر لنا الطبيعة الأم جميع الموارد التي نحتاجها، ولكن معظمها مفيد فقط إذا استطاع أصحاب المشروعات تركيبها في كُتل أكثر تعقيدا. كلما ارتفعت قيمة هذه التركيبات، كلما تحقق نمو اقتصادي أكبر. فالإنجازات الإنسانية الأكثر ابتكارا -من الأجزاء ال120 التي تتكون منها ساعة يدي إلى العدد الذي لا يُحصى من الصفقات المالية والتطورات التي أنتجت الإنترنت وأنظمة ملاحة الطيران- كلها نتيجة ضم الناس والأشياء، بعضها إلى البعض. وللقيام بتلك التركيبات لإنتاج النمو، يحتاج أصحاب المشروعات إلى المعلومات وآليات الربط، وهي موجودة في أنظمة الملكية الموثقة وفي القانون التجاري. ولكي يتمكن اصحاب الأعمال التجارية والمستثمرون من تحديد موقع الموردين، وتقدير القيمة، والمخاطرة، بل والجمع بين مثل هذه الأشياء البسيطة (نستعير هنا مثالا شهيرا: الجمع بين مادة الجرافيت من سريلانكا والخشب من ولاية أوريجون وتحويلهما إلى أقلام الرصاص)، يتطلب معرفة من يملك ماذا وأين، وكم عليه من المستحقات ولمن، ثم تدوين تلك المعلومات في السجلات العامة. المِلكية لا تعني فقط إثبات أن زَيدا يمتلك المصنع ولكنها تصف أيضا هذا المصنع كعنوان حيث يمكن تقييد الرهون العقارية؛ تحصيل الديون والرسوم والضرائب؛ تسليم السلع وغيرها؛ تأمين القروض؛ إصدار الأسهم مقابل رأس المال؛ مراقبة خدمات المرافق؛ وتحصيل الفواتير. هذا واحد من بين الأسباب الرئيسية التي تفسر انتصار روح المبادرة فى الأعمال التجارية في الغرب على مدى ال150 سنة الماضية، حسب الأبحاث التي قام بها معهد الحرية والديمقراطية حول تاريخ كيفية تطور كبريات اقتصاديات العالم للخروج من فوضى أسواقها المشتتة والتي ينعدم فيها القانون، لتصبح محركات للنمو: تحقق التقدم كجزء لا يتجزأ من حقوق الملكية التي وفرت أفضل معرفة متاحة لاستكشاف التركيبات الاقتصادية. لذلك، مهما أزالت الحكومات من القيود الاقتصادية ومهما خفضت من تكاليف المعاملات، فلا يمكن ظهور طبقة من أصحاب الأعمال التجارية على نطاق واسع إلا إذا أصبح المجتمع برمته يتمتع بحقوق الملكية القانونية. هذه حقيقة غير مفهومة جيدا، ويرجع ذلك أساسا إلى كون عدد كبير جدا من الناس في الغرب ينزعون إلى اعتبار حقوق الملكية على أنها في الأساس حماية للملكية– سواء أتعلق الأمر بالتحكم في الأصول، أو بنقل العقارات، أو توزيع الأراضي أو رسم الحدود على قطعة أرض. ما يغيب عن أذهانهم هو أن حقوق المِلكية قد تطورت من وظائفها الأصلية لتلعب أدوارا أخرى في المجتمع الحديث، مثلها في ذلك مثل ريش الطيور الذي قد يكون تطور من الحفاظ على دفء هذا المخلوق إلى القدرة على الطيران في وقت لاحق (وهي الصيرورة التي يطلق عليها علماء الأحياء اسم التكيف الآنف "exaptation". وبالمثل، مع نمو الأسواق لتبلغ مرحلة ما بعد الإقطاع والقبلية وغيرها من الوحدات صغيرة الحجم، أدرك الناس أنه إذا كانوا يريدون الاستفادة من توسيع الأسواق، وتقسيم العمل والثقة في الآخرين على نطاق واسع، لا بد لهم من المزيد من المعلومات المكتوبة حول أماكن وحالات أبعد مما كان متوافرا على المستوى المحلي. والمكان حيث بدأ تجميع هذه المعلومات وتنظيمها وتسجيلها وتحيينها وتصنيفها كان ما نسميه 'نُظم المِلكية'. على مدى القرن ونصف القرن الماضيين، دَوَّن الغرب وصنَّف - في سجلات وعناوين وموازنات عمومية وبيانات حساب تحكمها قواعد ثابتة ومتاحة لعموم الناس - كل المعلومات المتوافرة ذات الصلة بوضعية الناس الاقتصادية وبالأصول التي يمتلكونها، سواء كانت غير ملموسة (أسهم، أوراق تجارية، سندات، دفاتر، عقود، براءات اختراع، سندات إذنية، الخ)، أو ملموسة (أراضٍ، مبانٍ، قوارب، آلات، دواب، كتب وغيرها). وهكذا، تطورت نُظم الملكية لتتحول من كونها وسيلة لحماية الملكية حصرا إلى طريق مختصر نحو المعرفة الاقتصادية، وإلى مجموعة من الأدوات وقواعد للجمع بين الأشياء التي نملكها. إن هذه النُظم تُنتج الثقة التي تسمح بتدفق الائتمان ورأس المال، وباشتغال الأسواق العالمية.