أكد فضيلة الأستاذ الدكتور حمدي أحمد سعد وكيل كلية الشريعة والقانون بطنطا للدراسات العليا والبحوث في حواره "للأسبوع" ان الليال العشر الأخيرة من شهر رمضان قد هلت ؛ ليبادر الناس إلى الاجتهاد في العبادة ، وتحري ليلة القدر ويتنافسوا في فعل الخير ، ومن الأعمال المستحبة التي سنها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الأيام الاعتكاف في المساجد . الاعتكاف هو حبس النفس عن الذنوب والمعاصي ، والتفرغ لعبادة الله تعالى في مكان مخصوص وهو المسجد ، عملا بقول الله تعالى ( ولا تقربوهن وأنتم عاكفون في المساجد ) وهذا هو الأصل ، ولكن شاءت إرادة الله تعالى أن تغلق المساجد لتدابير احترازية ؛ للوقاية من مرض كورونا المستجد الذي تزداد خطورته ويكثر ضحاياه كل يوم ، وهنا تظهر عظمة الفقه الإسلامي وسماحة الشريعة الإسلامية في التعامل مع فقه الوقت وأحكام النوازل والمستجدات ، ولذا يمكن القول بأنه إذا كان الاعتكاف في المسجد غير مسموح به فإن طرق الخير والعبادة متعددة وميسورة لكل شخص أينما كان ومتى شاء لكل من يريد التزود من الطاعة والعبادة والاجتهاد في هذه الأيام المباركة تحريا لليلة القدر التي هي خير من ألف شهر،.ومن هذه الطرق ما يلي: أولا : حبس النفس عن الذنوب والمعاصي واجتناب الموبقات أينما كنت وهذه عبادة قيمة ومكانة عالية لا يصل إليها إلا من ارتضاهم الله تعالى بل إن من يفعل ذلك يكون من أعبد الناس ، عملا بما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيعمل بهنّ أو يعلمهنّ من يعمل بهنّ؟ قال أبو هريرة: فقلت أنا يا رسول الله ، فأخذ بيدي فعدّ خمسًا، قال :اتّق المحارم تكُن أعبدَ النّاس، وارضَ بما قسَم الله لك تكُن أغنى النّاس، وأَحسن إلى جارك تكُن مؤمنًا، وأحِبّ للنّاس ما تحبّ لنفسك تكن مُسلمًا، ولا تُكثر الضّحك فإنّ كثرةَ الضّحك تُمِيتُ القلب) رواه أحمد، والتّرمذي،). فإذا اجتنب العبد جميع ما نهى الله عنه ارتقى إلى أعلى مراتب العبودية، لأنه جاهد نفسه على ترك الحرام، وحبسها عن اقترافه ، فلقد روى عن أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت : "من سرّه أن يسبق الدّائب المجتهد فليكفّ عن الذّنوب"، وقال الحسن البصريّ: "ما عَبد العابدون بشيء أفضلَ من ترك ما نهاهم الله عنه"، ولكن ليس معنى ذلك ترك الطاعات وخاصة الواجبات لأن الأعمال مقصودةٌ لذاتها، والمحارم المطلوب عدمها، ولذلك لا تحتاج إلى نيّة بخلاف الأعمال، كما ذكر ذلك الإمام ابن رجب رحمه الله. ثانيا : الانتقال من عبادة الجوارح والأبدان إلى عبادة القلوب ومن التقيد بالمكان والزمان إلى عبادة رب المكان والزمان سبحانه وتعالى ، فقد يحصل العبد على أجر العمل كاملا ولم يعمله لأن قلبه كان متعلقا بهذا العمل ونيته خالصة في القيام به ولكن حبس عنه بما لا يد له فيه فينال أجرالعمل الذي صدق في الإقدام عليه كمن قام به سواء بسواء، بنيته الخالصة ، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجع من غزوة تبوك، فدنا من المدينة، فقال: ((إن بالمدينة أقوامًا، ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا، إلا كانوا معكم))، قالوا: "يا رسول الله، وهم بالمدينة؟!"، قال: ((وهم بالمدينة ؛ حبسهم العذر)) ، فلم يجدوا ظهرًا يركبونه (رواه البخاري (4423) ، ﴿ وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ﴾ [التوبة: 92]، وعن سهل بن حنيف: أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((مَن سأل اللهَ الشهادةَ بصدق، بلَّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه)) رواه مسلم (1909)، فنيَّةُ المؤمن خير من عمله، فبالنية الحسنة، وتوطين النفس على فعل الخير متى ما قدر عليه، يحصل الثواب والأجر به ما لا يحصل بعمل الجوارح. فهنيئا لمن تعلق قلبه بعبادة الله تعالى وامتلأ هذا القلب بحب الله ورسوله فلا ريب أنه سيحشر مع من أحب فلقد روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال: بينما أنا ورسول الله خارجين من المسجد فلقينا رجلًا عند سدَّة المسجد، فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال رسول الله: ((ما أعددتَ لها؟))، قال: فكأن الرجل استكان ، ثم قال: يا رسول الله، ما أعددتُ لها كبيرَ صلاةٍ ولا صيام ولا صدقة ولكني أحبُّ اللهَ ورسولَه ، قال: ((فأنتَ مع مَن أحببتَ)). وفي رواية أنس: فما فرحنا بعد الإسلام فرحًا أشدَّ مِن قول النبي: ((فإنك مع مَن أحببتَ)). وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: فأنا أحبُّ اللهَ ورسولَه وأبا بكر وعُمرَ؛ فأرجو أن أكون معهم، وإن لم أعمل بأعمالهم. ثالثا : السعي في قضاء حوائج الناس : فمن أجل الأعمال وأفضلها نفع الناس وقضاء حوائجهم وخاصة في هذه الأيام التي تحتاج إلى التعاون والتواصل بين الناس فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف وخير الناس أنفعهم للناس) رواه الطبراني في الأوسط ، وفي رواية من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( يا رسول الله أيُّ الناس أحبُّ إلى الله ؟ فقال : أحبُّ الناس إلى الله أنفعهم للناس ، وأحبُّ الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم ، تكشف عنه كربة ، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخ في حاجة، أحبُّ إلي من أن أعتكف في هذا المسجد - يعني مسجد المدينة - شهرا...) رواه الطبراني في الأوسط والصغير . فهذا الحديث يدل بوضوح على أن السعي في قضاء حوائج الناس أفضل من الاعتكاف، روى الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله عبادًا اختصَّهم بالنعم لمنافع العباد، يُقرهم فيها ما بذلوها، فإذا منَعوها نزعها منهم، فحوَّلها إلى غيرهم)) حديث حسن (صحيح الجامع للألباني، حديث رقم 2164). روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن نفَّس عن مؤمن كربةً من كرب الدنيا نفس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة ، ومن يسَّر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)) (مسلم، حديث رقم 2699)، قال الحسن البصري رحمه الله: "لأن أقضي لأخ لي حاجةً أحب إليّ من أن أعتكف شهرين" (قضاء الحوائج لابن أبي الدنيا ، ص 48، رقم 38). رابعا: تخصيص مكان في البيت للعبادة والاعتكاف لمن أراد الانقطاع للعبادة في هذه الأيام المباركة عملا بترخيص النبي صلى الله عليه وسلم للنساء الاعتكاف في البيوت ، وأخذا بالرأي الذي يجيز ذلك عند بعض الفقهاء احياء لهذه الشعيرة ، والذين اشترطوا لذلك شروطا منها : 1- تخصيص جزء من البيت كمسجد وأن يلتزم المرء هذا المكان ولا يخرج منه إلا لضرورة . 2- الانشغال بالعبادة كالذكر وقراءة القرآن . 3- تقدير هذا الأمر بقدره بمعنى استمراره باستمرار الحجر الصحي أو الظروف الداعية للاعتكاف في البيت وزواله بزوال هذه الظروف . فيا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي، يا شموس التقى والإيمان اطلعي، يا صحائف أعمال الصالحين ارتفعي، يا قلوب الصائمين اخشعي، يا أقدام المتهجدين اسجدي لربك واركعي، يا عيون المتهجدين لا تهجعي، يا ذنوب التائبين لا ترجعي، يا أرض الهوى ابلعي ماءك، ويا سماء النفوس أقلعي، يا بروق الأشواق للعشاق المعي، يا خواطر العارفين ارتعي، يا همم المحبين بغير الله لا تقنعي، ...، قد مدَّت في هذه الأيام موائدُ الإنعام للصوام فما منكم إلا دُعي: ﴿ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ ﴾ [الأحقاف: 31]. يا همم المؤمنين أسرعي، فطوبى لمن أجاب فأصاب، وويل لمن طُرد عن الباب وما دُعي ( . لطائف المعارف ص 233.). والحاصل أنَّ أبواب الخير وسبل الطاعات كثيرة ومتعددة، لا يحصرها شيء ولا تقتصر على مجرد الاعتكاف في المسجد فلا تحرموا أنفسكم من الفوز برضا الرحمن في هذه الأيام المباركة والله تعالى أسأل أن يعفو عنا وأن يجعلنا من الفائزين في هذا الشهر الكريم وأن يبلغنا ليلة القدر ،وأن يحفظ مصرنا من كل سوء ويرفع عنها وعن البشرية جمعاء هذا البلاء والوباء فهوعلى كل شيء قدير وهو نعم المولى ونعم النصير.