حدثني صديق جنوبي من ذلك الصنف المشعّ من المجاهدين المصريين، الذين ظلوا يقبضون علي كلمتهم كالقابض علي جمرة من النار، قائلا: إنه ذهب إلي قريته في أسيوط ليشارك شقيقه فرحته بعقد قران كريمته، وبينما كان يستعيد صور الأيام الخوالي في الطابق العلوي من البيت الريفي، خيّل إليه بغتة من عنف الاهتزازات ودوي الطلقات، أن البيت يتعرض لقصف من الجو، قبل أن يبادره شقيقه مهدئا وموضحا بأنه إمعان في إظهار مشاعر الفرح والكبرياء، وكالعادة التي غدت جارية أستأجر بضعة مدافع جرينوف ووضعها فوق سطح البيت لتكون نيرانهم البادية في الظلام، وأصواتهم التي تشرخ هدوء المكان، إعلانا عن الزفاف السعيد، وحين سأل صديق شقيقه مستنكرا عن مصدر الحصول علي هذه المدافع، أخبره أن ذلك أصبح يتم بشكل طبيعي عن طريق الاستئجار، وأن الأمر لم يعد مكلفا فإيجار المدفع ليوم كامل هو 250 جنيها فقط لا غير، وهو بذلك لا يزيد علي ثمن استئجار البندقية الآلية إلا بمبلغ مائة جنيه، طبعا دون حساب ثمن الطلقات التي تخضع للأعداد التي يتم إطلاقها، وهو أمر بدوره يعبر عن طبيعة المناسبة أو المهمة. أضاف صديقي الجنوبي منفعلا : تصور أنني عرفت أن هناك أكثر من زاوية قبليّة في المحافظة وجوارها، يمكنك أن تذهب إليها لتستأجر مدفعا أو بندقية، تقضي بها وطرا، إرهابا أو تهديدا أو قتلا، ثم تعيدها إلي أصحابها بعد أن تنهي مهمتك نظيفة من غير سوء، ولك أن تتصور أنه في هذا المناخ الجنوبي، الذي يكاد أن يكون مشبعا بفائض من السلاح أكثر من الخبز، قابلا للاستئجار قبل الاستخدام، يبادر هذا النفر من أهل الجماعات إلي تكوين شرطة بديلة من بين صفوفهم لحفظ الأمن، هذا النفر الذي يصعب تصور أن دم مائة وثمانين ضابطا وجنديا تم قتلهم غيلة بأطنان من الرصاص، في مديرية أمن أسيوط، قد جف فوق أيديهم حتي وإن كان 'قد' في الضمائر أو فوق الورق، وكأن قتلهم كان تقربًا وزلفي إلي الله. لقد قصدت أن يكون ذلك الحديث مدخلا واقعيا إلي قضية الأمن، فالقضية كما أري وأحسب، يتم التعامل معها بكثير من سوء الفهم أحيانا، وكثير من سوء النية غالبا، حتي إن مفاهيم الأمن ذاتها أصبحت ملتبسة ومشوهة وغارقة في سحب من الضباب. أولا: ليس ثمة شئ يمكن أن يقبض عليه باليدين اسمه الأمن، فهو وإن تحدد لمجاميع من المفاهيم، إلا أنه أقرب إلي المعني منه إلي المبني، ومن الصحيح أن مجلدات الأمن العام تقدم سنويا تقارير إحصائية لواقع الأمن الداخلي، تحدد أعداد وأصناف جرائم الجنايات والجنح والحوادث، وأوزان المضبوطات وأنواعها وتوزيعها الجغرافي، وكذلك نسب الضبط ومعدلات التنفيذ، ومن الصحيح أيضا أن ذلك من شأنه، أن يعين علي رسم منحنيات إحصائية صاعدة أو هابطة لواقع الجريمة، ومن ثم يساعد في الكشف عن طبيعة التحولات في صورتها داخل مرآة الواقع، وفي الإمساك بمسطرة لقياسها، لكن هذا كله لا يحيط بذلك المعني الدقيق لكلمة الأمن، ذلك أن الأمن شأنه شأن العدل الغالب عليهما معا، أنهما إحساس عام يسري في خلايا المجتمع، كما تسري الكهرباء، وأن كلا منهما شيء لا يعرف بذاته وحضوره، وإنما يعرف بغيابه ونقصانه. إن هناك ميزانا للعدل يطل من كل واجهات المحاكم، ولكنه ميزان فارغ، لا توجد في إحدي كتفيه مكاييل أو أوزان، فهو تعبير معنوي أكثر منه ترجمة مباشرة لنصوص القانون أو بنود الدستور، وهو ما ينطبق علي الأمن أيضا، فهو ليس مجرد إجراءات أو قوات أو أفعال حاسمة، لوضع القانون موضع التطبيق، وإنما هو تعبير معنوي عن السكينة والطمأنينة والاستقرار، ولذلك فإنه محسوس لا باللمس وإنما بالنفس، ولهذا مهما تكدست أرطال الشرطة في الميادين أو علي أبواب المؤسسات، فإنها لن تمنح قلوب الناس أمنا، لأن الأمن غائب بالمعني وغير قائم بالإحساس. ثانيا: إن الأمن ظاهرة معقدة ومركبة، تتداخل فيها عناصر عديدة يغلب علي أغلبها طابع التغيير أكثر من الثبات، وكمنتج لتداخل وتفاعل هذه العناصر، هو منتج إنساني، لكنه في صورته النهائية منتج سياسي، فهو متعدد الروافد، اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ونفسيا، وعلي مستوي الجغرافيا الاجتماعية والطبيعية والثقافية..الخ.. ولذلك فإذا كانت الشرطة في تعريفها العلمي، هي المجتمع المحترفة في صنع الأمن، فإن الأمن نفسه ليس من صنع الشرطة وحدها، لأنه في منتجه النهائي صناعة مجتمعية كاملة، ولأنه كذلك فإن العامل الأكثر تأثيرا في صناعته هو بنية السلطة السياسية القائمة، بخياراتها السياسية وتوجهاتها الاقتصادية والاجتماعية، التي تشكل في النهاية أبعاد ما يمكن أن يطلق عليه -تجاوزا-، الاستراتيجية الوطنية، فالحقيقة أنه حتي إذا لم تكن هناك استراتيجية وطنية معلنة للناس، أو واضحة عند أصحابها، فهناك في عمل السلطة وفي قراراتها وأدائها، ما يمكن أن يطلق عليه ' استراتيجية الحكم ' ولو كان الوطن خاليا منها، ولو كانت هي نفسها خالية من الشعب، أي لا تعبر إلا عن رؤي ومصالح قبيلة سياسية بعينها، وهو ما يعني أمرين مهمين للغاية، الأول، أن كل سلطة تصنع أمن مجتمعها علي مقاسها وعلي شاكلتها، فهي التي تحدد أولوياته وضروراته ومناسيبه وحدوده ودوائره، والثاني، أن الأمن نفسه هو أغلي سلعة يمكن أن ينتجها المجتمع، بفعل السلطة السياسية، وتآكل الإحساس بوجودها هو أغلي ثمن يدفعه المجتمع من ذاته، وهو ثمن لا ينمو بمرور الوقت كمتوالية عددية، وإنما كمتوالية هندسية، مع الوضع في الاعتبار أن الأخطاء الاقتصادية والاجتماعية، التي ترتكبها السلطات، يتحتم أن تدفع ثمنها سياسيا في يوم من الأيام. ثالثا: إن أعمال الأمن الداخلي بل معاركه، أيا كانت طبيعة الجبهات أو المواجهات، وحتي في حدود الحيز الجنائي المباشر، يستحيل أن تحقق نتائجها دون أن يتحقق لها أولا وقبل كل شيء، كسب الجمهور العريض في قواعده الشعبية الواسعة تفهما واصطناعا وتجاوبا، وهو أمر يرتبط ارتباطا مباشرا، بوجود قناعة عامة بأن ما تقوم به أجهزة الأمن وثيق الصلة بتحقيق مصالح عموم الناس، ويعبر بشكل صادق وواضح عن الانحياز لقيم العدل والقانون، وانفصام العمل الأمني عن هذه القناعة العامة، يكسبه قصورا في الأداء، وعقما في النتائج، إضافة إلي أهمية أن تكون هذه القناعة نفسها سارية في الفضاء الوطني، من الناس إلي الشرطة، بقدر انسيابها من الشرطة إلي الناس، ودون ذلك ومهما تعددت أشكال استخدام القوة، فإن مردودها لن تكون نتائجه إلا وبالا، ولا مزيدًا من اتساع الفجوات بين الشرطة والناس، ومزيدا من تآكل قدرات الشرطة، علي أن تحقق حدا أدني من الانضباط العام، علما بأن مقياس نجاح العمل الأمني، ليس الانضباط وحده، فدوره لا يقتصر علي ذلك المظهر الخارجي، لأن غاية العمل الأمني تتوزع علي معاني عديدة، بعضها إنساني خالص بحكم نزوعه الواجب لتحقيق أمن المواطن، وهو التعبير الأكثر تلخيصا لكرامته الإنسانية، وبعضها سياسي خالص بحكم دوره وواجبه في الانحياز إلي العدل والقانون، وبعضها وطني خالص بحكم أنه مطالب بمواجهة كافة ظواهر ومحاولات اختراق الداخل الوطني، وقد اتسعت وتعددت دوائرها ومنصاتها وأسلحتها، وبعضها عقائدي خالص بحكم دوره الواجب في حراسة منظومات القيم والخصوصية الوطنية. رابعا : إن الشرطة لا تعمل في الفراغ، ولكنها تعمل في فضاء وطني كبير، وإذا كانت مهمتها الحقيقية هي حماية الوطن والشعب، فإنها لا تستطيع أن تصل بمهمة الحماية إلي الحدود التي تتطلبها وظيفتها، بغير أن تشكل عقيدة الشعب الوطنية إطارا أوسع لحماية دورها وعملها، وذلك عن قناعة راسخة، ذلك أن وسائل الضبط الاجتماعي دون استثناء، لا تستطيع أن تفرض تأثيرها إيجابا وقبولا والتزاما، بغير قناعة البيئة الإنسانية والاجتماعية التي تعمل فيها، وذلك أمر في الحقيقة، قد يكون جانب منه متعلقًا بطبيعة أداء الشرطة لمهامها، وبعلاقاتها في حيز الواقع بالجمهور الذي تطوله أعمالها، لكن الجانب الأساسي فيه متعلق بطبيعة النظام السياسي والسلطة الحاكمة، فالسلطات لا تحكم بأدوات الضبط الاجتماعي، وفي مقدمتها الشرطة، وإنما تحكم بما يطلق عليه النظام المعنوي للسلطة، وإذا تآكل النظام المعنوي للسلطة، أي درجة القبول الشعبي بها، فإن أدوات الضبط الاجتماعي تفقد فاعليتها وتأثيرها، وتتحول البنادق في أيديها في لحظة الانهيار الكبير إلي قطع من الخشب والحديد. ودون شك فإن الشرطة بصيغ الأمر الواقع، تمارس بعضا من دورها في ظروف ضاغطة، بل في ظروف مجحفة، إذ كيف يتسني لها أن تؤدي وظائفها المجتمعية الحيوية، في ظل تآكل مضطرب للنظام المعنوي للسلطة الحاكمة، وفي مناخ انحراف عام، يسوده بفعل هذا التآكل خلل مركّب في كافة التوازنات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويجري فيه العمل علي قدم وساق علي إحياء أنماط من الهويات الفرعية، لطمس جوهر الهوية الوطنية، ولذلك فإن مثل هذه الأقوال التي تسعي إلي تأسيس لجان شعبية تحت دعوي 'احتواء مؤامرة بانسحاب الشرطة، حتي يصبح الوطن أمام خيارين، إما الفوضي وإما نزول الجيش' هي أقوال زائفة، مدفوعة بقرون استشعار حقيقية، تنقل لأصحابها تآكل النظام المعنوي للسلطة، و اتساع محيط الغضب والرفض الشعبي لها. ليست هناك مؤامرة من جانب الشرطة علي النظام، ولكن هناك مؤامرة من جانب النظام وحلفائه علي الشرطة، وآية ذلك ليس فقط هذا التوجيه المحبط للنائب العام، بتحريض الناس علي أن تؤدي بنفسها وظيفة أجهزة الضبط الاجتماعي، وليس فقط ذلك التوجه الذي يتنادي به ويتحلّق من حوله حلفاء النظام، لتشكيل لجان أمنية شعبية من خلصائهم، ولكن آية ذلك تتوزع بين توجهات عملية، وعدة مشاريع قانونية، وما ظهر إلي حيّز النور من الأخيرة من بينه، موافقة مجلس الوزراء مبدئيًا علي تشكيل جهاز شرطة قضائية، يضم ضباطًا من الداخلية إضافة إلي آخرين، يدفع بهم النظام إلي داخل الجهاز، بعد أن يتلقوا تدريبًا في أكاديمية الشرطة، لينفصل الجهاز الجديد تماما عن الداخلية، ويتلقي أوامره من جهات خارجها، مع تمتعه بالضبطية القضائية، وهو ما يعين كسر جانب من جهاز الشرطة، في إطار عملية تفكيكه، ومن بينه مقترح بقانون تقدم به أحد أعضاء مجلس الشوري من الحرية والعدالة، بإنشاء جهاز خاص يطلق عليه الأمن المصري يتبع رئاسة الجمهورية مباشرة ويضم جميع أقسام الشرطة والمباحث الجنائية، ويتم دمج المنتمين إلي الجماعة من خريجي كلية الحقوق إليه، بعد حصولهم علي دورات تدريبية، وهو الأمر الذي سيقلص ما تبقي من دور وزارة الداخلية في الإشراف علي عدد من الإدارات الخاصة بالخدمات الأمنية، التي تقدم للمواطنين مثل الجوازات والتموين والمرور، إضافة إلي مشروع قانون آخر يمنح شركات الأمن الخاصة التي تضخمت بشكل سرطاني خلال العام الأخير، حتي غدت بالمئات حق الضبطية القضائية. والحقيقة أننا إذا أضفنا إلي كل ما سبق، بعضًا من التوجهات العملية، التي أخذت منحي تفكيكيًا واضحًا، لا للشرطة وحدها وإنما لمنظومة الأمن كلها، علي غرار فصل العقل الأمني لوزارة الداخلية، المتمثل في الأمن الوطني، عن الوزارة نفسها، وإلحاقه وظيفيا برئاسة الجمهورية، بل محاولة إخضاع قوات مكافحة الشغب بشكل مباشر لها، وفصم عري العلاقة بين الأمن الداخلي والأمن الخارجي، والذي تجلي واضحا في استبعاد وزير الداخلية النابه 'أحمد جمال الدين' بعد أن رفع يده لتعانق يد الفريق السيسي في أكاديمية الشرطة، وتجريد مؤسسات منظومة القوة في الدولة، من صيغ تنظيم التعاون بينها، والإبقاء علي مصب واحد تنصب فيه كل تقارير أجهزة الأمن وهو رئاسة الجمهورية ومن ثم مكتب الإرشاد والتنظيم الدولي، وتوجيه جبهة المجهود الرئيسي للشرطة وغيرها من منظومة الأمن، إلي اتجاه بعيد عن جبهة المجهود الرئيسي الحقيقية، التي تتطلبها حاجات الوطن وناسه، وكل ذلك في الحقيقة إنما يعني تخطيطًا ممنهجًا لتجريد الأمن من أمنه وتفكيكه وتمزيق كيانه، وكسر وحدة الاستراتيجية الأمنية وبناء كيانات أمنية بديلة، يمكن أن يعالج الوقت الذي يحتاجه إنضاجها وقيامها، بسد الفراغ المترتب علي ذلك بما يسمي باللجان الأمنية الشعبية. إن الذين سيعاونون أو يتعاونون في إنضاج هذا المخطط العدائي للوطن، عن سوء تقدير أو سوء نية، لن يرحمهم الشعب، ولن يغفر لهم التاريخ، فجوهر القضية هنا من أولها إلي آخرها، هي قضية الولاء، أي الولاء لمن، للوطن، أم لهذا النفر الذي يريد أن يعيد تفصيل مصر قميصا علي مقاس بدنه القزم، وهو شراع قارب التاريخ الإنساني كله. أعرف أن الولاء يشتري أحيانًا بالإكراه والتضليل، ولكنه يشتري في أحيان أخري بالسلطة والمال، ولكن أي سلطة مهما علت، وأي مال مهما تضخم، لا يعادل السقوط في حفرة من الجحيم. Email : [email protected] Site: ahmedezzeldin.com