حرائق وخرائب ودماء، ليست إلا حصاد نزعة استحواذ وطمع واستعلاء، يدفعها عقل منغلق، حتي ليكاد ينطبق عليه قول أبو العلاء المعرّي: أعمي يقود بصيرا قد ضل من كانت العميان تهديه لكنه ليس عمي الأبصار، وإنما عمي القلوب التي في الصدور، لأن الدروس أصبحت مكررة، والنتائج بدت سافرة، والوقائع غدت ناطقة، لكننا أمام فشل لا يتعلم من فشله، واستكبار يتحصّن بكبره، وذوات معتلّة، تنقل عللها وتوزع جراثيمها في الفضاء، كأنها أرغفة الخبز، علي شعب تنهش أظفار الجوع في روحه المقرورة، المفزّعة، قبل جسده وجوانحه. هذا العقل وهذه النزعة، التي تأخذ مصر من حفرة إلي أخدود، ومن نهر ماء إلي بركة دماء، ومن توتّر وانشداد، إلي فوضي وصدام، ومن مذبحة إلي مجزرة، ومن كارثة صغري إلي كارثة كبري، لتنتصب في منتصف الطريق المنزلق صورة بورسعيد، وكأنها راية المرحلة والنموذج الهادي لمصر، والذي هو مجرد سيناريو صغير، يتحقق واقعًا علي الأرض، ليغذي السيناريو الأكبر، الذي يراد له أن يتحقق في بدن مصر كلها، فلا يزال الهدف الاستراتيجي للقوي المضادة لمصر قائمًا، وهو تفجير مصر من داخلها، ونقلها إلي حالة شاملة من الفوضي، وكسر إرادتها، وضرب شعبها بشعبها، وجر منظومة القوي فيها وفي مقدمتها جيشها العظيم، إلي حريق لا يطول اللحم فحسب، وإنما يأكل العظم. ولهذا فهو عقل ظل مجبولا علي ألا يري في مرايا الوطن غير صورته، ولا يعنيه غير سيادته، ولا يهمه سوي سطوته واستحواذه، هذا العقل القادم من أجرومية المتون، الصاعد من ظلمة الخنادق منغلقًا علي ذاته وعلي مصالحه وعلي وجوده، متوهمًا أن مصر غدت مغنمًا، وأن شعبها لم يعد سوي فريسة سهلة، اكتمل صيدها وسقطت في كمين بدائى، ليس إلا حفرة مغطاة بجذوع وفروع الأشجار اليابسة. قل لي بربك –أولا– أي عقل هذا الذي لا يتورع أن يجمع خلال حفنة أيام متتالية، بين قرارات وإجراءات ينتهي حاصل جمعها بالناس إلي تآكل حاد في قدرتهم علي إشباع ما تبقي من حاجاتهم الأساسية، فيجمع في وقت واحد بين تجريف قيمة العملة الوطنية، بإلقائها في سوق مفتوح غير متوازن، وبين رفع الدعم عن قوت الناس ووقود حياتهم، وبين دفع سقف الضرائب فوق رؤوس فقرائهم، واضعًا فوق أكتاف شرائح الطبقة المتوسطة والطبقات الدنيا، في كومة واحدة، صخور أعباء جديدة تنوء بحملها العصبة أولو القوة، لينتقل الناس بين النوم واليقظة، من حالة يرممون فيها حلم الثورة، عدالة واستقرارًا وحرية وهم بين اليأس والرجاء، إلي حالة أخري، هي حالة أقرب إلي الاصطدام بجدار من اليأس المصفح، ليس أمامهم سوي أن يقرعوا رؤوسهم المجهدة فيه حتي تدمي، ليشتعل الغضب نارًا وقودها الناس والحجارة؟! وقل لي بربك –ثانيا– أي عقل هذا الذي يري أن الحل الحقيقي لأي مشكلة مستعصية، إنما يكمن في تجاهلها وغض البصر عنها، وترك نارها المتأججة تأكل نفسها، فالتجاهل هو عربات الإطفاء، والوقت هو ماؤها، لأن النار سوف تبرد بمرور الوقت، وما سيتبقي من رمادها سوف تكنسه الريح السواحة بعد أيام، إذا تخلفت مقشات عمال جمع القمامة عن إزالته؟! وقل لي بربك –ثالثًا– أي عقل هذا، الذي يشيع في كتلة الوطن المتماسكة كل هذا القدر والنوع والصنف من ثنائيات التقسيم، ليضعه فوق لوحة كلوحة الشطرنج، مربعات متتالية بالطول والعرض، وقطاعات متعددة متواجهة بالهوية والعقيدة والهدف، بعد أن انتفخت أوردة التقسيم، مشحونة إلي حدود غير مسبوقة، فلم يعد التقسيم في أمة لم تنقسم عبر تاريخها، منذ أن نشأت بذرة حضارية في رحم التاريخ، وقفًا علي ثنائيات دينية أو مذهبية أو طائفية أو اجتماعية، وإنما طال التقسيم فيها حتي إحداثيات الجغرافيا بين شمال وجنوب، وشرق وغرب ومركز وأطراف؟! وقل لي بربك –رابعًا– أي عقل هذا، الذي يحاصر مؤسسات القضاء ويرجمها بكل أحجار الزيغ عن الحق والنزوع إلي الهوي، حد التآمر علي الدولة، فيغتصب شرعيتها، ويهز سلطانها، ويشكك في سلامة مقاصدها، ويصب علي رأسها كل صور المهانة، فيترك العابثين والمرجفين يتهجمون علي أبوابها، ويسلبون قضاتها حقوقهم، في السكينة والحلم والحكم، ثم ينتظر من الناس أن تنزل أحكامها علي صدورهم بردًا وسلامًا فيتقبلونها برضا، مؤمنين بأنها منطوق الحقيقة، ومنطق العدل؟! وقل لي بربك –خامسًا– أي عقل هذا الذي يستأسد في مواجهة معارضيه في الداخل الوطني، وقد اتسعت دوائرهم حتي كادت تشمل ما عداه وحده، بينما ينحني خضوعًا أمام إرادات خارج الحدود لقوي إمبريالية استعمارية، وأصنام إقليمية تابعة لها، وهي تسعي جميعها إلي تحويل مصر إلي مزرعة خاصة لأطماعها، ومشتل لمصالحها، ومفردة طائعة في استراتيجيتها الإقليمية والكونية، وفق صيغ واضحة تزعزع أسس الاقتصاد الوطني، وتقوّض قواعد الأمن القومي، وتنتزع من مصر المكان قبل المكانة، إذ كيف يمكن لعقل وطني أن يسعي إلي تخفيض التناقضات مع الخارج علي حساب تأجيج وإشعال التناقضات في الداخل؟! وقل لي بربك –سادسًا– أي عقل هذا الذي يفرض علي قوات الشرطة وأجهزة الأمن أن تصد بأدوات القمع، ما ينبغي أن يُصد بالانفتاح والحوار وأساليب العمل السياسي، ليعيد ترسيخ تلك الصورة الذهنية القديمة للشرطة في أذهان الناس علي أنها أداة قمع لكل نظام، سابق أو قائم أو لاحق، ولتدفع الشرطة ثمنًا باهظًا، في شكل مزيد من الرفض الشعبي، والانكسار النفسي، وبالتالي تحجيم الفاعلية، أي لتدفع من نفسها بنفسها، لا تكلفة انهيارها، الذي لم يحدث في الواقع وإنما تكلفة انهيار النظام المعنوي للسلطة في عيون الناس، تحت ظل قناعة سابقة تم قبرها في ثورة 25 يناير، من أن قاطرة الحل الأمني يمكن شحنها بوقود إضافي، لتجرّ قاطرة الحل السياسي، التي أصبحت كومة من الحديد، لا وقود فيها ولا نبض؟! وقل لي بربك –سابعًا– أي عقل هذا الذي يريد أن يعيد بناء الحكم والدولة والمؤسسات، وفق منطق الاستبعاد، بينما لا يعني منطق الاستبعاد أن صاحبه يؤمن بأنه يمتلك الحقيقة وحدها، وإنما يعني أنه يمتلك إضافة إلي ذلك معيار الحقيقة، وهو ما يشكّل جوهر المشكلة لأنه يعني اغتراب الحكم أو الحزب أو الجماعة عن الواقع الذي تعيش فيه، وهي حالة تدفعها تلقائيًا إلي التعبير عن نفسها، في شكل جديد من أشكال الهيمنة، الأمر الذي يؤدي تلقائيًا أيضًا إلي إخضاع المجتمع كله، إلي مزيد من التدهور سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا، لتتعاظم الفروق في البنية النفسية، بين تياراته وقواه وطبقاته، ولتشكّل بنفسها المعاول الأكثر فاعلية في هدم أبنية الدولة ذاتها؟! يقتضي واقع الحال الدامي الذي نتنفسه، ألا نتعفف أو نجبن عن قول الحقيقة، مهما كانت غير مرضية أو جارحة، فالحقيقة الواضحة عندي دون تجنّ ودون افتئات، أننا أمام رئيس مقيّد، وهو مقيّد للأسف من جانبيه، مقيّد بإرادة نفر متسلط ونافذ علي قمة جماعته، ومقيّد بما قطعه هذا النفر للولايات المتحدةالأمريكية من عهود، وما أبرمه من عقود مع دولتين إقليميتين هما قطر وتركيا، ولذلك فهو يعمل في أربعة عوالم غير متوازنة، لكل منها مطالبه، وطبيعته وقوانينه، الأول، العالم الفوقّي الذي يتشكل من خيوط العلاقات غير الملتئمة مع النخب والقوي السياسية برؤاها ومطالبها وشروطها، والثاني، العالم التحتي الذي يتشكل من أوضاع ومطالب وحاجات الناس في القواعد الشعبية والطبقات الاجتماعية، والثالث، العالم غير المرئى الذي يتحدد بما تطرحه أجهزة ومؤسسات الدولة الباقية من رؤي وخيارات وضرورات، ثم الرابع، ذلك العالم السري، الذي يتشكل من الروابط والضوابط والمحددات، التي تفرضها الجماعة وتحالفاتها في الداخل وعبر الحدود، ومن المؤكد أنه ليس ثمة نقطة توازن، بين هذه العوالم المختلفة التي يسير كل منها بقوانينه الذاتية، لكنه من المؤكد أيضًا من استقراء مسيرة أشهر سبعة ماضية، أن خط التوجه العام سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وأمنيًا وفكريًا، هو الأقرب بكل تأكيد إلي التعبير عن الاستجابة للمحددات والضوابط، التي تتشكل في بؤرة من هذه العوالم الأربعة وهو العالم السري الخاص بالجماعة وبذلك النفر المتسلط عليها، وإذا كان ذلك يحتاج إلي تدليل أو برهان، فالدلائل واضحة والبراهين ساطعة، بل لعل بعض هذه البراهين والدلائل، يلتقي في نقطة واحدة دون تفصيل، مع البحث عن تفسير لكل الوعود المعلنة، التي قطعها الدكتور مرسي علي نفسه ولم يبر بها، ولجميع القرارات والإعلانات، التي أصدرها وحصَّن بها سلطته دون سند من الدستور أو القانون. ولعلي أضيف إلي ذلك شواهد أخري فقبل الانتخابات الرئاسية، خرج المرشد العام للجماعة علي الناس بتصريح مثل نبوءة متوعّد مدهشة، فقد كان نصه يقول حرفيًا: 'إن رئيس الجمهورية القادم سيكون أحد التروس الصغيرة جدًا التي تدور في مجموعة تروس كبيرة، وإذا عاكس سير هذه التروس، ولم يلبِ المطالب سنكسر له أسنانه ' وعندما خرج الدكتور مرسي، وهو مرشح رئاسي في المرحلة الثانية من الانتخابات، ليعلن أمام أجهزة الإعلام قبوله المبدئى بمجموعة من القواعد الضامنة، كانت قد وضعتها مجموعة من قادة الأحزاب والقوي السياسية، أمام المرشحين الرئاسيين، بوصفها شرطًا للانحياز في التصويت لأحدهما في حالة قبوله بها، لم تمضِ غير ساعة واحدة، حتي خرج المتحدث الرسمي باسم الجماعة إلي شاشات الإعلام، ليعلن الرفض المطلق لهذه القواعد التي قبلها مرشحه في نبرة لم تخلُ من الاستهزاء بها، وقد تكرر الأمر نفسه قبل أيام ماضية معدودة، مع دعوة رئاسية جديدة، لتوسيع دائرة ما يُسَمَّي بالحوار الوطني، وتأكيد الالتزام بما ينتهي إليه من توافق، حيث لم يلبث المتحدث الرسمي باسم الجماعة ذاته غير سويعات قليلة، ليخرج علي الناس معلنًا أن شرعية اتخاذ القرارات والقوانين، مكانها المنفرد الوحيد هو مجلس الشوري، لا غيره ولا سواه، وهو إعلان لا يعني فقط إنهاء الحوار قبل أن يكون ممكن التحقق، ولكنه يعني في المرتين سواء أكان الدكتور مرسي مرشحًا رئاسيًا أو رئيسًا فعليًا، أن قاطرته يتحتم عليها أن تسير سرعة وتوجهًا فوق القضبان التي تحددها الجماعة، وأن علي الرأي العام أن يدرك بوضوح، أن هذه هي الحقيقة الأبدية، التي لا تقبل تبديلا، وليس بمقدور الرئيس نفسه، أن يعلق عليها فضلا عن أن ينفيها. ولهذا فإن الذين يبحثون عن حل حقيقي وواقعي لإخراج الوطن من المحنة التي يساق إليها، فوق سلالم من الفوضي والتخريب والجنون، لن يجدوا حلا خارج التفاعلات المحسوبة في إطار علاقات هذه العوالم الأربعة، غير المتوازنة وغير المتطابقة، وإذا كان التوازن بينها جميعها غير وارد والتطابق غير ممكن، فإن كليهما وارد وممكن بين عالمين اثنين وربما ثلاثة من بينها، إذا تم إخراج العالم الرابع، وهو العالم السري بضوابطه ومحدداته، وفيما أعتقد فإن هذا أمر يبدو عصيًا علي التحقق، لكن بقاءه سوف يذهب بالوطن إلي اضطراب مفتوح، وفوضي شاملة. لقد كتبت في السادس من فبراير من العام الماضي في هذا المكان، محاولة لتشريح مجزرة بورسعيد، ولقد كان واحدًا من أهم العلامات الدالة التي أشرت إليها في هذا الحيّز، أن جانبًا من التخطيط والإعداد المسبق، لتحويل نتائج هذه المذبحة إلي مادة ملتهبة لتغذية العنف والصدام في الشرطة والجيش، كان معنيًا بالتركيز علي مدن القناة، وهو أمر لا تخفي دلالاته ولا أبعاده، في الهدف الاستراتيجي العام، لهذه الجريمة المنظمة، سواء علي مستوي مدن القناة، ذاتها بخلخلة أوضاعها الأمنية الداخلية، وتهيئتها لوثوب مطامع أجنبية بالتدخل، أو علي المستوي الاستراتيجي العام في إطار نظرية مضادة متكاملة يمكن أن يكون منطوقها: 'الضغط الشديد علي القلب، مع الشد الشديد للأطراف ' ويقيني أن النظرية لا يزال يجري تفعيلها، وتنفيذها بقوة أشد، وأدوات أمضي، وتخطيط أخبث، في إطار المشهد الذي يتشكل بالحديد والنار والدم أمام عيوننا. لقد أضفت في هذا الحيزّ أيضًا وبالحرف الواحد: 'إن أولئك الذين يسعون إلي إزاحة الجيش من المعادلات السياسية والاستراتيجية للوطن، ليصعدوا منفردين فوق سلالم الفوضي والغضب إلي قمة السلطة، عليهم أن يدركوا أنهم إذا نجحوا في ذلك فلن يقدّر لهم أن يمكثوا طويلا عند القمة، فسيسقطون من حالق، علي سلالم فوضي أشمل وغضب أشد !'