خلال 30 يوما.. إلزام ملاك العقارات بإخطار الضرائب حال استغلالها    تداول 11 ألف طن بضائع عامة ومتنوعة بموانئ البحر الأحمر    الفلاشا.. نموذج ازدواج معايير الدولة العبرية    الوعي التكنولوجي.. وسيلة الأمان في العالم الرقمي    القاتل الأبيض.. 10 ألاف ضحية له يومياً في أوروبا    استقرار سعر الدولار في مصر مقابل الجنيه اليوم    محافظ جنوب سيناء يبحث دعم مستثمري الإنتاج الحيواني مع رئيس البنك الزراعي    «العمل»: «سلامتك تهمنا» لنشر ثقافة الصحة المهنية بمنشآت الوادي الجديد    رابط نتيجة الصف الرابع الابتدائي الترم الثاني 2024.. الموعد وكيفية حساب الدرجات    رئيس تايوان يؤكد رغبته في العمل مع الصين    حافلات مان سيتي جاهزة للاحتفال بالدوري الإنجليزي فى شوارع مانشستر.. صور    دبلوماسية استثمار الأزمة.. مصر عززت ثوابت فلسطين من رحم العدوان على غزة.. الاعتراف الثلاثى بالدولة امتداد ل"ثلاثيات" القاهرة خلال 10 سنوات.. والقضاء الدولى آلية تعزيز الشرعية وإعادة الاتزان لنظام عالمى مختل    الصحف الأوروبية صباح اليوم.. كيكر: كومباني يقترب من تدريب بايرن وريليفو توضح أزمة أراوخو في برشلونة    تشكيل الإسماعيلي المتوقع لمواجهة البنك الأهلي اليوم في دوري نايل    "أطفال وقائد".. 4 اختلافات بين مراسم تتويج الأهلي بكأس أفريقيا والزمالك بالكونفدرالية (صور وفيديوهات)    الترجي التونسي: لنا ضربة جزاء لم تحتسب.. والحكم أثر على نتيجة المباراة    متى تقام مباراة لاتسيو ضد ساسولو في الكالتشيو اليوم الأحد ؟    نائب رئيس حامعة بنها يتفقد سير امتحانات الفصل الدراسي الثاني بكلية التربية    غدًا.. أرقام جلوس امتحانات الثانوية العامة 2024 بالمديريات    فلكيًا.. موعد وقفة عرفات وعيد الأضحى المبارك وعدد أيام الإجازة    حكم نهائي في قضية زوج المذيعة أميرة شنب (تفاصيل)    قوافل بالمحافظات.. استخراج 7388 بطاقة رقم قومي و21 ألف "مصدر مميكن"    تسليم ملابس الحج إلى 46 فائزًا بقرعة الجمعيات الأهلية في جنوب سيناء    المشدد 5 سنوات ل3 متهمين بالتعدي على عامل وإصابته بعاهة مستديمة بمصر القديمة    ل أصحاب أبراج السرطان والحوت والعقرب.. مَن الأكثر عاطفة وتعرضًا للإصابة بالأمراض النفسية؟    الليلة.. "الأيام المخمورة" و"الكلب النائم" بالسامر ضمن مهرجان نوادي المسرح    زكى القاضى: الرئيس السيسى تصدى لإتمام مشروع توشكى وانحاز للوطن والمواطن    أحدث أفلام عمرو يوسف يقفز بإيراداته إلى 73.5 مليون جنيه.. تعرف على تفاصيله وقصته    جولات متنوعة لأتوبيس الفن الجميل بعدد من المتاحف هذا الأسبوع    فيولا ديفيس وجوي كينج يزينان السجادة الحمراء لحفل ختام مهرجان كان.. صور    اعرف قبل الحج.. الركن الثاني الوقوف بعرفة: متى يبدأ والمستحب فعله    وزير الأوقاف للأئمة والواعظات المرافقين لبعثة الحج: مهمتكم خدمة ضيوف الرحمن    برامج بيت الزكاة والصدقات تغطي احتياجات 800 أسرة بقريتين بالشرقية    وزير الري: تحسين أداء منشآت الري في مصر من خلال تنفيذ برامج لتأهيلها    قافلة طبية مجانية بقرية العلامية مركز بيلا    العمل: استمرار نشر ثقافة السلامة والصحة المهنية في المنشآت بالمنيا    وزير الأوقاف: التعامل مع الفضاء الإلكتروني بأدواته ضرورة ملحة ومصلحة معتبرة    نقابة الصحفيين بالإسكندرية تكرم الفائزين بالمسابقتين الثقافية والدينية (صور)    البورصة تصعد 1% منتصف تداولات اليوم    مكتبة الإسكندرية تشارك في "المهرجان الدولي للطبول " في دورته ال 11    منتخب المصارعة الحرة يدخل معسكرا مغلقا بالمجر استعدادا للأولمبياد    تقلبات الطقس: عودة الأجواء الشتوية ونصائح للتعامل معها    أبوالغيط يدعو إلى تكاتف الجهود للنهوض بالشراكة العربية الإفريقية نحو آفاق أوسع    وزير قطاع الأعمال يتابع تنفيذ اشتراطات التصنيع الجيد بشركة القاهرة للأدوية    محافظ الجيزة يكلف عفاف عبد الحارس مديراً لمديرية الإسكان    وزير الصحة يبحث مع نظيره العراقي سبل التعاون في تصدير وتسجيل الأدوية (تفاصيل)    ضبط قضايا إتجار بالعملات الأجنبية بقيمة 8 ملايين جنيه خلال 24 ساعة    مواجهة عربية محتملة.. كيف يتم تحديد منافسي الأهلي في كأس إنتركونتيننتال للأندية؟    استفزاز خطير.. كوريا الشمالية تتهم سيئول وواشنطن بالتجسس عليها    سعر الريال السعودى اليوم الأحد 26-5-2024 أمام الجنيه المصرى    دراسة: الغربان يمكنها التخطيط لعدد نواعقها مسبقا    وزيرة الهجرة تستقبل اثنين من المستثمرين المصريين بالولايات المتحدة الأمريكية    أدعية الطواف السبعة حول الكعبة وحكم مس البيت.. «الإفتاء» توضح    أنطونوف: بايدن يهين الشعب الروسي بهجماته على بوتين وهذا أمر غير مقبول    موعد عيد الأضحى ووقفة عرفات 2024.. ومواعيد الإجازات الرسمية لشهر يونيو    للقارة كبير واحد.. تركى آل الشيخ يحتفل بفوز الأهلى ببطولة أفريقيا    زاهي حواس: إقامة الأفراح في الأهرامات "إهانة"    الرئيس التونسى يقيل وزير الداخلية ضمن تعديل وزارى محدود    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



موقعة الكشري..!!
نشر في الأسبوع أونلاين يوم 06 - 02 - 2013

في هذا المشهد الغاضب الدامي الكبير، ثمة مشاهد صغيرة للغاية لكننا لا نلتفت إليها بالقدر الذي تستحق، رغم أنها تبدو كالعدسة المكبرة أكثر قدرة علي أن تعكس غور الأعماق البعيدة للمشهد الكبير، وأكثر تعبيرا وتفسيرا له من كل صوره المباشرة، التي تسكب نفسها في عيوننا المفتوحة، وقد يكون هذا المشهد الصغير الواقعي الذي سجله أحد المراسلين، والذي يمكن أن نطلق عليه 'موقعة الكشري' واحدًا من بينها.
في أوج الصدام المحتدم علي الطرف الشرقي من كوبري قصر النيل، كان علي الطرف الآخر من رأي أن هناك فرصة سانحة كي يحصل علي سوق صغير أكثر حاجة واستعدادا لقبول سلعته، وأن عليه أن يتحدي الخطر ويذهب إليه بنفسه، وهكذا تقدم من الطرف الآخر قرب حافة الصدام، ورقعة الكر والفر، تحت سماء ملبدة بسحب الدخان، رجل يتجاوز نصف عمره، تركت بصمات الزمن والفاقة علي وجهه خطوطًا عميقة كأنها آثار ضربات بالكرابيج، وهو يدفع أمامه متثاقلًا مكعبًا من الخشب علي عجلات متآكلة، وضع فوقها أكياسا صغيرة من البلاستيك، في كل منها عبوة حفنة من 'الكشري'
كان الرجل يواصل سيره بثبات نحو حافة الصدام، ربما ممنيًا نفسه، بأن أشباح الصبية اليافعين، المنغمسين تحت طبقات الدخان، ولعبة الكر والفر مع الجنود، سوف تغالب رائحة الكشري في أنوفهم رائحة القنابل المسيلة للدموع، وأنهم سرعان ما سيدفعهم خواء بطونهم إلي الخروج إليه، وأنه بعد دقائق معدودة، سوف يعاود جر عربته في الاتجاه الآخر، وقد استبدل أكياس الكشري بها ببضعة جنيهات، يعود بها فرحًا مسرورًا، وربما كان يفكر في أن ذلك سيحفزه علي أن يعاود الكرّة بالعربة وأكياس الكشري، ذهابا وإيابا مرات عديدة.
عندما وصل قرب الحافة، كان عليه أن يرفع صوته الخشن عاليا منبها إلي وجوده، مناديا علي بضاعته، وقد فعلها مرات قبل أن تمتد يد صغيرة مجهولة، كأنها خرجت من بين فتحات حديد الكوبري، لتختطف واحدًا من الأكياس، وتختفي كأنها ذابت في الدخان، وقبل أن يستوعب الرجل ما حدث، كانت كل فتحات حديد الكوبري، قد تحولت إلي أياد صغيرة، قطفت في لحظة واحدة كل أكياس الكشري، وذابت بدورها في الدخان.
وحين حدق الرجل في مكعبه الخشبي، وقد تهشمت قوائمه، ووجده فارغًا تمامًا أصابه الدوار فجلس علي رصيف الكوبري للحظات قصار، ثم أدركه خوف مباغت علي ما تبقي من رأسماله، وهو عربته الخشبية المحطمة، استجمع قواه وحملها مهرولا نحو الناحية الأخري من الكوبري، بعيدا عن الأسدين الصامتين علي جانبيه.
والسؤال : هل أخطأ الرجل في تقديره، وهو يغالب سكرات الحاجة، إلي أن يفتح لنفسه سوقا صغيرًا يتكسب فيه جنيهات قليلة، بعيدًا عن هذا السوق الكبير، الذي طغت فيه التماسيح الكبيرة، ولو كان السوق الذي ظنه مضمخًا بروائح الدخان والدم؟ وهل أخطأ هؤلاء الصبية الصغار الذين استسلموا لنداء الطبيعة في بطونهم الخاوية، فتحولوا إلي لصوص واندفعوا بعنف باد، إلي أن يسلبوا الرجل بضاعته ورأس ماله، ليعود من حيث أتي مهزوما كسير الفؤاد؟
لكن السؤال الحقيقي، قد يطول مسارًا آخر، فمن المؤكد أن هؤلاء الصبية لم يقرأوا بيانات الأحزاب، ولا دعوات التظاهرات، ولم يعرفوا شيئا اسمه جبهة الإنقاذ، كما أنهم لم ينتظروا أن يمهد أحد فوق رؤوسهم غطاء سياسيًا، للجوئهم إلي العنف، من الناحيتين سواء في موقعة الكشري، أو في الموقعة المجاورة لها، في مواجهة الشرطة عند انعطافة الكوبري، فالحديث عن سقف للعنف، أو غطاء سياسي له، لا يخرج عن كونه محاولة للتغطية علي أسبابه الحقيقية في بيئة الواقع، بتحويل الأنظار إلي مبررات غير واقعية له في الفضاء، وهو أمر لا يعدو أن يمثل نزعة يائسة للتطّهر وغسل الأيدي، من حالة واسعة من العنف، متعددة الوجوه والصور، تتغذي علي حالة أكثر اتساعا، من اليأس والإحباط وفقدان الأمل، فالعنف أيا كانت صوره، في المحصلة النهائية، هو نطفة الفقر، ووليد الإحباط، والابن الشرعي لزواج اليأس والجوع، ولم تصنع هذه السلطة، منذ أن استولت علي مقاعد الحكم، غير أنها زرعت أفدنة واسعة من اليأس في صدور الناس، وحولت الفقر والجوع، إلي هواء مسمّم يتنفسونه في اليقظة والمنام.
لسنا أمام مسار تفاوضي، وإنما أمام مسار تصادمي، وهذه هي الحقيقة ساطعة وجلية، ولسنا أمام سلطة تسقط، وإنما أمام سلطة تتبخر، وقد تبخرت تماما في مدن القناة، كما هو واضح، ولكننا بالأمرين معا مسار التصادم والتبخر، أمام سعي منظم وممنهج لفرض حالة شاملة من الفوضي في ربوع مصر، تحول الحوار إلي احتراب، وتوسع من دوائر العنف، وحلقات الدم، وهذا هو الخطر الداهم الأكبر الذي يواجه مصر الآن، وتعلي من احتمالاته بيئة مشحونة علي نحو غير مسبوق، بغضب سائل في الطرقات، ليست له قيادة أو مرجعية معروفة يمكن التفاوض معها، وليس له إطار منظم يمكن احتواؤه، ويزيد من سرعة التهابه وإيقاع تفاعلاته، سلطة منكفئة علي ذاتها، لا تري كسابقتها أنها تحكم في الفراغ، وإنما إضافة إلي ذلك أنها قد حلت محل الدولة، وأن ما عداها، ليس دولة، وليس شعبًا، ولهذا فإن مبدأ الحوار الحقيقي ليس قائما في أجندتها، كما أن منطق التوافق، ليس له من نصيب لا في رؤيتها ولا في سلوكها، ولذلك فإن كل تلويح بالحوار، أو إعلان بالسعي إلي التوافق، ليس إلا مخادعة لكسب الوقت، وإلا مراهنة علي معارضة سياسية ليست موصولة بالقواعد الشعبية، التي أصبحت تفيض غضبا، وألما، ويأسا، وكما كان السعي إلي إخراج الجيش من المعادلات السياسية والاستراتيجية للبلاد، عملا ممنهجا، فإن ما يجري عمليا هو سعي موازِ لإخراج جميع الأحزاب والتيارات السياسية والاجتماعية، من التأثير في المعادلات السياسية القائمة، والحفاظ علي توجهها نحو المستقبل، اعتمادًا علي المنهج نفسه، وهو الاستبعاد والتهميش، وتلطيخ السمعة، في مقابل التمكين، والانفراد والاستحواذ.
غير أن المعضلة الحقيقية، ليس في إمكانية استبعاد و تهميش وتلطيخ سمعة المعارضة، بشكل أو بآخر، وإنما في مواجهة هذا الغضب والرفض، الذي يجري أمواجًا عالية في شوارع القاهرة وجميع المحافظات، وهي مواجهة لا سبيل لبناء أسوار عالية أمامها، سوي استخدام أدوات وأساليب العنف والمصادرة، غير أن المشكلة المزمنة في ذلك، أن قمعا وعنفا وفسادا، يهبط من أعلي إلي أسفل، من شأنه أن يصنع عنفا أشد وغضبا أقوي، يصعد من أسفل إلي أعلي، ويزيد من إمكانية أن تتحقق في الواقع نظرية 'بقع الزيت' التي تأخذ دوائرها المنفصلة في الالتحام طبيعيا في بيئة المجتمع، لتغطي وجهه كله بطبقة سميكة ومتصلة، من الرفض والغضب، المصحوبين بدوائر عنف أشد، وبرك دم أكبر، حيث يكون هدف مطارق السحق التي تنزل من أعلي إلي أسفل، هو أن تلحق بعموم الناس أعراض حالة المواطن 'صابر'، فتستباح عقولهم، وتسحق أجسادهم، وتغتصب كرامتهم، ويضيق رغيف الخبز في أيديهم، ثم يذهبون طائعين، وقد تخلل القمع أرواحهم المقرورة، لا ليقدموا شهادات ببراءة جلاديهم، وإنما ليكتبوا في أوراق رسمية قصائد حب فيهم، وغزلا في إنسانيتهم، وفي فيض مشاعرهم رقة وعذوبة.
إن كثيرين يرون بوضوح أبعاد استراتيجية 'التمكين' التي تدفع بها الجماعة دفعا في بنية السلطة والدولة والمجتمع، لكن أحدا لم يرصد بالقدر الكافي مظاهر وأبعاد استراتيجية أخري مصاحبة لها، هي أشد ما تكون تلازما وتزامنا معها، وهي 'استراتيجية التأمين' فلا بقاء لما ينتزعه التمكين دون وجود حراس أشداء علي جوانبه، وظيفتهم الأساسية هي التأمين، وهي عملية تجري علي قدم وساق، من بين مفرداتها، اقتلاع الخصوم، ترويع الشارع، إرهاب الإعلام، والعصف بدولة القانون، وامتطاء ما يمكن امتطاؤه من منظومات القوة، وفي أعماق المشهد الذي نواجهه بمقدورك أن تبحث عن هذه المفردات، وأن تراها رؤي العين، وأن تمسك بها، لتتأكد أن استراتيجية 'التأمين' هي العنصر الغالب الذي يواجهنا، والذي يغلب عليه بالضرورة طابع القوة.
لقد قالت 'الإيكونمست' إن الإضرابات في مصر، تبدو أكثر قتامة وأكثر فوضوية، من انتفاضة عام 2011، وقالت 'الفاينانشيال تايمز' أن الإضرابات في مصر دخلت دائرة مفزعة، وأنه إذا لم يصل مرسي والمعارضة إلي توافق فسيسقطان معًا، بينما أكدت 'نافي بيلاي' المفوضة السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، أنه إذا أهدرت الحكومة المصرية فرصة الوصول إلي توافق، فإن الأمر سيمضي إلي وضع ضبابي مثير للتشاؤم، وإذا كانت 'واشنطن تايمز' قد علّقت علي الموقف الأمريكي مما يحدث، بأن أوباما يشاهد الشتاء العربي الدموي، بغير اكتراث، فإن 'تايم' أكدت أن أعمال العنف المميتة في الشوارع المصرية تهدد بأن تزداد، سواء لأن خطط الرئيس مرسي لإنقاذ الاقتصاد متوقفة علي اتفاقه مع صندوق النقد الدولي، وهذا الاتفاق يتطلب فرض إجراءات صارمة، ستزيد من تآكل مستويات المعيشة لكثيرين من هؤلاء الذين يطالبون بالفعل بالإطاحة به، إن هذا كله يعني أن هناك إحساسًا قويًا في الإعلام الغربي، بأن مصر تُدفع دفعًا فوق منزلق خطر إلي حالة من الفوضي، يتزامن معه عدم اكتراث عبَّرت عنه 'الواشنطن تايمز' من موقف أوباما مما يشاهده، أما السيدة 'هيلاري كلينتون' فقد بررت الموقف كله، بعد أن أثنت علي الكثير من النوايا الطيبة لدي د. مرسي، خاصة تعاونه في موضوع وقف إطلاق النار في غزة، بأن جماعة الإخوان تفتقر إلي خبرة الحكم، فلم تتوفر لهم هذه الفرصة من قبل، وبالتالي فلا مانع لديها من أن يمتثل الشعب المصري للجماعة، وأن يتحول إلي مادة خام تتعلم فيها، وعلي حسابها، لكنها عندما استدارت في حديث آخر مع 'سي. إن. إن' إلي الجيش المصري واعتبرت أن ما قاله الفريق 'السيسي' هو مجرد نبوءة للجيش المصري بانهيار الدولة، تمنت من جانبها ألا تكون قابلة للتحقق، ولم يكن ما قاله الفريق 'السيسي' مجرد نبوءة، بل قراءة موفقة للمنحني العام الذي تدفع إليه الأحداث دفعًا في قلب المجتمع، لقد أكد أن الجيش هو الكتلة الصلبة المتماسكة والعمود الفقري الذي ترتكز عليه الدولة المصرية، وهو كلام لا يعبّر إلا عن واقع حقيقي صلب، وقال إن التحديات والإشكاليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، التي تواجه مصر حاليًا تمثل تهديدًا حقيقيًا لمصر، ولتماسك الدولة المصرية، وهو تعبير يعكس بدقة واقع الحال، والتحذير من مغبة الانسياق إلي مسار تفاعلاته وعوامله التي تشده شدًا نحو اضطراب كبير، وانفجار غير محسوب، وإذا كانت كلمات وزير الدفاع قد نزلت بردًا وسلامًا علي قلوب عموم المصريين، فإنها لم تنزل بردًا ولا سلامًا علي قلوب وعقول أولئك الذين يصطفون في جبهة واحدة لتفجير مصر من داخلها سواء في الداخل أو في الخارج، ولذلك فإنني لا أرجم بالغيب، حين أؤكد أن هناك مخططات مدروسة، تتضمن أكثر من سيناريو، توجه في الظلام أسلحتها الثقيلة نحو بنية الجيش المصري ونحو قياداته، لقد كانت أول هذه السيناريوهات، هو محاولة وضع الجيش علي خطوط التماس الساخنة مع تيار الغضب الشعبي العارم في مدن القناة، وتهيئة الظروف نحو جره إلي مواجهات معه، وهي محاولة تم إفسادها بكثير من الانضباط والالتزام والحكمة.
والمدهش أن أولئك الذين ظلوا يتحججون بأن مهمة الجيش تقتصر علي حراسة الحدود، هم أنفسهم الذين أخرجوه من حدوده إلي حدود أخري، تدخل في صلب الأداء السياسي الذي أوصل الحال إلي ما هو عليه، لكن المدهش –أيضًا– أنه عندما طرح أحد قادة جبهة الإنقاذ، أن يكون قائد الجيش طرفا علي مائدة الحوار الوطني للخروج من المحنة، سرعان ما استبق الرفض، رفض أي مقترح آخر، فقد كان مجرد ذكر اسم الجيش في الدعوة هو عنصر التفجير الأساسي لها، وعندها هرول قيادي في اجتماعه إلي وسائل الإعلام، ليقول نصًا: 'إن الجماعة لن تسمح بعودة الجيش للمعادلة السياسية مرة أخري مهما كلفها ذلك' والحقيقة أن تصريحات الفريق 'السيسي' تحولت إلي عاصفة في قلب غرف التخطيط الاستراتيجي، في أكثر من عاصمة غربية، وهو ما دعا عصام الحداد، إلي أن يخرج من فوره إلي صحيفة 'الجارديان' ساعيا إلي إطفاء شعلة القلق التي تأججت في الأوساط الغربية فجأة بتصريح باطنه أكثر ظلمة من ظاهره بقوله: 'أنا أعرف الطريقة التي استخدمها الرئيس مرسي في عزل طنطاوي فلا داعي إلي القلق' غير أن السيد الحداد لا يستطيع أن يزعم أنه نجح في إطفاء شعلة القلق هناك، خاصة أن بعضا منها يتّقد في صدره هنا.
والشاهد أن ثمة علامات تدعو إلي التأمل والتحوّط، في دائرة التخطيط الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وفي داخل غرف عمليات القوات الإسرائيلية ذاتها.
لقد أعلنت –أولًا– قيادة الجيش الإسرائيلي حالة الاستنفار القصوي، علي مستوي جميع وحداتها وفي جميع الاتجاهات والمحاور، صباح يوم 25 يناير، وما تزال الحالة سارية حتي كتابة هذه السطور.
وتزامن مع ذلك –ثانيًا– نشر بطاريات القبة الحديدية حول جميع المدن الإسرائيلية، وإن كان قد تم تبرير ذلك بأنه إجراء عسكري تقليدي.
وخرج فجأة –ثالثًا– أحد كبار القادة العسكريين الإسرائيليين ليعلن أن حزب الله يضع قوات كبيرة في سوريا، تنتشر بشكل مكثف، حول مواقع الأسلحة الكيماوية، وتعتزم السيطرة عليها حال سقوط النظام، مؤكدًا أنه 'إذا حدث ذلك فيجب علي إسرائيل اتخاذ وتنفيذ قرار يقضي بالهجوم الفوري علي لبنان وسوريا' في الوقت الذي ألمحت فيه بعض التقديرات الإسرائيلية، إلي أن الحديث عن سقوط الدولة السورية، يتضمن واقعيًا الحديث عن سقوط الدولة المصرية، مما يعني أن الاستعدادات الإسرائيلية لشن هجوم واسع، في توقيت محدد، يتضمن الجبهتين معًا، بل إن أحدًا لم يستبعد قيام الطائرات الإسرائيلية بعملية مشابهة لقصف أحد مراكز البحث العلمي السورية في منطقة 'جمرايا' بريف دمشق، علي الجبهة الأخري إذا ظهر أنه هناك حاجة إلي ذلك.
وكان هناك –رابعًا– قبل أيام، اجتماع سري في البنتاجون، شارك فيه من إسرائيل 'أسيس كوخافي' رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية 'أمان' وعدد من قادة المؤسسة العسكرية في الولايات المتحدة، في مقدمتهم 'مارتن ديمبسي' رئيس هيئة أركان القوات الأمريكية، ورغم صدور تصريحات مبهمة من الجانب الإسرائيلي، رفضت الإدلاء بتوضيح حول مادة الاجتماع، فإنها تعللت بحساسية الحديث عن عمليات التنسيق، والعمل العسكري المشترك بين إسرائيل والولايات المتحدة، ومع ذلك فقد تطوع أحد الخبراء الاستراتيجيين الإسرائيليين 'تسيبي بارئيل' لإعلان تقدير موقف حول المباحثات المذكورة في صحيفة 'هآرتس' مؤكدًا أن حساسيتها إنما ترجع إلي أنها دارت حول الأوضاع الأمنية في مصر وسوريا، وما يمكن أن تحمله التطورات من تبعات علي أمن إسرائيل، ودراسة وتحديد سبل التعامل معها في المستقبل المنظور، مستشهدًا علي صدق تقديراته، بأن الاجتماع المذكور، قد استبق قيام سلاح الجو الإسرائيلي بقصف المنشآت العسكرية السورية في جمرايا بريف دمشق.
وكان هناك –خامسًا– في تصريحات لقائد سلاح الجو الإسرائيلي 'أميد إيشيل' ما يفيد بأن خيار المواجهة والحرب مع مصر ليس مستبعدًا، رغم تأكيده مواجهة عسكرية مع مصر لن تندلع صباح اليوم أو الغد.
وكان هناك –سادسًا– مؤشر جانبي، هو عدم عودة 'يعقوب أميتاي' السفير الإسرائيلي، إلي مقره في المعادي، منذ أكثر من أسبوع مضي، رغم أنه حرص وسط الأجواء العاصفة في القاهرة علي البقاء بها بين يومي الإثنين والخميس، رغم التبريرات التي نُقلت من أن إحجامه عن العودة لأسباب أمنية خالصة، الشاهد في كل الأحول أن إسرائيل تستعد عسكريًا لمواجهة، تري أنها وشيكة بغض النظر عن طبيعتها وعمقها، سواء أكانت عملية تعرضيّة لشد أطراف الجيش شرقًا، ومنعه من التدخل في لحظة الاضطراب الكبير لصيانة ما تبقي من قواعد الدولة المصرية، أو لزحزحة خط الحدود باستثمار تداعيات الموقف، أو في شكل عملية عسكرية مشتركة مع الولايات المتحدة باسم تأمين قناة السويس، تحت إدعاء تعرضها لمخاطر اضطراب الداخل المصري.
ويا أيها الجاثمون فوق صدورنا، المتحصنون خلف أطماعهم، وسلطانهم، مصر غدت في قلب الخطر، كما لم تكن من قبل، وهي ذاهبة علي هذا النحو، إلي حالة واسعة، تشبه موقعة 'الكشري' بينما يسنّ أعداؤها سكاكينهم لذبحها بأيديكم، أفلا تفقهون؟!
Email: [email protected]
Site : ahmedezzeldin.com


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.