عبر ستمائة عام، سيطر العثمانيون – ولو صوريًا – على ما يقرب من نصف بلاد العالم، فذاق من ظلمهم وتوحشهم كل الشعوب التى وقعت تحت وطأتهم، وعلى رأسهم الشعوب العربية فى جزيرة العرب والخليج ومصر وشمال إفريقيا، ومنذ سقوطها فى الأول من نوفمبر 1923م، على يد مصطفى كمال الدين أتاتورك، بإعلان تأسيس الدولة التركية الحديثة، لم ينسَ أحد من المحيط إلى الخليج ومن الغرب إلى الشرق، تلك الجرائم والمذابح الداعشية التى ارتكبها العثمانيون فى تلك الفترة التاريخية من الزمن، باستثناء النظام الحاكم للدولة التركية. الحديث عن جرائم العثمانيين فى المنطقة العربية لم ولن ينتهي، رغم مرور عشرات العقود، فلا تزال المنطقة تعانى من ويلات تلك الخلافة المزعومة، التى تقترب إلى حد ما من وحشية تنظيم «داعش»، وكذلك بمقارنة جرائم العثمانيين فى نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، يُكتشف كم هائل من التطابق مع أعمال «داعش» الإرهابية منذ ظهورها قبل سنوات قليلة. ورغم ما يلاحق الرئيس التركى رجب طيب أردوغان – الذى يطمح فى عودة تلك الخلافة الداعشية – من مطالبات دولية بالاعتذار عن «الإرث السيئ» للدولة العثمانية، وما سبّبته من أذى فى كل بلدان المنطقة العربية وكل البلاد التى دخلها الجنود العثمانيون، فإنه يعتبر نفسه حفيدًا للخلفاء العثمانيين. ومن الضرورى هنا، أن يتذكر أردوغان والبكاءون على زوال خلافة آل عثمان، كقائد لدولة إمبريالية ذات مطامع متجددة، فى هذه المساحة، ما ارتكبوا من مذابح وأهوال ووقائع نهب وسرقة وجرائم يشيب لها الولدان فى كل بلدان المنطقة العربية، فالتاريخ العثمانى ممتلئ عن آخره بسيئات خلفها فى أنحاء العالم التى وقعت تحت غزواتهم. والعجيب أن الرئيس التركي، ينكر ذلك، بل ويدافع عنه بشدة، متجاهلًا أن الدولة العثمانية أهدت العالم الإسلامى إلى دول الاستعمار بأبخس الأثمان، وهو فى أضعف الحالات. تحت حكم الدولة العثمانية حدثت العديد من المذابح، بخلاف مذابح الأرمن التى تمَّت خلال فترة الحرب العالمية الأولى، عندما قام الأتراك بالتعاون مع عشائر كردية بعمليات إبادة لمئات القرى الأرمنية فى مناطق شرق تركيا. والسبب وراء هذه الإبادة كان محاولة تغيير ديموغرافية هذه المناطق لخشية الأتراك من تعاون الأرمن مع الروس والثوار الأرمنيين، واستخدم الأتراك الأرمن حمالين فى الجيش العثماني، ثم قاموا بإعدامهم بعد أن تمَّ إنهاك قواهم البدنية. والأبرز فى هذه الإبادة كان فى ربيع عام 1915م، عندما قام العثمانيون بجمع المئات من أبرز الشخصيات الأرمنية فى العاصمة إسطنبول، ثم إعدامهم فى ساحات المدينة، ويقدر عدد ضحايا هذه المجازر من مليون إلى مليون ونصف المليون شخص، من الأرمن الأبرياء فى أبشع إبادة جماعية لم يشهد التاريخ لها مثيلًا حينذاك، فتمَّت ضمن خطة مدروسة ونفِّذت بمنهجية محترفة، والإبادة واقع تاريخى موثق بالبراهين والأدلة الدامغة(1). وكان من ضمن هذه الجرائم، ما سمِّى ب«مذابح سيفو»- أى (السيف) فى اللغة السريانية – إذ شنَّت القوات العثمانية سلسلة من العمليات الحربية بمساعدة مجموعات مسلحة شبه نظامية كردية استهدفت الآشوريين والكلدان والسريان فى مناطق شرق تركيا وشمال غرب إيران. قتلت هذه العمليات مئات الآلاف من الآشوريين، كما نزح العديد منهم من مناطقهم. ويقدر الباحثون العدد الكلى للضحايا بحوالى 250 – 500 ألف قتيل. ونتيجة لعدم وجود كيان سياسى يمثل الآشوريين فى المحافل الدولية، فإن هذه المجازر لم تحظَ بنفس الاهتمام الدولى الذى نالته مذابح الأرمن. أمَّا مجازر «ديار بكر»، التى ارتكبتها الدولة العثمانية فى ولاية ديار بكر ضد المسيحيين عام 1895، فبدأت باستهداف الأرمن بتحريض من بعض رجال الدولة والدين العثمانيين بحجة أن الأرمن يريدون تفكيك الدولة، وتوسعت هذه المجازر لتشمل كل المسيحيين فى المنطقة وعلى رأسهم السريان، وبدأت من الجامع الرئيسى بالمدينة، ثم انتقلت إلى السوق الرئيسى حيث تمَّ قتل المسيحيين، تبعتها عمليات سلب ونهب واسعة. وفى اليوم التالى بدأت عمليات إبادة للمسيحيين عبر الهجوم على منازلهم. غزا العثمانيون بقيادة سليم الأول، الدولة المصرية، بقصد الدفاع عن الدين الإسلامى والشريعة، وطوال حكم العثمانيين لمصر، ظلت صلة مصر بالدولة العثمانية ضعيفة غير وثيقة، حيث اقتصر مبتغى العثمانيين على جباية أموال وخيرات الأمة المصرية، فلم يكن شهر المحرم من عام 923 هجرية، الموافق يناير 1517، شهرًا عاديًا مرَّ كغيره من الأشهر على أيام مصر المحروسة، ولكنه كان يوم نكبة وحسرة، ولم يقاسِ أهل مصر شدة مثل هذه، إذ وقع فيها مثل ما وقع من جند هولاكو فى بغداد وغيرها من الأهوال التى فاقت ما قام به من بعدهم الإنجليز والفرنسيون، بل والاحتلال الإسرائيلي، والتى وصلت لاقتحام الأزهر الشريف ومسجد ابن طولون وجامع الحاكم، وإحراق جامع شيخو، كما أنهم خربوا ضريح السيدة نفسية وداسوا على قبرها. سليم خان، الإمبراطور التركي، الذى اقتحم القاهرة، كان رجلًا سيئ الخلق، سفاكًا للدماء شديد الغضب، وروى عنه أنه قال: “إذا دخلت مصر فأحرق بيوتها قاطبة والعب فى أهلها بالسيف”.هكذا كان عزم النية لاقتحام القاهرة وقتل المصريين ونهب خير البلاد، وسرقة منجزها الحضاري، وليس نصرة الدين كما كان يدعى الأتراك، فمن ينصر الدين لا يحرق ويخرب المساجد، وإنما كان الغرض هو هدم الدين ذاته، وإنهاء دولة الخلافة الإسلامية فى القاهرة، ليصل الأمر إلى سقوط 10 آلاف من عوام المصريين قتلى فى يوم واحد، وغيرها من جرائم الاستعباد الذى كان يقوم به الأتراك للمصريين. كما يبدو للعيان أن الداعشى العثمانى أردوغان يحاول جاهدًا أن يعيد تاريخ الدواعش العثمانيين، فاليوم يعتزم إطلاق اسم فخر الدين باشا على الشارع الذى تقع فيه سفارة الإمارات فى أنقرة، تخليدًا لذكرى ذلك الحاكم العثمانى للمدينة المنورة ما بين عامى 1916 و1919، الذى اُتهم بسرقة أموال ومخطوطات من المدينةالمنورة عام 1916، خلال الحرب العالمية الأولى، حيث الحقبة التى ترأس فيها السيد حسن فدعق، إمام الشافعية بالحرم المكي، لجنة لإحصاء وإسعاف وإعادة النازحين من أهل المدينةالمنورة الذين هجرهم فخر الدين باشا آخر حاكم عثمانى لها، وساهم فى إرجاع حوالى 5 آلاف ممن نجا من ذلك الظالم، بعد أن أخلى فخر الدين باشا المدينةالمنورة من سكانها، لأنه كان يخشى من انضمام أهلها ل«الثورة العربية»، وكان يحاول – قدر الإمكان – أن يبقيها تابعة للحكم العثماني، إضافة إلى مد خط سكة الحديد إلى داخل المدينة، وهدم البيوت التى كانت فى طريق خط القطار، ليتمكن من توصيل السلاح إلى الداخل، وحوّل المسجد النبوى إلى ساحة عسكرية. حملات التهجير التى قام بها العثمانيون فى تلك الفترة، أضرت بسكان المدينة وغيرت ديموغرافيتها،ما أدى إلى سفر أعيان المدينة وأضر بهم ماديًا، ودفع السكان إلى أكل الحشائش لعدم توفر الطعام، وكانت كارثة التهجير الجماعى والقسرى التى اشتهرت فى الحجاز ب سفر برلك. تلك الجريمة النكراء التى وقعت فى المدينةالمنورة، باقتحام جنود فخرى باشا للبيوت الآمنة، وكسر أبوابها عنوة، وتفريق الأسر، وخطف الأطفال والنساء من الطرقات دون رحمة، وجرهم معًا أو متفرقين إلى عربات قطار الحجاز ليتمَّ إلقاؤهم عشوائيًا بعد رحلة طويلة من العذابات فى تركيا والأردن وسوريا. وفى الغالب، لم تكن «سفر برلك» لأهل المدينةالمنورة فقط، بل كانت لكل البلاد التى تديرها الدولة العثمانية، بسبب الحرب العالمية الأولى التى وقعت حينها، فكانوا يأخذون الرجال والشباب القادرين على حمل السلاح، ليجهزوهم للجبهات والقتال باسم الدولة العثمانية على يد فخرى باشا الذى تمَّ تعيينه حاكمًا عسكريًا للمدينة المنورة، فأخضعها لحكم عسكرى قاسٍ، وكان أكثر الحكام الأتراك تسلطًا ودموية وضيق أفق. أمَّا أجواء الحياة فى المدينةالمنورة، فنقتبسها من الكاتب ضياء عزيز: «لقد جاع أهل المدينة الذين هجرهم فخرى إلى سوريا.. جاعوا بل ومات الكثيرون منهم جوعًا.. لكن قوات فخرى نفسها جاعت فى النهاية أيضًا.. ذلك الجوع الذى جعلهم يأكلون لحوم الخيل والبغال والحمير التى تنفق من الجوع.. بل ويأكلون لحوم القطط والكلاب.. ولا أستبعد صحة أخبار قالت: إن بعض الجياع قد أكلوا لحوم أطفالهم». ومن ضمن المتجبرين العثمانيين، القائد الداعشى الشهير بالسفاح، وبالداغستاني، وبالكبير، أحمد جمال باشا (1873 – 1923)، قائد جيش عثمانى عين حاكمًا على سوريا وبلاد الشام عام 1915 وفرض سلطانه على بلاد الشام وأصبح الحاكم المطلق فيها. وهو من زعماء «جمعية الاتحاد والترقي»، وقاتل البلغار فى مقدونيا، واشترك فى الانقلاب على السلطان عبدالحميد. وشغل منصب وزير الأشغال العامة فى عام 1913، ثم قائدًا للبحرية العثمانية عام 1914. جاء إلى دمشق بعد نشوب الحرب العالمية الأولى 1914 – 1918، واليًا على سورية خلفا للوالى خلوصى بك، وهو من مواليد عام 1872م، وكان ناظرًا للحربية العثمانية، وندبه الاتحاديون وهو من كبارهم، قائدًا للجيش الرابع لإعداد حملة عسكرية لاحتلال قناة السويس. وكانت منطقة نفوذه تمتد من أقاصى حدود أضنة إلى المدينةالمنورة. وكانت أخص أعماله أن يشغل الإنجليز فى حدود مصر ليضطروا إلى وضع قوة كبيرة من جيشهم فى ترعة السويس، ليخففوا بذلك عن الدولة فى جناق قلعة، وعن الألمان فى الجبهة الغربية، وقبض جمال باشا على زمام السلطة فى سوريا، واعتمد على الإرهاب والبطش، وعزز سلطته وبسط سيطرته بالقتل والتشريد للنابهين من العرب، وكان من جراء تأخره فى إعداد الحملة أن وجد الخصم فرصة للاستعداد للدفاع، حتى إذا سارت الحملة فى 4 شباط 1915 فشلت وهزمت وعادت بقاياها منهوكة ممزقة. وبناءً على ما سبق من وقائع تاريخية وشواهد جارية، تبين أن تركيا الحالية لا تقل سوءًا عن الدولة العثمانية التى قوَّض أركانها مؤسس تركيا الحديثة، مصطفى كمال أتاتورك، لأنَّ الدولة التركية تنفى وقوع المجازر التى تؤكدها الأممالمتحدة وتصرُّ على إنكار المذابح والادِّعاء بأنَّ عدد الضحايا قد تمَّ تضخيمه لخوف تركيا من وصمة العار. فالعثمانية والإخوانية الداعشية، وجهان لعملة الاستبداد الواحدة، وكما أبادت الدولة العثمانية الشعب الأرمني، فإن تركيا الإخوانية – ربَّما – تبيد المخالفين لها من الشعب التركى نفسه. وفى عموم الأمر، تطل ثقافة الدولة العثمانية من جديد، ولكن ليست على يد فخرى باشا، بل على أيدى الحركيين والأتراك الذين يدعون لعودة الاحتلال التركى لبلاد العرب، وهم يعلمون يقينًا أن تتريك العرب الذى حاولت السلطنة العثمانية إجبارهم عليه ذات يوم، هو ما فجر الثورة العربية الكبرى. وكما فعل فخرى باشا قبل قرن من الآن، تحاول تلك الأيادى أن تعود «لترحيل» الأمن والاستقرار العربى قسريًا إلى شتات الأرض، حاملة رصاص وخنجر «فخرى باشا»، لكنها اليوم لم تسلمه لفخري، بل سلمته للرئيس الداعشى أردوغان الباحث عن سلطنة جديدة وتتريك جديد. ولذلك؛ يجب على تركيا الاعتذار عن جرائمها بحق العرب، وكل من خضع لحكمها الجائر، ويجب أن يطالب العرب بحقوقهم التاريخية حتى الموجودة فى تركيا، حيث إن المتاحف خاصة الدينية لديهم، هى متاحف عربية وإسلامية سرقها الأتراك، واليوم تعتبر أكبر رافد اقتصادى لتركيا.