استكمالاً لحصر نتاج ما فعله القضاة في مقدرات الشعب المصري، وهو ما جسده نشاط سيادة المستشار / الغرياني، الذي يترأس اليوم الجمعية التأسيسية للدستور، وكل من كان له صوت أو قلم علي الساحة من القضاة .. ولفيف حولهم من فقهاء القانون ومنهم الدكاترة / البنا، ودرويش، والجمل، وبدوي، والعوا .. وغيرهم كثر.. فإننا غالبأ نميل للإستعانة بالتشبيه التمثيلي الذي يساعدنا إلي حد ما علي إيضاح الفكرة للقارئ ... فنحكي عن حارس مخازن ثروة من الثروات، المفروض ' حسب ما يجب أن يكون ' أن يكون هذا الحارس ذا قوة تفوق بالضرورة قوة كل من يحتمل أن يعتدي علي المال، ولا يجوز أن تساويها، لأنه حال المساواة في القوة بين الطرفين يكون احتمال انهزام الحارس أمرا واردا، وهو احتمال مرفوض في باب الحراسة ... وأول عناصر قوة الحارس ثقته في نفسه، واقتناعه بصفته ومصلحته التي تؤكد مسئوليته عن حماية المال، ثم، لابد أن يزود بالسلاح وبالصلاحيات والضمانات التي تمكنه من حماية فاعلة ... فإذا جاء إلي الحارس يوما من أجتهد دون كلل في إقناعه، وإقناع العامة، أن صاحب المال قد عزله، ولم تعد له صفة ولا مصلحة في القيام بمهام الحراسة، هنا يكون هذا الصوت صوت البوم والشؤم علي المال ؛ لأن ثقة الحارس في نفسه وفي صفته هي الركيزة التي تتوسط الخيمة، وتتساند عليها باقي أركانها ومكوناتها، فإذا وقعت الركيزة انهارت الخيمة بكاملها .. ثم، يواصل صوت الشؤم مخططه، فيجرد الحارس من سلاحه، وصلاحياته، وينزع أقفال أبواب المخازن، ويتركها مفتوحة .. كل ذلك وهو بعلم أن هناك من يتربص بالثروة يريد سرقتها .. فإذا جاء هذا السارق وسرق الثروة .. ألا يكون صاحب صوت الشؤم شريكاً للسارق في سرقة المال ..؟!.. .. وقد كشفت الثورة عن المفهوم الصحيح للحماية القضائية عن الدولة، فقد تبين أن من سرق ثرواتنا هم الحكام، والمقربين من الحكام، وأصحاب النفوذ .. وهم من يملكون سلطة البطش والقهر في البلاد، فأشار ذلك أن هذه الحماية لا بد وأن تكون ضد كل من يعتدي علي حقوق وأموال المجتمع حتي ولو كان المعتدي هو رئيس الدولة ذاته ، أو غيره من الحكام .. إذن، الحماية القضائية للمجتمع هي من أعظم الجهاد ؛ لأنها تتمثل في كلمة حق عند سلطان جائر .. ولأن حامي الحمي لا بد أن يكون في مركز لا يقل قوة عن المعتدي .. فقد بات جليا لكل عاقل، أن حماية الدولة قضائيا لا بد أن تكون من سلطة قضائية عليا .. وأول عناصر هذا العلو أن ينص الدستور علي هذه السلطة وعن صفتها ومسئوليتها عن الحماية، وينص علي حصاناتها وضماناتها .. علي قدم المساواة مع باقي السلطات ' بل بما يزيد عليها '، فيوضح الدستور تفصيلا الصلاحيات التي يستطيع صاحب الدفاع القضائي عن طريقها أن يجبر الحكام – رغم ما يملكون من وسائل البطش والقهر - علي احترام المشروعية .. .. فليس بالعلم، ولا بالخبرة تتم حماية حقوق وأموال المجتمع، وإلا كانت كليات الحقوق أولي من يتولي هذه الحماية .. ولكن تكون الحماية من سلطة قضائية عليا، لها صفة وعلو في سلطانها مؤسس لها في الدستور .. فمن اللغو، ومن باب الضحك علي الذقون، أن نقول بوجود حماية قضائية للدولة، دون أن تكون آلية الحماية منصوصا عليها في الدستور بنصوص توضح تفصيلا صلاحيات وضمانات، تجعلها ندا لأعلي مستو من الحكام ؛ فبوصف السلطة القضائية العليا في الدستور، وبالسلطة النافذة ضد كل الحكام ، بهذا فقط تتم حماية حقوق المجتمع .. قبل الثورة، كان للمستشار / الغرياني ، ولمن ذكرناهم معه محاولات شاقة - بهتاناً واعتداءاً - لنزع الصفة القضائية عن هيئة قضايا الدولة ، مستغلين ثغرة عدم النص صراحة عليها وعلي اختصاصاتها وصفتها وصلاحياتها في الدستور .. فتسببوا بكسر ركيزة خيمة الدفاع والحماية القضائية عن المجتمع، ثم، لم يملوا من مناهضة كل محاولة سعت الهيئة فيها أن تحصل علي صلاحيات تمكنها من الحماية، فكانوا السبب المباشر فيما تم نهبه من أموال الشعب .. .. منع الفساد يكاد يكون هو الهدف الوحيد للثورة، لأنه – بحسب تجربة .." أردوغان " .. التركية، فإن منع الفساد يقود إلي النهضة والتقدم في عناصر الحضارة قاطبة، والعكس صحيح ... والفساد لا يكون إلا عند غياب من يحمي ويدافع عن الحقوق والأموال، فيقال : " المال السائب – الذي ليس له من يحميه – يعلم السرقة " .. فمنع الفساد ليس إلا ثمرة للحماية القضائية .. ولكنها ليست الحماية القضائية المسندة للآلية المختصة بالدعوي الجنائية، فقد ثبت فشل وعدم ملاءمة هذه الدعوي لحماية حقوق المجتمع المالية، لأسباب عدة، أهمها تحصن الحكام ضد هذه الدعوي من ناحية، ومن ناحية أخري عدم تجاوز معظم المخالفات ' رغم جسامة نتائجها السلبية ' لنطاق المسئولية المدنية .. فتنهب الأموال وتستنزف الثروات بأسلوب حكومي مدني .. من هنا، فهيئة قضايا الدولة، بوصفها صاحبة دعوي المجتمع في كل أنواعها كانت هي المرشحة لهذه الحماية .. لولا افتراء المستشار الغرياني وقبيلته، علي هذه الهيئة، وعداؤهم الذي لم يترك الهيئة إلا في حالة إغتيال معنوي ، وموت مدني تام ... ومن منطلق أن منع الفساد هو هدف الثورة الوحيد، الذي سوف يتولد عنه تحقق جميع الأهداف الأخري آليا، فكان المنتظر أن يعي كل عاقل أن هدف الجمعية التأسيسية الأساسي هو معالجة الثقافة الفاسدة التي نشرها المستشار الغرياني ورفاقه عن هيئة قضايا الدولة في مرحلة ما قبل الثورة .. هذه الثقافة التي تصر علي تقييد دور الهيئة في نطاق الوكالة عن الحكام، بمعني أنهم يجبرونها أن تدافع عن الحكام، وتحمي تجاوزاتهم ضد المشروعية، ويسعون لنزع الصفة القضائية عنها، ويمنعون عنها الحصانات والضمانات اللازمة لدورها الصحيح ' وهو الدفاع والحماية للمجتمع وللمشروعية '، ومما يؤكد عدم سلامة النية عند أصحاب هذا العداء، أنه لم نسمع من أحدهم، أية مطالبة للبحث عن حام لحمي المجتمع ، فمن الواجب علي كل ذي عقل مخلص، إن لم ير في الهيئة سوي المدافع عن الحكام، أن يسعي جاهدا للبحث عن المدافع عن المجتمع وعن الدولة .. .. فهدف الجمعية الأساسي يتعين أن يتركز علي النص في الدستور تفصيلا، وبإسهاب، علي ما يؤكد صفة السلطة القضائية العليا لهيئة قضايا الدولة، وعلي تفاصيل حصاناتها وضماناتها وصلاحياتها .. والقصد من هذا الإسهاب في النص أن نكسر القمقم الحديدي الذي أحاط بالهيئة نتيجة للثقافة غير الصحيحة التي نشرها الغرياني عنها .. وأول معول يفل حديد هذا القمقم هو تغيير مسمي الهيئة في الدستور إلي " النيابة المدنية " ليقطع هذا المسمي كل شك في نسبة الهيئة للسلطة القضائية .. .. ولكن كانت المفاجأة : الغرياني لم يعلم بقيام الثورة !!، ولم يدرك هدف الثورة الوحيد، الذي يجب أن تركز عليه التأسيسية !!، فوجدناه يصر – ليس علي عدم النص علي هيئة القضايا في باب السلطة القضائية فقط - بل هو يصر علي استبعادها من الدستور بكامله .. في الوقت الذي نري فيه إسهاب في تفاصيل دستورية عن العديد من الكيانات التي تبعد عن هدف الثورة ، لدرجة أن البعض طمع في منهج الإسهاب، وطلب من الجمعية التأسيسية أن تقنن في الدستور لبيوت الدعارة ..والعجيب، ما سمعناه من المستشار الغرياني من الحكمة التي اختلقها من عنده ' وهي ليست من الحكمة في شيء '، واختلقها خصيصا كي يصل إلي عدم النص علي هيئة القضايا في الدستور .. فهو يقول : " اللي نتفق عليه ينص عليه في الدستور، وما نختلف عليه، لا ينص عليه، ونرحله للأجيال القادمة ".. .. وقد افتعل – لأغراض شخصية – بعض الخلاف علي نص هيئة قضايا الدولة .. وبحسب حكمته هو ينوي أن يرحل النص عليها للأجيال القادمة .. فكيف يستوعب عاقل هذا السلوك .. كيف التخلي عن النص في حين أن معالجة الحماية القضائية للدولة هي الهدف الرئيس للثورة وللجمعية التأسيسية .. .. لذلك فأنني أتوجه إلي الشعب ذاته بهذه الكلمة، وأطلب منه أن يصرخ في وجه الغرياني ويقول له : أنت موجود بالجمعية، والجمعية ذاتها موجودة من أجل حسم هذا الخلاف بالذات، ومن أجل خلق آلية قوية .. أقوي من القضاة الجالسين , وأقوي من رئيس الدولة وغيره من الحكام .. فلسنا أقل من إسرائيل، ونفسنا نسمع أن عضو هيئة قضايا الدولة – كما حدث في إسرائيل – يستدعي رئيس الدولة جبرا، ليستوفي بعض أعمال تحضير دعوي مدنية عن واقعة فساد مدني .. أطلب أن يقول له الشعب : لا نريد أن تكون أموال الشعب بدون من يحمي حماها بعد اليوم .. ونريد أن يكون لحامي حمي أموالنا وحقوقنا الصفة والسلطة القضائية العليا في الدستور .. ولا نريد أن نسمع بعد اليوم أن هناك من يدعو لما نهي الله عنه في قوله سبحانه وتعالي .. " .. ولا تكن للخائنين خصيماً " .. وخصيماً، يعني مدافعا .. فكيف يسعي المستشار الغرياني أن يكون هناك من يدافع عن الحكام، وهم الذين سرقوا الشعب ؟!.. .. أطلب أن يقول له الشعب : إن التيار الإسلامي صاحب الأغلبية الحاكمة اليوم في غني عن مليم واحد من مال الشعب، وبالتالي فهم في غني ' وليسوا في حاجة ' لمن يهيئ لهم مناخ سرقة حقوق وأموال المجتمع ... إن ما نسمعه من الضغط العنيف والمكثف من جموع القضاة - والمستشار الغرياني ليس إلا واحدا منهم - للوصول إلي استبعاد النص الخاص بهيئة قضايا الدولة ' النيابة المدنية ' من الدستور، لا نري فيه إلا سعيا للتمكين للفساد، ولإرساء قواعده، دون أي مبرر، سوي تطبع غير محمود لدي القضاة نحو الاستحواذ، واختزال كل عناصر السلطة القضائية فيهم فقط دون غيرهم، وإقصاء هيئة القضايا من مجرد الانتساب للسلطة القضائية، رغم أنها هي صاحبة الحق الأصيل في هذه السلطة، وليس للقضاء الحق في شيء منها، وذلك له تفاصيل،ستكون موضوعا لمقال مستقل فيما بعد .. لذلك، أقترح أن ينص الدستور في باب السلطة القضائية علي أن تكون النيابة المدنية من شعبتين : الأولي وتتكون من وكلاء الهيئة ونواب الرئيس، وتختص بالحماية القضائية للمجتمع، متمثلة في مراقبة وتوجيه الإدارات القانونية في الوزارات والمحليات وكافة الكيانات التي تتولي مرافق عامة.. ومتمثلة أيضا في الترشيد الإجباري للمنازعات المتعلقة بحقوق وأموال الدولة في هذه الجهات، والعمل علي إنهائها قبل مرحلة التقاضي بشأنها أمام المحاكم،أما الشعبة الأخري : فتتكون من باقي الدراجات، وتختص بتحضير الدعوي المدنية والتجارية، وتنفيذ أحكامها ..وقد قبلت هيئة القضايا القيام بهذا التحضير، من باب معالجة انعدام خبرة أعضاء النيابة العامة طوال مدة خدمتهم، قبل التعيين في القضاء، بالقانون المدني، وبقانون المرافعات، في حين أن لأعضاء هيئة القضايا باعا في هذه الخبرة ..وكذلك من منطلق حماية حق الدولة في السلام الاجتماعي ؛ فكلنا نعلم أن الثورة الفرنسية إنما كانت ضد الدعوي الجنائية، وأطاحت بالقضاة .. فلا نأمن ردود الفعل ضد بطء تقاضي لا يطاق، وتكون الثمرة - بعد طول انتظار - حكما كاشفا عن عدم خبرة .. بقلم المستشار الدكتور / عبدالله خلف نائب رئيس هيئة قضايا الدولة