من منا لم يشاهد مباني منطقة وسط البلد بالقاهرة والتي تعد كل بناية بها تحفة معمارية فريدة. كنا ونحن في الجامعة نذهب الي هناك ونقف مبهورين امام روعة التصميم ودقة البناء والذوق الرفيع الذي تتميز به تلك التحف المعمارية. ومن منا لم يشاهد ما تركه لنا الأجداد في طول البلاد وعرضها من تحف وكنوز معمارية لا تقدر بثمن. تلك التحف المعمارية التي ابدعتها ايدي أجدادنا تظل شاهدا حيا علي عظمة الأجداد و إبداعهم علي كافة الأصعدة. و مصر من شمالها الي جنوبها تزخر بتلك التحف الفنية الرائعة من قصور و متاحف و منازل ومعابد ومساجد وكنائس واديرة مازالت صامدة امام تقلبات الدهر. ساكنة صامتة في خشوع تتوجع في صمت لما أصاب الذوق العام من تردي. لقد كانت شوارع القاهرة تحفة فريدة في التصميم والجمال. وكان العالم كله يفد الي مصر والاسكندرية للاستجمام و الراحة. اما الواقع الذي نحياه ونعيش لحظاته الآن فهو صادم يثير في النفس الشجون ويبعث علي التشاؤم. الواقع الذي يشهد بأن هناك شيء ما حدث للانسان المصري. فلا يعقل أن يكون هذا الإنسان حفيد أولئك العباقرة الأجداد. قبح معماري لا مثيل له علي وجه الارض تراه أينما تكون. يصدمك و يعكر مزاجك العام،وابنية خرسانية صماء تثير في النفس الالم و الاشمئزاز. ماذا حدث لنا ولماذا أصبحنا لا ننفر من كل ما هو قبيح!
أن أردت أن تري ما أتحدث عنه فانت لست في حاجة لأن تسافر هنا أو هناك انظر من شرفة منزلك وسوف تصطدم عينيك بما يصح أن نطلق عليه القبح اللانهائي. منذ عشرات السنين تعودنا ان نري المنازل الريفية الجميلة المتناسقة،و المتراصة الي جوار بعضها البعض في تناغم شديد الروعة. وكان في كل قرية قصر او اثنين غاية في الروعة والفخامة،وكنا نتفاخر دوما بأن بقريتنا قصر جميل كبير. وتكثر الحكايات حول قصة القصر وأصحابه الأصليين.
وكانت ميادين القاهرة القديمة مثل العباسية والحلمية أكبر مثال علي اهتمام المصريين بالشكل الجمالي لمنازلهم،ولذلك كانتا حتي وقت قريب المكان المفضل للاعيان وكبار رجال الدولة(كان ذلك بالطبع في الفترة التي سبقت ثورة 1919). وفجأة تحولت الأمور الي ما يشبه الغابة الخرسانية، وبسبب عوامل كثيرة معقدة قمنا بهدم معظم المباني القديمة ذات التصميم الفريد وأطلقنا العنان لسماسرة الأراضي والعقارات فخربوا وطمسوا وازالوا الآلاف من مبانينا القديمة الفريدة. وأصبحت القاهرة مجرد مثال حي علي سوء فكر ورؤية الإنسان المصري الحديث.
لذلك نري ونشاهد إصرار القيادة السياسية علي الاهتمام بالشكل الجمالي لكل المدن الجديدة تفهما منها لأهمية النسق الحضاري عند تشييد أية مدينة جديدة.وهذا أمر يحسب للقيادة السياسية بكل صدق. وبطبيعة الحال انتقلت عدوي القبح المعماري الي كل مدن مصر اللهم إلا مدن قليلة حافظت علي طابعها المعماري ولم تنجرف بقوة الي ظاهرة ناطحات السحاب. وللاسف الشديد طال هذا القبح المعماري بعضا من مدننا السياحية.
حتي بعض القري والفنادق السياحية ماهي الا مجرد مبان صماء قبيحة،لا تصدق انها حصلت علي تصريح من وزارة السياحة ولكنها المجاملات علي حساب سمعة وقيمة هذا الوطن.
الأمر الخطير هو أنه في بعض المدن السياحية تداخلت مناطق الإسكان بمناطق الفنادق واصبحا متجاورين الي حد كبير، فأصبح السائح الذي يخرج من الفندق للتنزه معرضا لأن يشاهد هذا القبح المعماري. المدينة التي لم يصلها هذا الوباء حتي الان هي شرم الشيخ،والتي مازالت احد أجمل المدن السياحية علي مستوي العالم. اما باقي مدننا السياحية فقد وصل إليها هذا القبح بنسب متفاوتة. مجرد فكرة بسيطة خطرت لي وهو أن تقوم المدن السياحية بإلزام كل ملاك العقارات بالالتزام بلون واحد لواجهة العقار وان تكون هناك مهلة 6 شهور للتنفيذ.
كذلك يمكننا الاستفادة من طلاب كليتي الفنون الجميلة والتطبيقية في فترات الإجازات الصيفية لرسم وتلوين الشوارع والعقارات. كما يمكن الاستفادة من بعض المتاحف المكتظة مخازنها بالآلاف من التحف المعمارية القيمة من كافة العصور وان توضع هذه الكنوز من تماثيل وخلافه في الميادين الرئيسية بالمدن السياحية.سيكون ذلك افضل كثيرا من ترك تلك الآثار في المخازن. أن العمل علي تجميل مدننا السياحية هو أمر يصب في صالح صناعة السياحة بكل تأكيد،لأن جمال المدن من صفات الشعوب المتحضرة. القبح عامة هو ظاهرة سلوكية تحدث و تتكاثر عندما يشعر المرء انه فوق القانون،ويحدث عندما يسود منطق الفهلوة. ولمعالجة مثل هذه الظاهرة لابد من تكاتف كافة قوي المجتمع.ولابد من تدريس بعض المواد الدراسية التي تحث علي الجمال والاخلاق. القبح سلوك عام يسيطر علي فئات عديدة في المجتمع، قبح في السلوكيات،قبح في اختيار الملابس المناسبة،قبح في الالفاظ،قبح في تصميم العقارات،قبح في طريقة عرض المنتجات،قبح في قيادة السيارة.....الخ. الانسان المتعلم الذي يقود اغلي السيارات تجده يفتح نوافذ سيارته لإلقاء منديل في الشارع. وهناك انسان آخر متعلم أيضا يقوم بإلقاء سلة المهملات من شرفة المنزل مدعيا بأن الشارع قذر في كافة الأحوال. هذا الإنسان في نهاية الأمر هو الذي ستذهب إليه يوما ما ليقوم ببناء منزلك الجديد وهو يفتقد الي الحس الجمالي والذوق الفني.
لا جدل ان ما وصل إليه الإنسان المصري ماهو إلا مرحلة سيئة من مراحل الشخصية المصرية ولكن الإنسان المصري قادر علي العودة من جديد الي روحه المبدعة،التي ورثها عن الأجداد،وقادر علي تخطي كل العثرات التي أصابت شخصيته و نالت من عزيمته فأصبح لا يهتم بالجمال في حياته. لابد لعلماء علم الإجتماع ان يتدخلوا ويحاولوا مع الهيئات الحكوميه ان يجدوا حلا لما طال شخصية الإنسان من قصور. ارجوا ان تهتم الدولة بازالة هذا القبح المعماري و تقييم الوضع الحالي و محاولة إيجاد حلول نافذه.الأمل قائم دوما مادام هناك قائد لسفينة الوطن عقيدته هي إرادة الإنجاز. حفظ الله مصر جيشا وشعبا