القضية لا تتوقف عند السؤال الذي يبدأ ب"لماذا"، ونسال لماذا تحدث هذه الجرائم في مصر تحديدا دونا عن بقية بلاد الدنيا، رغم أن مصر كما يعلم الكافة بلد له حضارة ضاربة في عمق التاريخ، بلد بنى شعبه الحضارة البشرية الأولى، وهذه الحقيقة سجلها المؤرخون. بنى الشعب المصري حضارة ولنتأمل الفعل "بنى" والبناء يحمل شواهد وعلامات التحضر والرقى والذوق والجمال، بنى الأجداد فلماذا يتحول كل هذا التراث الجمالي في مصر إلى ركام وبالبلدي إلى "خرابات" وتصبح تلك الخرابات معلم من معالم هذا البلد؟.. عن تراث العمارة الذي تركه الأجداد الأقرب من قصور وأبنية هي بكل المقاييس تحف معمارية أتحدث. أصبح خبر تحويل القصور القديمة إلى "خرابات" بفعل الهدم الذي هو احد المواليد القبيحة للفساد، أصبح خبرا عاديا يعقبه كلام عن التواطؤ والرشوة وتحميل كل هذا بسذاجة الى غياب الضمائر وموتها، والقضية ليست كذلك القضية أن القائمين على أمر هذا البلد ومنذ عشرات السنين لا يدركون قيمة هذه التحف المعمارية ولا أن وجودها شاهد على مراحل تاريخية مهمة في حياة هذا الشعب. كنت منذ أيام في مدينة المنيا، تلك المدينة الناعمة التي تسكنها روح خاصة، وجمال يتدفق مع مياه النيل وقادما من خلف الجبل ومن التاريخ، ومن معالم هذه المدينة الموشكة على الاندثار قصر "هدى شعراوي"، وهي من هي لمن يعرف هذه السيدة العظيمة وأنا بكل الشغف والحب والعرفان، أحرص على الوقوف على عتبات قصرها الذي عاشت فيه في كل المرات التي أزور فيها مدينة المنيا، وفي كل المرات أشعر أن أحجار القصر وروح السيدة تصرخ من القبح الذي يحاصر القصر الذي كان تحفة معمارية، فأبوابه الخارجية ونوافذه وجدرانه وحديقته نخرها سوس الإهمال والفساد. ومن خلف السور تظهر أشجار يبدو أنها تتحدى معاول الفساد، وتصر على البقاء أشجار رأيت مثلها في حديقة النباتات بأسوان، وقد اقتطع جزء من حديقة القصر لتحويله إلى أي شيء قبيح ألا تستحق هدى شعراوي الحفاظ على قصر تنفست بين جدرانه حلمها لبنات هذا البلد ولهذا الشعب. قد يقول قائل إن مصر في حالة حرب مع الإرهاب نؤكد أننا فعلاً في حالة حرب لكن ماذا لو وبعد انتهاء هذه الحرب وجدنا أننا نعيش في بلد بلا ملامح وبلا خصوصية مجرد بلد قبيح وكأن هناك من يؤسس للقبح. إن قصر هدى "شعراوي" مجرد نموذج لأنه من المعلوم والمعروف أن في المنيا في غيرها من مدن مصر قصور تمنح هذه المدن خصوصيتها وجمالها، والكارثة أن ننتظر أن يلحق قصر هدى شعراوي بالمنيا بقصرها الذي أزيل في شارع قصر النيل بوسط القاهرة وأقيم على أرضه "جراج" ولم لا وقد ارتكبت نفس الجريمة على أرض دار الأوبرا الملكية بعد إحراقها أو بعد أن التهمتها النيران وليت الحكومة تدرك أن الجمال في مصر الذي يطهر الروح نراه كلما اتجهنا جنوبا، ولعل القائمين على أمر هذا البلد يدركون أنه يفقد روحه تدريجيًّا.