أسير في اتجاه المبنى العتيق مملوءة بالشعور بالجلال بعد عبوري البوابة الحديدية إلى مبنى مستشفى القصر العيني القديم في جزيرة منيل الروضة، جلال المبنى يليق بالمعنى، فهو أحد صروح مصر العلمية وأول مدرسة طبية في عهد باني مصر الحديثة محمد علي. كان وما زال قبلة الفقراء للوصول لحقهم في العلاج، حق ينتظره مريض مفترشًا الأرض في الممرات الواسعة ساندًا ظهره على الجدران المغطاة بالرخام القديم الذي غطته الأتربة، حق ينتظره مريض لم يجد سوى سرير يضع عليه أوجاعه في ركن من أركان الممر الواسع، لا يجد ما يستر به ألمه الذي لا يعرف له نهاية، خرجت من قصر العيني دون أن أقضي ما جئت إليه من أجله. سرت تحت أغصان الأشجار إلى قصر الأمير محمد علي ابن الخديوي توفيق (1875-1954)، قادتني خطواتي إليه بحثا عن الجمال المفقود تحت وطأة قبح للأسف أصحبنا نتعايش معه. بدأ الأمير محمد علي بناء القصر عام 1901م، وكنت أشعر وأنا متوجهة للبوابة العتيقة أنني سوف ألتقي بصديق قديم، فهو من الأماكن التي نشأت بيني وبينها صداقة منذ أن عرفت الطريق إليه، منيت نفسي بلقاء معها بين أشجار حدائقه الاستوائية النادرة والتي كان قد تم اقتطاع جزء منها في عصر أنور السادات لإقامة فندق، وكأن الدنيا ضاقت حتى يجرؤ قلب وضمير على اقتلاع جذور شجرة لها تاريخ من باطن أرضها، يحيط المتحف- القصر سور يمتد بجلال وقوة كأنه سور لحصن من حصون العصور الوسطى. دخلت من فتحة لا تسمح سوى بمروري، ووجدت المسئولين عن القصر الذي علت وجهه دهشة لوجودي، وبابتسامة أبلغني أن "المتحف مغلق منذ سنوات؛ لأنه تحت الترميم، وانتهى ترميمه وينتظر مسئولًا يأتي لافتتاحه". لم أشأ أن أغادر قبل أن أملأ عيني بمساحة الجمال في سقف المدخل الذي يعد تحفة جمالية هي جزء من جمال بقية قاعات القصر. دفعني الشوق للجمال وللصفاء وتنقية الروح من الغبار المتراكم عليها إلى متحف محمد محمود خليل وحرمه. بنى القصر للإقامة فيه عام 1915 وكان عاشقًا للفنون، وأول من شارك في تأسيس جمعية محبي الفنون الجميلة مع الأمير يوسف كمال عام 1924، وفي عام 1972 ضم أنور السادات جزءًا من حديقة القصر إلى مسكنه على النيل مقتطعًا أيضًا أشجار الحديقة النادرة وأخلاه من تحفه ومقتنياته. القصر تحفة معمارية يسكنها تحف أصلية لفنانين عالميين ومصريين، وكنت أستعد وأحتشد لرؤية النجف والزجاج المعشق، وأعرف طريقي إلى سجادة معلقة على أحد جدرانه استغرق نسجها أكثر من ثلاثين عامًا، وأعود داخل القصر إلى الزمن الذي كانت مصر تنهض فيه، وبين جدرانه سأصفو لساعات ولن أحسب السنوات التي مرت وانقطعت فيها عن زيارته. قبل أن افتح فمي أوقفني الحارس الواقف على بوابة القصر معلنًا أنه تحت الترميم ومغلق منذ سرقة لوحة زهرة الخشخاش لفان جوخ في عام 2010، المتحف أيضا تحت الترميم. جاء صوت لم أعرف مصدره: "البلد كلها تحت الترميم"، تلفّتّ حولي بحثًا عمن أواجهه بحقيقة العلاقة بين مرضى يفترشون الأرض في أعرق مدرسة طب وبلد تحت الترميم.