اذا قمت بجولة سريعة علي قدميك في شوارع مدينتي المنياوملوي على وجه الخصوص، فلن تتمكن من منع بصرك من التحليق عاليا للاستمتاع بجمال واجهات الفيلات والقصور القديمة ذات الطراز المعماري المتميز، ورغم الإهمال وعوامل الزمن، فإنها مازالت محتفظة ببقايا جمال وعراقة لا تخطئها العين، ولن ينتابك حينها سوي مشاعر الحسرة علي ما آلت اليه اوضاع تلك المباني التي تعد تراثا مميزا ويحمل كل منها بلا شك قصة وتاريخا، ولا بد ان تتميز من الغيظ بسبب تجاهل المسئولين لهذه الكنوز مع سبق الاصرار والترصد، ليعبث بها العابثون وما أكثرهم ، أو تركها في عهدة مالك يسعي الي تدميرها والتخلص منها.
بالطبع لسنا أول من يكتب عن قصور المنيا، بل سبقتنا الكثير من الاصوات المحذرة من استمرار هذا الاهمال الصارخ، ولأن الكل يرمى الكرة فى ملعب غيره، ويتبرأ من المسئولية، تهدم قصر تلو الاخر، وبعد أن كنا نطمح فى زيارة بعضها لرصد وضعها الحالي، لم نعثر الا على أنقاض وبقايا أبواب ونوافذ وأعمدة "مكومة" فى احد اركان الارض التى تقدر بملايين الجنيهات ،ويسيل عليها لعاب التجار والسماسرة. فى ملوى التى كانت تسمى مدينة القصور والباشوات، رصدت عدسة الاهرام عدة قصور مهملة، على رأسها قصر فورتينيه وهو قطعة فنية بكل المقاييس، بنى عام 1916، اى أنه من المفترض أن يسجل كأثر بعد عامين من الان، ورغم انطباق كل الشروط عليه لتسجيله كمبنى ذى طراز معمارى مميز وفقا للقانون 144 لسنة 2006، الا انه خارج قوائم الحصر التى من المفترض ان تعدها اللجنة المعنية فى محافطة المنيا، وبعد البحث تبين انه فى عهدة وزارة الاسكان! ولم تجد الحكومة طريقة للاستفادة من هذا القصر الضخم البديع سوى تخصيصه كمخزن لوزارة الصحة! وتأجير حديقته الشاسعة لتربية الحيوانات والمواشي. ثانى أبرز قصر مهمل فى ملوى هو قصر عبد المجيد باشا سيف النصر، وهو الاخر تحفة معمارية ،وقام مالكه الحالى فى فترة من الفترات بتخصيص طابقه الاول كمنفذ لبيع السجاد، وهو الان محاط بكل صنوف الباعة وبضاعتهم من الخضر والسمك واللحوم فى مشهد كارثي، وبالمناسبة فان هذا القصر هو الوحيد المسجل كأثر فى محافظة المنيا، أى ان الدولة ملزمة بحمايته والحفاظ عليه! تتواصل جولتنا فى شوارع ملوى الضيقة التى تحولت الى سوق كبير، لنكتشف استغلال الحكومة لعدد من القصور والفيلات القديمة لتشغلها بهيئاتها المختلفة، مثل هندسة كهرباء ملوي، والادارة التعليمية ، بالاضافة الى عدد من المدارس الحكومية، وكان هذا هو اقصى وأفضل توظيف قامت به الحكومة لتلك الكنوز! فبدلا من تحويلها الى مراكز ثقافية وتنويرية ومتحفية لاهل المدينة، تعلم أطفالهم الفنون والادب وتذوق الجمال، تحولت الى مكاتب للموظفين وفصول دراسية قبيحة، والنتيجة أن أصبحت ملوى فريسة سهلة للداعين للتطرف والتعصب الديني. ضحايا الاهمال الحقيقى تمثلا فى قصر حياة النفوس الذى يعود لاحدى أميرات الاسرة العلوية ،بنى لها أوائل القرن العشرين وكان مسجلا فى قائمه التراث المعمارى، رغم انه كان من المفترض ان يدخل فى عداد الاثار. القصر تهدم تماما وحتى الان لم يحاكم مالكه على جريمته، وينطبق الامر على منزل القاضى مصطفى بك سيف النصر ،حيث كان مسجلا هو الاخر فى سجلات المحافظة كمبنى ذى طراز معمارى مميز لقيمته الفنية وطرازه التاريخي. فى مدينة المنيا، لم يختلف الوضع كثيرا، ولعل ابرز مثال قصر هدى شعراوى ،الناشطة البارزة فى معركة الاستقلال الوطنى وحقوق المرأة فى بدايات القرن العشرين. القصر تعاقب عليه الورثة ومسجل فى قوائم حصر التراث المعمارى المميز التابعة للمحافظة، وبسؤال اهالى المنطقة أكدوا ان المالك الحالى حاول مؤخرا تخريب السقف حتى يتسنى له اخراج القصر من الحصر وبالتالى يتمكن من التصرف فيه وهدمه،وهو ما يمكن توقع حدوثه قريبا. فى جولتنا فى شوارع المنيا وتحديدا فى ميدان بالاس الشهير، أبهرنا عدد من الفيلات القديمة، ومنها فيلا "آل بهجت" المسجلة فى قوائم المحافظة ايضا. التقينا بنجل مالك الفيلا الذى أخبرنا بتقدمهم بتظلم لرفع القصر من قوائم حصر المبانى ذات الطراز المعمارى المتميز، لكن تم رفضه، وهم يرغبون حاليا فى بيع العقار، والتخلص من ملكيته، التى أصبحت تشكل عبئا ماديا عليهم، فوفقا للقانون 144 لسنة 2006 ، يلزم مالك العقار المسجل فى قوائم التراث المعماري، بالحفاظ عليه وصيانته وترميمه، واذا رغب فى استغلاله فى اى نشاط ،يواجه بقيود صارمة لمنع تشويه شكل المبنى، ويمنع من اجراء اى تعديلات او اضافات سواء على الواجهة الخارجية او فى الداخل وفقا لدرجة تصنيفه . من القصور البارزة فى مدينة المنيا والمسجلة فى قوائم التراث المعمارى المميز والمستغلة فى أنشطة الدولة ، مبنى النيابة الادارية،و قصر صاروفيم باشا ، والذى اعترض عدد من اهالى المنيا مؤخرا على تخصيصه كمقر لمجلس الدولة بعد ان كان مقرا للحزب الوطنى المنحل، وطالبوا بتحويله إلى متحف للآثار الإسلامية والقبطية ليكون الأول من نوعه فى صعيد مصر، ورغم ان القصر بنى عام 1906 الا انه لم يسجل كأثر حتى الان رغم مرور أكثر من 100 عام على بنائه. وكأن الدولة مصممة على التفريط فى كنوزها فى كل الاحوال ، اما بالاهمال او بالاهدار!