جدل ونقاش واحتدام الخلاف وتبادل الاتهامات وزعيق وصريخ وأحيانا خصام ينتهي بكلمة 'ربنا يولي الأصلح'.. تلك كانت تفاصيل الأيام الثلاثة الماضية التي عاش فيها المصريون حالة انتخابية نادرة لم يعشها من قبل علي مدي تاريخه الطويل المعاصر والقديم، فالشعب الذي عاش سنوات طوال يعاني تحت وطأة نظام مستبد لايتيح له فرصة للتعبير عن إرادته، أصبح اليوم من حقه ان يختار رئيسه، وأن يختار بحرية مطلقة لا أحد يتحكم في الآخر ولا يفرض عليه وجهة نظره، صحيح أن هناك بعض الممارسات التي فرضتها بعض التيارات لتزوير إرادة الناخبين واستغلال فقرهم وحاجتهم وعوزهم، لكن المشهد إجمالا يمكن اعتباره حالة جميلة من المشاركة والحماس من جانب المواطنين وكفاءة في الأداء من جانب المنظمين ولجنة الانتخابات الرئاسية. الانتخابات عكست حالة من الزخم علي مدي الأشهر الماضية، وخلقت حالة من النقاشات الديمقراطية علي مدي الأسابيع المنصرمة، وفاجأتنا بحالة من الدهشة والإثارة خلال اليومين الماضيين، فللمرة الأولي لم يعرف المصريون رئيسهم القادم ولذلك فقد تباحثوا وتناقشوا وتعاركوا وتشاوروا حتي يستقروا علي رأي في اختيار شخص رئيسهم، كان المصريون في اصطفافهم في طوابير طويلة امتدت منتظرة لمدة أربع ساعات علي حد وصف إحدي الناخبات، يعكسون حالة من الاصرار علي إنهاء مرحلة الأزمة التي عاشوها لمدة عام ونصف العام منذ قيام ثورة يناير حتي يومنا هذا. وعلي الرغم من الاختلاف في الرأي حول بعض المرشحين حتي داخل الأسرة الواحدة، فإن ذلك لم يفسد للود قضية، فالنقاشات وان احتدمت فإنها عبرت بشكل كبير عن ديمقراطية لم يذق المصريون طعمها أبدًا عند اختيار رئيسهم، ومن ثم كانت وستكون نقطة البداية التي بدأوا أولي خطواتها. تعددت دوافع تصويت الناخبين، فالبعض أراد الاستقرار والأمن والآخر صَوَّتَ ضد أو مع التيارات الدينية، وآخر أراد مرشحا يعبر عن آماله وطموحاته في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، وعكست النتائج تفاوتًا واضحًا في توجهات المصريين وإختياراتهم، وبالتالي في وجهات نظرهم ولكنهم أكدوا فكرة الإيمان بديمقراطية الصندوق، حتي وإن كانت النتائج قد جاءت مخيبة لقطاع لايستهان به من الشعب المصري. لكن الأهم في كل ماحدث هو فكرة الاختيار والتنوع والاختلاف وبالتالي تقبل الرأي والرأي الآخر، وهو أجمل ما منحتنا إياه الثورة، وهو ما عبر عنه أحد الناخبين الذين التقيتهم خلال تجوالي بين الدوائر الانتخابية في مناطق الجيزة والهرم، والذي حدد اختياره لمرشحه بناء بين قدرته علي حل المشكلات الاقتصادية التي يعانيها البلد والتي تنعكس علي المواطن وتكدر صفو حياته، بينما اختار آخر عنصر الأمن الذي علي أساسه تحل كل المشكلات، فبدون الأمن لن تكون هناك استثمارات أو استقرار وتنمية اقتصادية. في طابور النساء تعددت الشرائح الاجتماعية والتعليمية، ولكن وعيا بأهمية أصواتهن هو مادفعهن للانتظار طويلا تحت قيظ شمس نهار الأربعاء أول أيام الانتخابات، سيدات من كبار السن لهن الأولوية في الدخول حسب تعليمات رؤساء اللجان، ومساعدات. تقدم من أفراد الجيش والشرطة المتواجدين بكثافة لتأمين اللجان الانتخابية لمعاونة العجائز علي صعود الدرج المؤدي للجان الانتخابية، غير أن ذلك لايمنع من التعامل بحزم مع أي محاولة لاختراق قواعد الأمن، قالت لي سيدة عجوز إنها اختارت مرشحا منحها بحديثه الاحساس بغد أفضل لابنائها وأحفادها، بينما أكدت سيدة أخري 'قبطية' علي أنها تخشي من سيطرة التيارات الدينية علي الحكم، وأن ذلك يمثل أرقا بالنسبة لها ولذلك فقد اختارت مرشحا لاينتمي لتيار الإسلام السياسي. المرشح الرئاسي حمدين صباحي كان مفاجأة الانتخابات بما حققه من تنامي شعبيته بشكل متزايد خلال الأيام القليلة التي سبقت الانتخابات وخلال يومي الانتخابات، كان حمدين اختيارا لقطاع لايستهان به رأي فيه حلما وأملا، ولعل الاختيار الموفق لكلمة 'واحد مننا' شعارا لحملته، جعله أكثر التصاقًا ببسطاء الناس قبل مثقفيهم، فما ان تسأل عن سر اختياره لمنصب الرئيس من قبل أحد مؤيديه حتي يرد عليك: 'بأنه ابن أسرة تنتمي للشعب، وبالتالي فهو يشعر بهموم الناس والأمه'، لقد خلق صباحي حالة سرت بين قطاع غير قليل، فحصل علي نسبة أصوات وشعبية فاجأة.. كثيرًا من معارضيه، وألهبت حماس مؤيديه. في إحدي لجان الهرم بالجيزة جلست عجوز تبكي بعد أن عجزت عن التعرف علي رمز أو صورة مرشح معين طلب منها اختياره، وإلا ستقطع عنها المساعدات التي تحصل عليها شهريا، وهناك نماذج أخري كثيرة علي هذه الشاكلة من الناخبات اللائي لم تستطعن التحكم في قدرتهن علي الاختيار لسبب أو لآخر، وهذه الكتلة هي ما تم استثمارها جيدا من قبل بعض المرشحين، واستهدفتها حملات انتخابية بعينها وعملت علي توظيف كل الثغرات لصالح دعم التصويت لمرشحها. ربما لم يتوقع الكثيرون نتائج الانتخابات، غير أن قطاعا اختار فخرجت المؤشرات لتؤكد اختياره، وبغض النظر عن كون النتائج جاءت مخيبة لآمال الكثيرين ممن حلموا بتغيير حقيقي، إلا أن الحقيقة الوحيدة التي يمكن الاعتزاز بها هي أن الشعب الذي ظلم كثيرا واضطهد ووصف بالجهل والتخلف وعدم جاهزيته لممارسة الديمقراطية، هو الشعب نفسه الذي خرج وشارك وأختار وعاش تجربة ديمقراطية تعددت أشكالها وأساليبها بشكل يؤكد أننا نتقدم بالفعل خطوات للأمام.