طفل يجلس علي حافة الصينية التي تتوسط ميدان التحرير يردد بصوت هامس: 'عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية'، وحين سألته: هل يعرف معني ما يردده؟ أجاب أحمد ابن الثماني سنوات، كما عرفني بنفسه: 'لا.. بس من أيام الثورة وانا باسمعها'. سألته عما يفعله طفل آخر يجلس علي حافة الصينية التي تتوسط ميدان التحرير يردد بصوت هامس: 'عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية'، وحين سألته: هل يعرف معني ما يردده؟ أجاب أحمد ابن الثماني سنوات، كما عرفني بنفسه: 'لا.. بس من أيام الثورة وانا باسمعها'. سألته عما يفعله في ميدان التحرير، قال: 'أنا كل يومي باجي هنا عشان أسترزق. أصل أبويا ما بيشتغلش وأنا لازم أجيب فلوس لأمي واخواتي'. سألته: بتخاف من البلطجية؟ سألني هو: 'يعني إيه بلطجية؟.. قصدك إحنا البلطجية؟'. تركته وأنا أشير له بيدي 'لا أعرف'، فقطع سيري بسؤاله الطلقة 'هو ليه الناس لسة بتنزل التحرير وتتظاهر؟ عاملين مشاكل ليه بقي؟ مش خلاص مبارك اتحبس؟'، تسمرت مكاني لما مر صبي كبير سريعًا وهو يجري ويردد 'الناس بتخرج مظاهرات لغاية أبوك ما يسترجل يا أحمد ويخرج يشتغل'. لا أعرف الصبي الذي تطوع بالإجابة، ربما يكون هو الآخر مشروع 'بلطجي' حسب نظرية الترويج للبلطجة في الفترة الأخيرة. الرغبة الاستحواذية التي تسيطر علي المصريين كافة في التحفز لكل فقير 'هدومه مقطعة' علي أنه بلطجي تحتاج وقفة. علي شفا انتخابات الرئاسة والقلق لم يزل هو سيد الموقف. وبعيدًا عن الثرثرة حول عناوين عريضة كالاستقرار وما شابه، فإن الكلام عن البلطجة والعنف والدم تحول إلي تعايش يومي، وأصبحت البلطجة كأنها فكرة قد تشابه أسطورة مصاص الدماء، وإن كنا عرفنا شخصية مصاص الدماء تهيم في الشوارع ليلا بحثًا عن ضحاياها، لكن مصطلح 'البلطجة' ذاته أصبح هاجسًا يثير الرعب، يتصدر الأخبار في النشرات وبرامج ال'توك شو' وحتي الحكايات الشعبية، فتعددت حكايات السرقة والخطف والقتل. الكل يتباري في تقديم صور متعددة للبلطجة والترويع ارتبطت بحالة الانفلات الأمني التي عشناها ولم نزل نعيشها مؤخرًا. اعتدنا أن تكون الانتخابات عمومًا في مجتمعنا هي النافذة التي تفتح علي مشهد البؤس والشقاء، حين كان الفاسدون يصرون علي كتابة فصل في تاريخ البلد بالتزوير والاستعانة بالبلطجية ليكملوا مسار الفساد. من هنا تقترب انتخابات الرئاسة. يزداد الضغط ويتنوّع. تنفتح الاحتمالات علي السيئ أو الأسوأ، ويترقب الجميع ليس بدافع التحول الأخطر والمصير الذي ينتظرنا، ولكن يواكبه السؤال: هل هناك عنف جديد وشقاء أكثر؟.. هل سيتوقف العطش إلي الدم؟ لا يمكن للإجابة عن سؤال عابر وسطحي إذا نبع من وعي الشعب بمسئوليته التاريخية في مقارعة آلتي القتل والشر، الصادرتين عن الذين يريدون تحويل البلد الي جحيم من أجل القضاء علي الثورة وأي حلم بالتغيير - الارتكان إلي فكرة أن الخراب والفوضي سببها 'البلطجية' والتغاضي عمن يقف وراء حوادث العنف والبلطجة ودون التغاضي أيضًا عن أوجاع الناس. علي الرغم من بشاعة اللحظة وقسوتها وعنفها، لكن لا بد من العمل علي فضح الخبايا، والسعي إلي كشف الوقائع، والبحث عن الحقائق وإظهارها، من دون التغاضي عن أهمية التحريض علي الوعي والمعرفة والعلم في مواجهة الذين يشتغلون علي الخراب ويعملون في الظلام كمصاصي الدماء. بلطجية الأمس واليوم بالأمس، قبل ثورة 25 يناير عرفنا خزاعة وحنظلة وأم عمرو.. برصفهم أسماء شهيرة لفتوات 'جاهزين لأي انتخابات'، طبعًا من يدفع أكثر يدرك وفاء العضلات المفتولة لمعركته الانتخابية. واليوم وغدًا لم تزل العضلات المفتولة حاضرة ورهن الإشارة أيضًا لمن يدفع. هم يطلقون علي أنفسهم 'فتوات'، ولكن اللغة والتاريخ يسمونهم 'بلطجية'، فالفتوة كما تعرفه معاجم اللغة العربية هو النجدة وهو نظام ينمي خلق الشجاعة والنجدة في الفتي، أما البلطجي فترجع أصول هذه الكلمة الي العصر العثماني، وهي مكونة من بلطة و'جي' إضافة ترتبط بالمهنة مثل قهوجي وعربجي، ف'بلطجي' تعني الذي يبيع قوة جسده، متسلحًا بالسلاح. وعصر الفتوات قد انتهي في الأربعينيات كما يقول المؤرخون أما عصر 'البلطجة' فازدهر في ظل أنظمة رسخت لمفاهيم برجماتية تقوم علي الاهتمام بتدعيم سلطاتها المطلقة، والتعامل علي أساس أن فكرة ترهيب المواطنين هي الحل الأمثل للمحافظة علي الخريطة السياسية كما يريدونها، أو بالأحري علي الحفاظ علي مصالحهم! يحاولون تغليف فعل البلطجة بنوع من نبل 'الفتونة' كما عرفناها سواء من روايات نجيب محفوظ أو الأفلام التي نقلت عنها أو حتي قراءاتنا للتاريخ، ولم يدركوا الفارق بين 'النبوت' و'السنجة'.. بين دفتر أحوال البلطجة في مصر الآن صفحة طويت في كتاب التاريخ عن فتوات الماضي، وإن كان يربط بينهما كما يقول الكاتب الكبير جمال الغيطاني: ' القاسم المشترك بين فتوات نجيب محفوظ والبلطجية حاليًا هو ضعف الدولة وغياب الشرطة'.. مضيفًا: 'كان سلاح الفتوة: العصا والنبوت والقوة الجسدية الهائلة، ولكنه لا يسرق أو يخطف أبدًا، أما البلطجية حاليًا فهم خليط من المسجلين خطر والهاربين من السجون ومن مافيا نظام الرئيس السابق حسني مبارك'. هذا الخليط الذي تحدث عنه الغيطاني، هو الامتداد الطبيعي لسنوات الفساد والفقر التي غيرت من تركيبة مجتمع فيه عدد المليارديرات لا يتجاوز أصابع اليد تقريبًا ويتحكمون في الحاضر وفي الغد، بينما الأغلبية التي تحت خط الفقر تعاني الألم والارتباك والشقاء، وهذا ما يفسره الدكتور حمدي عبد العظيم أستاذ الاقتصاد المعروف في إجابته عن سؤال الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي دفعت إلي انتشار البلطجة قائلاً: هناك أسباب اقتصادية واجتماعية متدهورة للغاية: البطالة زادت بنسبة 20% وارتفع الغلاء بنسبة 21% وبالتالي تحولت أعداد كبيرة من العاطلين إلي مجرمين يرتكبون مختلف الجرائم وعلي رأسها البلطجة لتدبير نفقات معيشتهم، هذا بخلاف المسجلين خطر الذين يعيشون علي الجريمة ويقتاتون منها، وقد أدي توافر السلاح في أيديهم وضعف الشرطة إلي تماديهم في ارتكاب البلطجة بالمعني الواسع لها. ولعل تقديرات المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية لحجم 'البلطجية' وعددهم المتزايد يؤكد خطورة المشهد، فوفق إحدي دراسات المركز عام 2002 يوجد 92 ألف بلطجي من 'المسجلين خطر'.. 82 ألفًا منهم يتمركزون بالقاهرة وحدها.. كما يقدر خبراء اجتماعيون عدد البلطجية الذين كان يرعاهم 'أمن الدولة' ب 50 ألفًا.. وهناك أعداد أخري غير معروفة صنعها الحزب الوطني 'وصفوة' رجال الأعمال المنتمين إليه.. وفي غضون ذلك توالت الدراسات الراصدة لظاهرة البلطجة، حيث أحصت دراسة أخري عدد البلطجية ب150 ألف شخص ازدادوا إلي نحو 200 ألف بعد أن أعد الحزب الوطني خطة توريث لجمال مبارك فأضاف 45 ألف بلطجي في قائمته بترتيبات مع الأمن وتولي بعض القيادات ورجال الأعمال الكبار رعايتهم ماديًا ومعنويًا. السنجة اتكلمت... 'سكت الكلام والبندقية اتكلمت'، تقريبًا هذا ما كتبته صحيفة 'لوس أنجلوس تايمز' لما خلت الشوارع تقريبًا من الشرطة ووجد الشعب نفسه مضطرًا لحمل السلاح لحماية نفسه بنفسه، رصدت 'لوس أنجلوس تايمز' ارتفاع معدلات الجريمة في مصر، وأشارت إلي عناوين الأخبار التي باتت تعكس قسوة لم تكن معروفة في السابق، مثل سلسلة من حوادث سرقة السيارات، وأحداث بور سعيد، وكثير من الأسلحة المهربة، وقالت: 'هذه هي مصر سواء كنت تتجول في ميدان التحرير الذي يمكن أن يتحول في لحظة من كرنفال حزين إلي ساحة معارك قاسية أو كنت في دلتا النيل والقري المتوغلة في صحاري الجنوب'. الصورة هنا ترصد الأمان المفقود وتشير إلي الأسلحة التي أصبحت تباع علنًا علي الأرصفة، ونحن لسنا في حاجة الي رصد صحيفة أجنبية لواقع نراه ونعايشه يوميًا حتي نصدق، كما يقول طارق عبدالناصر 'مدرس': 'السلاح المنتشر بهذه الطريقة والسطو المسلح علي البنوك وغيره.. أشياء كنا لانراها إلا في الأفلام الأمريكية فقط ولم نكن نتخيل أنها يمكن أن تحدث في مصر'. في منطقة العتبة والموسكي أصبح مشهد بيع الأسلحة مألوفًا. شاب يفترش ويبيع الأسلحة البيضاء: سيف وسنجة ومطواة قرن غزال وصاعق كهربائي، كله متوفر وكله له ثمنه، كما يقول لنا البائع الذي يرد بحذر واقتضاب.. ولما سألته عن مصدر بضاعته من الأسلحة، صرخ في وجهي أنا وزميلي: 'هي أيه الحكاية؟ انتوا جايين تشتروا ولاتحققوا معايا'، ففررنا من أمامه قبل أن يتطور الأمر إلي رعب أكثر. لكن يظل الإقبال علي شراء الأسلحة في الفترة الأخيرة أمرًا ملحوظًا وهو ما أكده يسري سعيد بشارة 'مدير شركة أسلحة': 'زاد الطلب علي السلاح في الفترة الأخيرة، وهذا أمر طبيعي يحدث مع أي حالة فوضي، فأصبح يأتي إلينا من لديه مبرر لحمل السلاح مثل: صاحب شركة أو أرض زراعية أو من يتحرك بمبالغ مالية كبيرة'. مضيفًا: 'نوعية السلاح التي يزيد الإقبال عليها هي حلوان من إنتاج المصانع الحربية'، ولما سألته عن الآلي والسنج والسيوف التي تظهر فجأة في الشارع المصري أجاب: 'لا علاقة لنا بكل ذلك. إنها أسلحة مهربة تدخل البلاد بشكل غير شرعي'، يشير إلي الأسلحة المهربة من ليبيا والسودان كما نشرت وسائل الإعلام، بينما يقول سامي عبدالرحيم 'مهندس': 'مصر بالرغم من كل هذه الفوضي إلا فإنها أكثر أمنا من العديد من الدول الغربية ولكن الصور الأخيرة تحاول أن تظهرها غير ذلك، وعمومًا كل هذا سينتهي قريبًا بالاستقرار'. علي أي حال فإن ارتباك الشارع في مصر هو ارتباك بفعل فاعل أراد التخبط والاضطراب، ليتحول الشعب من داعم إلي كاره للثورة وناقم عليها، وهو ما اعتبره د.عماد جاد الباحث في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 'دليلًا علي حالة التخبط، والتخبط ناتج عن عدم وجود دستور نسترشد به' و'أن السير في الطريق الخطأ منذ البداية جعل الحالة الموجودة هي النتيجة المنطقية'. عله بذلك يؤكد غموض يكتنف الصورة، ويعيدنا مرة أخري إلي فكرة البلطجي، كما يقول الدكتور أحمد مجدي حجازي أستاذ علم الاجتماع السياسي ونائب رئيس جامعة 6 أكتوبر، مشيرًا إلي أن البلطجة ترتبط بالشخص الذي يبيع قوة جسده مستخدمًا وسائل غير مشروعة للعدوان علي الآخرين. ويظهر البلطجي عادة في المناسبات الاجتماعية والسياسية مثل: الانتخابات، وخلال الحركات الثورية، والانفجارات الشعبية، وفي حالات الانفلات الأمني. ويعتمد البلطجي علي ترويع المواطنين والقيام بأعمال مشبوهة دون وازع أخلاقي أو ضمير إنساني. وعلي هذا الأساس لا تقتصر البلطجة علي الفرد وإنما تنسحب إلي تنظيمات أو جماعات 'مافيا البلطجة'، وتنطلق البلطجة من قيم الغدر. وهنا فإنه إذا كان المؤرخون، في قصصهم المتعددة عن ظاهرة الفتوة، أشاروا إلي الدور الوطني الكبير لبعضهم إبان عهود الاستعمار، حيث قاموا بقيادة مجموعات من المواطنين والفدائيين في مقاومة الحملة الفرنسية علي مصر عام 1789، وكذلك في ثورة 1919، ومقاومة الاحتلال الإنجليزي، فإنه بالتأكيد يأتي البلطجي الذي يعمل علي ترويع مجتمعه، علي النقيض منه. ولابد لي أن أعترف بأنني عانيت بعض الشيء في الفترة الأخيرة ومع الترديد المتكرر لكلمة 'بلطجي' في فهم المعني الحقيقي المقصود بالكلمة.. و أخيرًا أدركت أنها بعيدًا عن المعني اللغوي أو التوصيف الشكلي المباشر، هي قوة مناوئة لأحلامنا وأهدافنا في مجتمع مختلف، هي قوة صنعتها مراكز قوة تقف فاصلا بيننا وبين مجتمع آدمي وحقيقي نتطلع إليه. في الحقيقة نظرت إلي الموضوع من زاوية أخري، وأدركت أن القضاء علي ظاهرة البلطجة، هذا المطلب الذي نسمعه ليل نهار بلا توقف، يلزمه التقصي الشديد أولا عن هذه الظاهرة ومن يقف وراءها. المشكلة ليست في الاستئصال وإنما في سر نشوء الظاهرة ونموها وانتشارها، ولكي يتحقق ذلك كان لا بد أن يسقط نظام الفساد الذي يحول دون تحقيق ذلك ويحول الفقير والعاطل إلي بلطجي في ظل نفق مظلم ينمو فيه الفساد وتزداد قوة صانعيه، بينما يسعي الجميع لمجرد البقاء أحياء علي طريقة 'أهي عيشة والسلام'، تلك الجملة التي ظلت طويلا شعارًا لليائسين، وهنا أتذكر ما كتبه يوسف إدريس بعنوان 'لا تناقض بين الخبز والحرية' الذي ضمه كتابه 'جبرتي الستينيات'، حيث قال: 'إننا نعترف بأننا شعب لا يزال يكافح لكي يضمن لكل مواطن فيه لقمة العيش'.