كنا في 'الأسبوع' أول من رحب بعودة الدكتور محمد البرادعي إلي مصر بعد انتهاء عمله في وكالة الطاقة النووية الذي استغرق السنوات الأساسية من عمره المديد.. خاصة أنه قد أعلن عن رغبته المشاركة في العمل العام والقيام بدور سياسي ودعم دعاوي التغيير.. وإقالة مصر من عثرتها.. وقد رحبنا بعودته باعتبارها إضافة متميزة لجبهة المعارضة وأفقا جديدًا يتخطي الوضع القائم بسماته المحلية والإقليمية إلي ما هو أبعد من ذلك.. ولم نرحب به باعتباره المخلص أوالمنتظر كما اندفع غيرنا فأطلقوا عليه تلك الصفات وبشروا المعارضة بأنه قد آن أوان راحتها وهدوئها وترك الأمور في يد الرجل الذي يملك عصا سحرية وقدرات فوق بشرية تمكنه من القيام بما لم تستطعه المعارضة بكل فصائلها علي مدي عقود مضت وأخري في علم الغيب.. وكان ثمة من صدق ذلك فيما يبدو.. وبدأت التحركات واللقاءات والاجتماعات.. وظهرت في الساحة السياسية وجوه جديدة أكثرها مألوف بسبب الظهور الإعلامي ولكن لا سابقة لهم في النضال السياسي ولا خبرة لهم بالعمل العام.. وإن كانت أصواتهم أعلي بكثير من أصوات من ناضلوا علي مدي سنوات طويلة ودفعوا ثمن مواقفهم.. وبدأت موجة غريبة من الهزل الذي ظنوه نضالاً.. فكانت مجرد زيارة للبرادعي في مستوطنته بالكومباوند الشهير واقعة يتم الحديث عنها في معرض النضال.. وتقدم المناضلون الجدد خطوة فعقدوا أكثر من لقاء في القاعات المكيفة داخل فنادق الخمس نجوم.. وقرروا تشكيل كيان يضمهم فكانت 'الجمعية الوطنية للتغيير' التي رفض البرادعي رئاستها أو الانتساب إليها ربما تأففًا أو ترفعًا لأنه لم يعلن نيته في قيادة دعاوي التغيير ليجد نفسه في النهاية رئيسًا لمجموعة من الهواة الباحثين عن الوجاهة الاجتماعية.. وربما ليظل حرًا يقبض علي مقاديره ولا يسأل عن تصرفات الآخرين.. وربما كان يتصور أنه سيصبح رمزًا لأهل مصر وليس لمجموعة محدودة لا ترضي شيئًا من طموحه.. وأيًا كان ما فكر فيه فهو حقه إلا أن غيابه الدائم جعل المجموعة تشعر بالقلق وبدأ الأعلون صوتاً في البحث عن مسارات أخري لجلب الصيت والوجاهة الاجتماعية.. خاصة بعد التصريحات التي أطلقها د.البرادعي خلال زياراته المتقطعة لمصر والتي لم تلق أي اهتمام من الأوساط السياسية، بل كان بعضها مثيرًا للتفكه.. و قد أعلن نيته الترشح لمنصب رئيس الجمهورية وبدأ مع مجموعته جس نبض الناس ولم تكن النتيجة مريحة.. ثم راوده الأمل بعد ثورة 25 يناير 2011 خاصة أن عددًا من الوجوه التي أحاطت به ولازمته قد هرعت إلي ميدان التحرير لإثبات حالة والظهور الإعلامي بين الثوار وبعدها كانت لهم قصص وحكايات عن الشهداء الذين سقطوا بين أيديهم ورصاص القناصة الذي كان يمرق فوقهم وتحتهم ولكن أحدًا منهم لم يصب والأعمار بيد الله.. وقد حملوا البرادعي العائد إلي مصر بعد أن هزت الثورة أركان الدنيا إلي الميدان ليستقبل ببرود صادم.. أجبره علي العودة إلي طبيعته والتخلي عن التحفظ المصنوع كما يقول المراقبون المحايدون الذين يؤكدون أن الرجل قضي أكثر من ربع قرن بين دهاليز التدبير والتخطيط والتآمر وأقبية الشر في أمريكا وعواصم أوربا.. ومن المستحيل أن يظل الرجل مبرأً كما خرج من مصر وقد سعد هؤلاء عندما بدا البرادعي مهموما بمستقبله.. حفيًا بوضعه في مصر.. يجرب فنون الملاوعة والمراوغة وينتقد المرشحين المحتملين للرئاسة بعنف ويجهر برغباته ويزكي نفسه.. فعندما تردد أن وزارة عصام شرف علي وشك الرحيل لتحل محلها حكومة إنقاذ وطني تقوم بما عجزت عنه الحكومة المقالة وتستعيض عن الوقت الضائع بالعمل الجدي المخطط.. أعلن أنه سوف يقبل رئاسة حكومة الإنقاذ إذا عرضت عليه حتي لو استدعي ذلك انسحابه من الترشح لرئاسة الجمهورية.. ولم يتحر المحيطون به الأمانة عندما ملئوا الدنيا لغطًا وإثارة عقب اختيار د.كمال الجنزوري لرئاسة حكومة الإنقاذ وحاولوا استخدام شرعية الميدان لحرمان مصر بوضعها الراهن من خبرات وإمكانات وقدرات الجنزوري التي لا يمكن لأحد إنكارها لصالح رجل 'غريب' عن مصر وأوضاعها يحتاج لسنوات حتي يعرف عنها الكثير الذي لا يعرفه.. وكانت مشكلات وكوارث.. لم يهدأ بعدها البرادعي وأتباعه وقد فكر بطريقته متوهمًا أنه يفجر مفاجأة سوف تهتز لها مصر وأعلن انسحابه من الترشح للرئاسة لأسباب ذكرها واستمع إليها الناس بنصف أذن.. وأسقط في يد الرجل الذي أوهمه المحيطون به أن الجماهير ستهب مطالبة باستمراره وسوف تجبره علي التراجع وسوف يكون ذلك بمثابة التزكية الشعبية التي تجعل منه المرشح الوحيد.. فلما لم يحدث ذلك أو شيء منه.. لم يصبر الرجل الذي كان مثلاً للتباطؤ بعد أن رأي الأحداث تتسارع وأن الوقت لم يعد في صالحه وقد تعلم في سنوات عمله بالخارج ما لا نعرفه ولا نستطيع التفكير فيه.. وفوجئنا بموجة رفض لكل شيء.. ومتي؟ في ذكري مرور عام علي الثورة.. وقيام أول برلمان حقيقي والبدء في الإجراءات المؤدية إلي وضع الدستور الجديد وانتخاب رئيس الجمهورية وفقًا لخارطة الطريق التي حظيت بإجماع شعبي ليتم تسليم الحكم لسلطة مدنية آخر يونية 2012 وقد ركزت موجة الرفض الجديدة علي ضرورة تسليم الحكم لسلطة مدنية فورًا.. وليكن لرئيس مجلس الشعب أو رئيس المحكمة الدستورية.. وهنا برز البرادعي كالعادة وفي الوقت المناسب ليقترح اختيار رئيس جمهورية مؤقت.. رئيس جمهورية 'تصريف أعمال' يتابع وضع الدستور الجديد وإنجاز انتخابات رئيس الجمهورية ولابد أن شعب مصر بذكائه الفطري.. ومن كثرة ما دقت علي الرءوس طبول قد أدرك لغز البرادعي.. وأنه قد أصبح أحد مشكلات مصر الملحة التي بات من الصعب التخلص منها.. لأنها تتلون بين لحظة وأخري.. وتتخذ أشكالاً ومسارات مختلفة ولا يهمها ما تجلبه لمصر من مصائب يدفع الشعب ثمنها من استقراره وأمنه ودمه.. وبقي أمامه أن يتحرك لحسم الأمر الذي لا يحسمه إلا الشعب.