دم الشهيد أغلي من كل كنوز الدنيا .. فالدماء الزكية التي سالت علي أرض ميدان التحرير .. وميادين مصر .. وشوارعها في جمعة الغضب .. قبل عام من الآن إنما كانت هي الصيحة .. والصرخة .. التي أيقظت الضمائر .. وشحذت الهمم .. ونبهت الغافلين .. إلي أن مصر .. التي عانت كثيرًا الاستبداد والفساد .. آن لها أن تفرد شراعاتها إلي آفاق الحرية. تخضبت الحرية بلون الدم القاني الذي سكبته سواعد الشباب علي أرض مصر الطاهرة .. فتحولت بفضل تضحياتهم الخالدة إلي أهازيج للنصر .. جاء تعبيرًا عن مطالب كل المصريين في التحرر من الماضي البغيض .. فعبر ثلاثين عامًا من الظلم قبع المصريون في سجون مبارك وعصابته .. التي أحكمت السيطرة علي مقدرات الأمور في البلاد. جاءت الثورة .. لتبدد الواقع الفاسد .. وتضيء مصابيح الحرية .. وتنير للمصريين مستقبلهم .. وتنزع الخوف من كل المقهورين .. والمرتعشين علي أرض بلادهم .. فكانت نبراسًا .. وأملاً طال انتظاره .. وجسدت بالتضحيات النبيلة أسمي آيات الفخر لشباب مصر الذين قدموا أرواحهم طواعية من أجل وطنهم .. وأمتهم. هذه التضحيات الغالية .. كانت تستحق تخليدًا وتمجيدًا لذكري منقذي الوطن بأرواحهم .. الذين ذادوا عن شعبهم بدمائهم .. غير أن ما جري في نهر الحياة في مصر .. وعلي مدار عام كامل .. منذ انطلقت شرارة الثورة .. وسقط الشهداء والمصابون .. لم يكن متجانسًا البتة مع ما كان يأمله كل المصريين علي أرض هذا الوطن. ولأن دماء الشهداء مقدسة في ضمائرنا .. فقد كنا نتصور أن يهب المجتمع برمته .. وليس الحكومة وحدها .. لصيانة حقوق ودماء الشهداء .. وأسرهم .. وعائلاتهم .. وكنا نتوقع من الحكومات التي جاءت بعد الثورة أن تضع تلك القضية علي رأس أولوياتها .. بل أن تعتبرها أولوياتها الأولي .. والتي لا يمكن التحرك بقاطرة الحياة في الوطن بعدها .. قبل معالجة آثارها وتداعياتها .. ما حدث في المقابل كان جريمة بكل المقاييس .. لقد تركوا أسر الشهداء .. يتسولون .. ويقفون بالساعات علي أبواب المكاتب، والإدارات، والصناديق .. يبحثون عن حقوقهم المهدرة .. وينتظرون أن تنظر الحكومة في أمرهم. وحين شعرت أسر الشهداء والمصابين بالمهانة .. راح بركان الغضب داخلها يتفجر .. وراحت جموع المصريين تؤازرهم في غضبتهم .. ووقف الوطن جميعه مشدوهًا من غرابة الفعل الحكومي في التعامل مع واحدة من أهم القضايا التي تشغل بال المصرين .. فتكريم الشهداء لا يتم بإقرار مبالغ مالية .. لا تفي الشهيد حقه مهما بلغت .. بل تتم بتقديرهم .. وتكريمهم بالشكل الذي يليق بقيمة التضحية التي قدمها هؤلاء .. ومن أسف فقد غابت تلك الصورة عن ذاكرة الجميع .. ولم نجد سوي مبادرات واهية .. وتصرفات ساذجة .. وكلمات لا تقدم ولا تؤخر .. وأصبحنا بعد مرور عام علي الثورة .. وعلي جمعة الغضب .. وعلي سقوط الشهداء نبحث من جديد عن حقوقهم المهدرة. إنها كارثة بكل المقاييس .. أن نتعامل مع دم الشهيد .. وكأننا نتعامل مع قضية البطالة وغيرها من القضايا .. التي تدور في حلقات مفرغة .. ولم تجد حلاً حتي الآن.