لم تُقلل الأحداث التي وقعت في سيدي بوزيد من الانجاز التاريخي الذي حققه التونسيون باختيارهم للمرة الاولي برلمانا منتخبا من قبل الشعب بعد إنهاء حكم زين العابدين بن علي ومن قبله سلفه الذي لا يقل عنه ديكتاتورية وتسلطا الحبيب بورقيبة .. فبغض النظر عن الفائز في الانتخابات التي جرت الاسبوع الماضي فقد يظن البعض ان أحداث العنف التي وقعت في سيدي بو زيد ستفسد نتائج العرس الديموقراطي لكن الحقيقة أنه في تونس كما في مصر فلول من الحزب السابق ' التجمع في تونس والوطني في مصر' ويبدو ان هذه الفلول ارادت استغلال مسيرات نظمها انصار حزب العريضة الشعبية 'الذي يصف التونسيون أعضاءه بالتجمعيين 'نسبة الي حزب بن علي' إعتراضا علي إلغاء نتائج الحزب في عدد من المدن لوكان تم احتسابها كانت ستضع الحزب في المرتبة الثالثة بعد حزبي النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية وهو ما كان سيمكن الحزب من المشاركة في الحكومة المقبلة ربما بعدد أكبر من الحقائب الوزارية .. ويبدو ان فلول التجمع أرادوا إشعال الموقف عبر ترديد شائعات عن الامين العام للنهضة حمادي الجبالي عبر من خلالها عن رفضه التحالف مع حزب العريضة الشعبية لأنه يضم فلولا من حزب بن علي مما أدي الي اندلاع اضطرابات في سيدي بوزيد معقل العريضة الشعبية سرعان ما أدت الي قيام الامن بفرض حظر للتجول في المدينة مازال مستمرا حتي الان ... وكانت المدينة التي كانت مهد الثورة التونسية شهدت مظاهرة احتجاجية، أعرب خلالها أكثر من ألف متظاهر عن غضبهم الشديد من تصريحات الجبالي وأعلن الهاشمي الحامدي رئيس حزب العريضة والمتهم بأنه كان علي صلة وثيقة بحزب بن علي سحب قوائمه التي فازت ب19 مقعدا في تونس عقب إلغاء الهيئة العليا المستقلة للانتخابات تلك القوائم في ست دوائر انتخابية بسبب مخالفات مالية، وقال لوكالة رويترز إنه يعلن الانسحاب من الانتخابات ويتبرأ من نتائجها ولن يشارك في المجلس التأسيسي وإذا كان التونسيون يتهمونه بأنه من فلول حزب بن علي فإنه سيترك لهم الساحة ويرحل ... وأقدم المشاركون في هذه الاضطرابات علي حرق مقر حركة النهضة الإسلامية في المدينة، كما أضرموا النار في مقر بلدية المدينة وعدد من المؤسسات الحكومية الأخري، إلي جانب الاشتباك مع قوات الأمن والجيش التي استخدمت بكثافة القنابل المسيلة للدموع لتفريق المحتجين. وإذا كان من حق أنصار حزب العريضة الشعبية التظاهر في سيدي بوزيد إحتجاجا علي ما وصف بأنه تعنت ضد إرادة ناخبي المدينة فإنه ليس من حق السلطات إلغاء نتائج الحزب بحجة وجود مخالفات مالية وكان حريا باللجنة المشرفة علي الانتخابات احترام إرادة الناخبين وإتمام العملية الانتخابية الي نهايتها وعدم إلغاء نتائج العريضة الشعبية في عدد من المدن وعدم منح فلول حزب بن علي الفرصة الي الانتقام من سيدي بوزيد 'المدينة التي أشعلت الثورة ' وإشاعة جو من عدم الاستقرار وهو ما قد يصيب الثورة في مقتل ويهدد مستقبلها .. ويبدو ان زعيم حزب النهضة راشد الغنوشي انتبه للأمر وسارع بتوجيه خطاب الي الامة دعا فيه أهالي سيدي بوزيد الي الهدوء وعدم المساس بمستقبل الثورة وأضاف "المنتظر منكم أنكم أحرص الناس علي الثورة التي أطلقتم شرارتها، وأناشدكم الحفاظ علي الهدوء وعلي ممتلكات ومرافق الدولة". كما شكك الغنوشي في أن تكون أيادي 'حزب التجمع المنحل قد ساهمت بقدر أو آخر في هذه الاضطرابات من خلال إشاعات باطلة نُسبت إلي الأمين العام لحركة النهضة حمادي الجبالي"، وتعهد الغنوشي في كلمته أن تأتي سيدي بوزيد في مقدمة المناطق المستهدفة بالتنمية. وحرص زعيم حزب النهضة علي طمأنة الجميع في الداخل والخارج ودعاهم الي التخلص من هاجس وصول الاسلاميين الي الحكم في الدول العربية وقال ' إن مفتاح الإصلاح هو الحرية والكرامة واستقلال المجتمع المدني عن الدولة، مضيفا أن النهضة تؤكد علي العمق الحضاري لتونس، وتلتزم بتثبيت انتمائها الحضاري مشددا علي التزام النهضة بالأمن والسلم في العالم، واحترام المواثيق التي وقعتها الدولة التونسية، منبها إلي أن الثورة التونسية هدمت نظاما ولم تهدم الدولة'. وجدد الغنوشي تأكيده علي احترام والتزام النهضة ل'مكانة المرأة الخاصة في مشروع الحركة الحضاري'، مشيرا إلي أن من بين النساء ال49 المنتخبات في المجلس التأسيسي 42 ينتمين إلي حزب النهضة. ويبدو أن حرص الغنوشي ودبلوماسيته لقيت في المقابل استحسان الجميع حيث سارعت وزيرة خارجية الاتحاد الاوروبي كاثرين أشتون بتهنئة حركة النهضة علي فوزها في انتخابات المجلس التأسيسي في تونس، ووعدت بأن يقدم الاتحاد المساعدة علي طريق الديمقراطية والحرية. وقالت أشتون والمفوض المكلف بالعلاقات مع الدول المجاورة للاتحاد ستيفان فولي في بيان مشترك :'نحيي المرشحين والأحزاب الذين شاركوا في هذه العملية الديمقراطية ونهنئ حزب النهضة الذي حصل علي أكبر عدد من الأصوات'. وقال البيان الأوروبي إنه سيكون أمام المجلس التأسيسي المنتخب حالياً مهمة كتابة دستور جديد للبلاد، وعليه العمل بروح من الإجماع من أجل بناء دولة ديمقراطية جديدة. وشدد علي أن الاتحاد الأوروبي يبقي ملتزماً بمواصلة دعمه السياسي والمالي للمجتمع التونسي، معرباً عن الأسف بشأن الاشتباكات العنيفة التي حصلت بعد الإعلان عن النتائج الأولية للانتخابات، ودعا إلي الهدوء وضبط النفس. وإذا كان الموقف الاوروبي واضحا من البداية نظرا لما يربط تونس الدولة 'وليس تونس بن علي' من علاقات اقتصادية مهمة مع الدول الاوروبية فإن الموقف الامريكي الذي تلا فوز حزب النهضة الاسلامي بالانتخابات بدا محيرا فعلي الرغم من أن الرفض لم يأت علي لسان أي من المسئولين الامريكيين إلا أنه بدا واضحا أن واشنطن تشكك في نوايا النهضة وكانت تتوقع ان تٌحدث القوي الثورية توازنا في البرلمان المقبل يتمخض عنه حكومة ائتلافية تستطيع أن تتعامل معها وإذا كانت الولاياتالمتحدة أبدت استعدادها للتعامل مع إسلاميي مصر حال وصولهم الي الحكم فعلي ما يبدو انها لا تٌكن نفس الشعور لنظرائهم في تونس. لكن ما لا تعلمه واشنطن هو أن إسلاميي النهضة أكثر انفتاحا ووعيا من إخوانهم في مصر ولديهم تفسيرات موضوعية للعلمانية بمفهومها الواسع ولا ينكرونها ولديهم أيضا استعدادا للتعاون مع الاحزاب التي يطلقون عليها هناك اسم اللايكية أوالعلمانية المتطرفة فهم يدركون مثلا أن الدخل الاكبر لتونس يأتي من السياحة الشاطئية المفتوحة التي يرتدي فيها السائحون المايوهات بدو ن تحفظ ولم نسمع أحدا من كوادر النهضة قام بالتنظير غير الموضوعي عن السياحة في بلاده ما أدي الي إلغاء 90٪ من حجوزات الموسم المقبل 'كما حدث من أحد قادة الاخوان المسلمين في مصر' كذلك يؤمن قادة النهضة بالاقتصاد الحر الذي يختلط أحيانا بالفوائد الربوية ولا يرون غضاضة في التعامل مع البنوك التي تحوم حولها الشبهات في الخارج طالما ان ذلك ينعش اقتصاد البلاد .. لذلك فتونس بالفعل هي أقرب الي النموذج التركي من مصر التي يتوقع البعض أن تصبح أقرب الي النموذج الايراني في حال وصول الاسلاميين الي الحكم ... ويبدو أن الإدارة الامريكية راجعت حساباتها وامتثلت الي الامر الواقع وقال سفيرها في تونس إن إدارة بلاده ستتعامل مع الحكومة القادمة مهما كانت تركيبتها باعتبارها من اختيار الشعب التونسي. وأكد غوردن غراي خلال مؤتمر صحفي عقده بمقر سفارته بتونس العاصمة مساء الجمعة الماضي، أن بلاده تساند المسار الديمقراطي في تونس ولا تساند حزبا أو مرشحا معينا. ونفي أن يكون للإدارة الأمريكية أي تحفظ علي نجاح حركة النهضة في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي باعتبارها حزبا إسلاميا، خاصة أن الحركة أكدت في عديد المناسبات التزامها باتباع نظام مدني. وإلي ان يٌدرك الجميع الفرق بين إسلاميي تونس وإسلاميي مصر يبقي السباق علي وصول أي منهم الي تحقيق نجاحات النموذج التركي مرهونا بمدي قدرة الطرفين علي تحقيق طموحات الشعبين وإن بدا النموذج التونسي الآن قريبا من تحقيق هذا الهدف وإدراك النجاح .