فى غياب القانون.. وسيادة الرشوة والمحسوبية.. فى الأروقة الداخلية للحكومة.. والمحليات وفسادها للركب.. توجد قوى غير شرعية ممن يملكون الأموال.. لهم اليد الطولى والنافذة فى امتلاك أماكن عامة يطلق عليها أحيانًا سياحية.. وأخرى محلية يرتادها «الشباب» بكثرة.. وهى ما يطلق عليها «كافيهات».. وربما هذا الاسم أمركة للاسم الأصلى والذى يستخدمه أولاد البلد وهو القهوة.. نعم الفقراء لهم القهوة.. أما الأغنياء فلهم الكافيه! صارت «الكافيهات» بطول مصر وعرضها.. ملتقى بالأساس لأولاد الأكابر ولفئات عديدة أخرى تقوم بعقد صفقات.. قد تكون مشروعة فى القليل منها، أما أغلبها فقد تكون غير مشروعة.. ولهذا لابد لمن يملكون هذه الأماكن أن يكونوا «مسنودين» من ناس كبار فى الدولة أولاً!! أو أن يكونوا هم أنفسهم داخل أجهزة أمنية أو سيادية كبرى.. لكنهم لا يفصحون عن الملكية وإنما يصدرون بدلاء لهم يحتلون الواجهة ثانيًا!! أما ثالثًا فقد يقبع فى الخلفية بلطجية وقبضايات يفرضون الأسعار الباهظة بالقوة الجبرية فيما يشبه الإتاوات، ومن يعترض أو يتبرم أو حتى يتساءل عن التصاريح الرسمية أو الموثقة للكافيه.. حق عليه الموت بالبلطجة المسمومة بالفساد.. فهل نسينا أن كلمة بلطجية مشتقة من مستخدمى البلطة بالأساس بغير وجه حق؟!.. نعم سلاحهم القوة والبطش والإرهاب.. وليس الإقناع أو المناقشة أو الاستناد إلى قانون.. وإنما هو العدوان والبطش والاغتصاب بالقوة! وربما هذا بالتمام ما حدث فى الواقعة التى روعت المصريين.. معظم المصريين فى يوم الأحد الدامى والحزين الموافق 5/2/2017.. فى الحى الراقى بمصر الجديدة.. وفى أحد الكافيهات الشيك المخصصة لأولاد الذوات.. فالشاب العشرينى «24 سنة».. محمود بيومى.. خريج الجامعة البريطانية، أراد أن يحتفل مع خطيبته التى تشاركه نفس العرس «سالى حجازى» مع مجموعة من الأصدقاء، بمشاهدة المباراة النهائية لكأس افريقيا، والتى تنافس فيها الفريق المصرى مع الفريق الكاميرونى. الحقيقة التى كانت بادية للعيان.. فى هذا اليوم تحديدًا.. أن الشارع المصرى عن بكرة أبيه كان مشحونًا ومتوترًا انتظارًا لنصر يعوضه حالة الاحباط العامة التى يعيشها.. الكل فى عجلة من أمره، يسابق الريح فى حجز مكان لكى يشاهد هذه المباراة التاريخية لكنها مشفرة.. العلم المصرى تتلقفه الأيدى لكأنه رداء يوحد الجميع.. لكنى لا أعرف سببًا كافيًا أو مقنعًا لعدم تدخل الحكومة بشكل أو بآخر.. لكى تذيع هذه المباراة على التليفزيون المصرى لتخفيف ذلك العبء الملقى بالأساس على عاتق الشعب المصرى فى معظمه والذى صار يئن إن لم يكن يجأر بالشكوى المرة من ارتفاع الأسعار وارتفاع تكاليف الحياة دون أفق منظور!! ما علينا. انتهت المباراة بخسارة الفريق المصرى.. مما أصاب البعض بشحنات غضب.. فى حين تقبلها البعض الآخر بقبول الأمر الواقع.. على هذه الخلفية تصرف هؤلاء الشباب المجتمعون فى الكافيه.. بعضهم حاول الانصراف مبكرًا قبل أن يزدحم المكان بالتدافع للخروج.. فما كان من البلطجية إلا أن يظهروا ويتصدوا معلنين الفاتورة المغالى فيها 1000 جنيه.. وقد دفع الشاب «محمود» المبلغ مرغمًا.. لكنه تساءل عن القانون.. فإذا بألسنة البلطجية تنهال عليه.. ويتطور الأمر بأن يضربوه فى الظهر.. ثم فى القلب بسن الماشة التى تستخدم فى أدوات الشيشة!! والمتهم يعترف بجريمته وهو البلطجى المعين لهذا المقام ويدعى «فزاع» لكى يفزع الزبون بالمطواة أو البلطجة.. لكن السؤال هل هو سرّ البلاء؟ أم أنه أداة لفاسد كبير معلن ومختفٍ فى الوقت ذاته؟! مات الشاب «محمود بيومى» خريج الجامعة البريطانية.. لأنه تجاسر وسأل عن سيادة القانون من عدمه.. وعن التصريح الصحيح لهذا المكان من عدمها.. أمام ارتفاع الأسعار المغالى فيها!! مات الشاب بطريقة عبثية.. أما والده.. وهو أستاذ الطب المتفرغ فى جامعة المنصورة فقد رفض الحديث.. وهو يصر على القصاص لوحيده «محمود» الذى اكتوى بفراقه بطريقة مروعة لا تخلو من عبثية واضحة! وأما الوالدة فقد تدثرت الصمت أمام وسائل الاعلام لتؤكد موقف زوجها.. أما حكومتنا السنية فكأنها تكتشف هذه الأماكن التى يراق فيها دم الشباب المصرى لأول مرة.. ومن ثم عقدت العزم على تحطيم هذه الأماكن.. فى شبه حملة عنيفة وعارمة تجتاح معظم الخارجين على القانون ويسلبون حق المواطنين فى ارتياد مثل تلك الأمكنة سواء فى الشوارع الكبرى أو حتى الجانبية!! والسؤال المطروح.. لماذا أغمضت الحكومة أعينها عن مثل هذه الأماكن طيلة السنين الماضية؟!.. فهذه الأماكن تضاعف عددها عشرات المرات عبر العشر سنين الأخيرة فقط!! بحيث صار عددها بامتداد جمهورية مصر العربية ما يقرب من المليون ونصف المليون.. أما حصة القاهرة منها فتبلغ 120 ألف كافيه.. منهما 22 ألف كافيه غير مرخصة!! ولهذا يتردد السؤال كل مرة: لماذا لا تتحرك الدولة إلا بعد أن تحدث الكارثة وتزلزل وجدان الناس؟! فكم من الاقلام صرخت ضد تلك الأماكن المخالفة والفاسدة والتى تسد المنافذ على القاطنين فى الحىّ.. وتتوسع وتلوث الحىّ حد أن شبهوها بالأوكار.. واتهموما باستباحة حقوق السكان والمواطنين.. وهى ليست وقفًا على حى مصر الجديدة وحده.. وإنما هى منتشرة فى كافة أحياء الجمهورية والقاهرة.. من المهندسين وحتى «السيدة زينب» و«الحسين». أليست البلطجة هى المعادل الموضوعى للإرهاب؟.. إنهما وجهان لعملة واحدة. وقد صارت تضرب بعنف فى أفئدة المصريين.. وإن القضاء عليهما لن يتأتى إلا بمواجهة جذرية للفساد وبتفعيل القانون وتحقيق العدل الاجتماعى والذى به تستقيم الأمور وتستقر الأمم.