انتهت حرب العام 1948م، بين بعض الجيوش العربية من مصر وسوريا والعراق والأردن ولبنان والسودان والسعودية والفلسطينيين من جهة واليهود الصهاينة المتواجدين على أرض فلسطين من جهة أخرى بهزيمة الجيوش العربية والفلسطينيين وبنكبة عظيمة حلت بالأمة العربية عامة وبالشعب الفلسطينى خاصة تمثلت بسقوط 78% من أرض فلسطين بيد العصابات الصهيونية التى أعلنت عليها قيام دولة إسرائيل، ولم يتبق من فلسطين سوى الضفة الغربية وقطاع غزة أى أقل من 22% فقط من أرض فلسطين. أدت هزيمة العرب وانتصار اليهود إلى قيام الكيان الصهيونى على الأرض الفلسطينية وإلى محو أكثر من 531 مدينة وقرية فلسطينية عن وجه الأرض، وترحيل أهلها عنها؛ وتشتيت الفلسطينيين الذين كانوا جسمًا متراصًا على أرض فلسطين لثلاثة أقسام فأصبح جزء فى المناطق المحتلة )داخل الخط الأخضر( وقسم فى الضفة الغربية وقطاع غزة، وهؤلاء الذين ظلوا داخل أرض فلسطين، وقسم ثالث نزح إلى الدول العربية المجاورة وبعض دول العالم الأخرى فى المنافى والشتات. لم تقف النكبة عند الأطماع الصهيونية فحسب فقد تعرضت فلسطين لمؤامرة عظيمة استهدفت الاستحواذ على ما تبقى من فلسطين فقد سعى الملك عبد الله ملك الأردن بالعمل على ضم الأجزاء المتبقية من الأراضى الفلسطينية غرب نهر الأردن إلى إمارته والتى أصبحت تعرف فيما بعد بالضفة الغربية، فلم تمض ثلاثة أشهر ونيف على دخول القوات الأردنية إلى فلسطين لحمايتها «حسبما جاء فى البيان الرسمى لجامعة الدول العربية» من الاحتلال الصهيونى، حتى بدأت تظهر إلى حيز الوجود فكرة ضم الأراضى الفلسطينية الواقعة تحت السيادة الأردنية إلى إمارة شرقى الأردن، فعقدت حكومة الأردن مؤتمر عمان مطلع شهر أكتوبر1948، تحت اسم )مؤتمر فلسطين(، شارك فيه عدد كبير من الشخصيات الفلسطينيةوالأردنية، كما حضره رئيس الديوان الملكى الأردنى مندوبًا عن الملك عبد الله أعلن خلاله المؤتمرون مبايعتهم للملك عبد الله ملكًا على الجزء المتبقى من فلسطين والذى سمى فى حينه «الضفة الغربية»، وذلك بعد أسبوع واحد فقط من الإعلان عن حكومة عموم فلسطين بتاريخ 23/9/1948، فى قطاع غزة.. وكما هو واضح فإن الأردن حاول أن يضفى على عملية ضم الأراضى الفلسطينية إلى الضفة الشرقية طابعًا شرعيًا باعتبار أن هذه الوحدة تمت باعتبارها مطلبًا فلسطينيًا، وفى إطار هذا التوجه الأردنى سعى الملك عبد الله إلى إقناع الحاج أمين الحسينى بمنحه منصب نائب الملك على القسم العربى من فلسطين مقابل ضم قطاع غزة إلى مملكته؛ إلا أن عرض الملك عبد الله تم تجاهله ولم يحظ بأى قدر من الاهتمام حيث رفضه الحاج أمين الحسينى رفضًا قاطعًا، فتلاشت محاولات الأردن لضم القطاع، وأعتقد أن سبب رفض الحاج أمين الحسينى لهذا العرض هو قناعته بإن الملك عبد الله الذى كان من ألد أعدائه قدَّم هذا العرض ليحرقه سياسيًا، وأنه جاء شكلًا من أشكال المهادنة المؤقتة لكسب الوقت ريثما تستجد ظروف أفضل ليتخلص منه، كما أن الحسينى لا يملك أصلًا أى نفوذ سياسى على قطاع غزة يمكنه من إصدار أى قرار سياسى مصيرى بهذا الحجم بمعزل عن المصريين الذين يتولون الإشراف على غزة عسكريًا وإداريًا وسياسيًا. استطاع الملك عبد الله أن يحقق نجاحًا على صعيد ضم الأراضى الفلسطينية التى كانت تحت سيطرة الجيش الأردنى إلى مملكته، عندما تمكن من عقد مؤتمر أريحا بتاريخ 1/12/1948، تم بموجبه توحيد الضفتين الشرقيةوالغربية، تحت التاج الملكى الهاشمى، وبهذا أصبحت الضفة الغربية جزءًا من المملكة الأردنية الهاشمية. إذا كانت فكرة ضم قطاع غزة إلى الأردن لم يكتب لها النجاح وماتت فى مهدها؛ إلا أنه جرى طرح فكرة ضم قطاع غزة إلى مصر من قبل الحكومة المصرية وبعض الفلسطينيين، وهذه الرغبة وجدت تعبيراتها فى الرسالة التى بعث بها المحامى كمال ابراهيم البربرى وهو من عائلة غزية عريقة ويعتبر من أشهر المحامين الفلسطينيين خلال الانتداب البريطانى وحكم الإدارة المصرية للقطاع إلى الحاج أمين الحسينى بتاريخ 22/4/1952، والتى جاء فيها: )أتشرف بأن أعلمكم بأن حضرة صاحب السعادة الحاكم الإدارى العام بقطاع غزة، حسين سرى عامر بك كان قد أعلمنى أنه لا مانع لديه من ضم هذا القطاع لمصر إذا وافقت سماحتك على هذا الضم، وكذلك أعلمنى أن حضرة صاحب العطوفة أحمد حلمى باشا لا مانع عنده من الضم(. ولم تكن هذه الرغبة بنت لحظتها فقد سبق أن قدم وفد القطاع الجنوبى لفلسطين مذكرة إلى رئيس مجلس وزراء المملكة المصرية فى 3/11/1950، يلتمس فيها ضم القطاع إلى مصر، جاء فيها: )يا صاحب المقام الرفيع، إن لنا مطلبًا أخيرًا تتلاشى أمامه المطالب السابقة ألا وهو ضم هذا القطاع إلى المملكة المصرية، ضمًا واقعيًا إلى أن يبت نهائيًا فى مستقبل فلسطين السياسى، وأن هذا الضم كفيل بأن يُحسن حالتنا سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا(. وبالفعل بعثت مصر فى النصف الثانى من سنة 1951، لجنة مصرية مكونة من مندوبى عدة وزارات لدراسة أحوال القطاع الاقتصادية والاجتماعية، خلصت إلى القول: )بأن العلاج الحاسم يتمثل فى ضم قطاع غزة إلى مصر اقتصاديًا، وأضافت اللجنة «إن الضم رغبة أجمع عليها كل من اتصلت به اللجنة من أهل القطاع( وقد نشرت جريدة )الأهرام( المصرية بعددها الصادر بتاريخ 28/9/1953 تقرير وتوصيات اللجنة. ومن جهة أخرى نشرت جريدة )السلام( الفلسطينية، مقالًا بعنوان )ضم منطقة غزة( كتبه الشيخ محمد عواد والذى كان من أبرز رجال العلم والدين فى قطاع غزة، حيث ربطته علاقات قوية مع العديد من القيادات المصرية العليا وبالذات مع الرئيس جمال عبد الناصر الذى تعرف على الشيخ عواد أثناء حصار الفالوجة عام 1948، حيث كان الشيخ عواد رئيسًا لبلدية الفالوجة وقتئذ، علاوة على أن الشيخ أقام فى بيته مستشفى لعلاج المصابين من القوات المصرية، ومما يؤكد على مكانة الرجل عند القيادة المصرية مراسلاته مع كبار قادتها، وقيامه بعد النكبة بإنشاء معهد فلسطين الدينى )الأزهر( فى غزة، الذى تخرج فيه المئات من أبناء القطاع، وأكملوا دراساتهم العليا لاحقًا فى جامعة الأزهر بالقاهرة، كما ساهم فى إنشاء الجامعة الإسلامية وجامعة الأزهر فى غزة، وتوفى فى 15/2/2003م، عن عمر يناهز مائة عام.، جاء فى هذا المقال: )... وأما بقاء الفلسطينيين بهذا الوضع الشاذ فهو عين الفناء لهم، ففلسطين ليست بحجارتها وأرضها ومائها، وإنما هى بأهلها وسكانها العرب، ولا يرضى بقاءهم على هذا الوضع إلا أولئك الذين يتلذذون على مناظر المصائب والآلام، وإذن فالخير أن يضم هذا القطاع إلى مصر ولا حذر عليهم منه(. وإذا كان للضم مؤيدوه سواء من تحدثت عنهم وثيقة البعثة المصرية التى أوفدتها بعض الوزارات المصرية إلى قطاع غزة، أو ممن عبروا عن وجهة نظرهم فى الصحف المحلية، أو من خلال الرسائل والوفود التى ذهبت للقاهرة لهذا الغرض )وفد القطاع الجنوبى من فلسطين(؛ إلا أن مسألة ضم قطاع غزة إلى مصر كان لها معارضوها أيضًا، وقد عبر عن ذلك التيار المناوئ للضم بزعامة جمال غازى الصورانى رئيس النادى الشعبى الفلسطينىبغزة، الذى كتب مقالًا فى جريدة السلام، جاء فيه: )بدأت مؤامرة جديدة من نوع جديد، لإنهاء القضية الفلسطينية وطمس معالم فلسطين من سطور التاريخ، فقد ضمت الضفة الغربية إلى الأردن، والآن تبدأ المؤامرة تطل برأسها من جديد بمحاولة ضم قطاع غزة إلى مصر(. وبين النفى والتأكيد لموضوع ضم القطاع إلى مصر أرسل مدير سلاح الحدود الملكى رسالة إلى المحامى البربرى ردًا على رسالته سالفة الذكر رسالة بتاريخ 26/4/1952، أشار فيها إلى أن مسألة ضم القطاع من عدمه هى مسألة سياسية تقررها الجهات العليا فى الدولة ولا شأن له بها... وقد قوبل المطلب الفلسطينى بضم القطاع إلى غزة بالرفض التام من القيادة المصرية سواءً قبل الثورة أو بعدها. وما أن تلاشت مسألة الضم حتى بدأ يظهر فى الأفق موضوع من نوع آخر، تمثل هذه المرة فى بعض التسريبات والشائعات القوية عن محاولة الحكومة المصرية آنذاك إدخال قطاع غزة كموضوع للمقايضة أثناء مفاوضات جلاء القوات البريطانية من منطقة السويس، وأن الحكومة المصرية عرضت مقترحًا يقضى بتمركز القوات البريطانية فى منطقة غزة كبديل عن منطقة السويس، وعلى ضوء هذه التسريبات أرسلت الهيئة العربية العليا، مذكرة إلى الحكومة المصرية جاء فيها: «إن انتقال الإنجليز إلى منطقة غزة يعنى انتقال الاحتلال الأجنبى من قطر عربى إلى قطر عربى آخر وإن أهل فلسطين الذين كان الاحتلال البريطانى السبب المباشر لنكبتهم العظمى التى لا مثيل لها لا يمكنهم أن يتقبلوا عودة هذا الاحتلال». أمام هذه الشائعات وردًا على هذه المذكرة نفت الحكومة المصرية هذا الأمر على لسان وزير خارجيتها بالنيابة أحمد فراج فى رسالة بعث بها للهيئة العربية العليا بتاريخ 19/1/1953، جاء فيها: )إنه بناء على كتابكم بخصوص ما يتردد حول منطقة غزة وإمكان تسوية قضية جلاء الجيوش البريطانية عن قناة السويس باحتلالها المنطقة، وتمركزها فيها فإن حكومة مصر تؤكد أنه لا أساس له من الصحة، وان مصر حريصة على عروبة فلسطين(. ولابد من الإشارة والتأكيد أن الإدارة المصرية بذلت جهدًا ملحوظًا للحفاظ على ذاتية خاصة لقطاع غزة وخصوصيته من خلال إصدار مجلس الدولة المصرى فتويين تؤكدان الذاتية الخاصة لقطاع غزة، وانفصاله عن مصر، الفتوى الأولى تحمل رقم )171( بتاريخ 6/8/1958م، تؤكد )أن قطاع غزة منفصل انفصالًا كليًا عن دولة مصر من جميع النواحى التشريعية والتنفيذية والقضائية، ولا يعتبر انفراد بعض رجال الحكومة المصرية ببعض السلطات الثلاثة إهدارًا لهذا الكيان الذاتى للقطاع من الواجهة الدولية، بل هو مظهر من مظاهر حق الدولة صاحبة الإشراف فى تأمين وسائلها وقوتها اللازمة لتحقيق الغاية التى تقرر من اجلها إشرافها على الدولة الأخرى(؛ أما الفتوى الثانية فتحمل رقم )3/1/481( ومرسلة إلى إدارة الحاكم العام لقطاع غزة بالرقم المسلسل )387( بتاريخ 3/3/1967م، تؤكد )أن قطاع غزة ما هو إلا جزء من دولة فلسطين، تتوافر له مقومات الدولة، من شعب يتمثل فى السلطات الثلاثة، التنفيذية والتشريعية والقضائية، التى تقوم على شئون قطاع غزة، ولا تغير من ذلك بعض النصوص الواردة فى النظام الدستورى، والتى أشارت إلى بعض الاختصاصات المقررة لرئيس جمهورية مصر، ووزير دفاعها، إذ أنها قائمة على أساس خضوع هذا الجزء من أرض فلسطين لرقابة القوات المسلحة المصرية، بالكيفية الواردة بقرار اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية(. ولتأكيدها فلسطينية القطاع أصدرت الحكومة المصرية أثناء مناقشة فكرة تدويل القطاع فى الأممالمتحدة أوائل عام 1957م، بيانًا أعلنت فيه أن إدارة مصر للقطاع تختلف كثيرًا عن نظام الوصاية الذى جاء به ميثاق الأممالمتحدة لبعض الأقطار غير المستقلة، والذى يتم بموجبه تعيين دول لتكون وصية على تلك الأقطار، كما سمحت الإدارة المصرية للشخصية الفلسطينية فى أن تجد نفسها فى القانون الأساسى الصادر عام 1955م، وبدرجة أكبر كثيرًا من خلال النظام الدستورى الصادر عام 1962م، فقد نصت ديباجة النظام الدستورى على )أن فلسطين جزء عزيز لا يمكن أن يتجزأ من الوطن العربى، وأهلها عرب أحرار من صميم الأمة العربية الحرة المجيدة، واعتبرت الديباجة أن النظام الدستورى جاء مسايرًا لآمال الشعب الفلسطينى وأهدافه(. والمتتبع للقوانين والتشريعات التى سنتها السلطات المصرية وأدارت من خلالها قطاع غزة كانت تهدف إلى المحافظة على فلسطينية القطاع وعروبته، وعدم طمس هويته الفلسطينية، بهدف إبقاء القضية الفلسطينية حية، وعدم تذويبها بذوبان القطاع فى الجسم المصري. لقد كانت جهود مصر فى الإبقاء على فلسطينية القطاع وسعيها لإبراز الكيانية الفلسطينية، واضحة وظهرت جلية من خلال رفضها فكرة ضم القطاع إليها، ومن خلال سعيها لإبراز الشخصية الفلسطينية المستقلة فى مناسبات عديدة أهمها إصدار النظام الدستورى لسنة 1962م، الذى أدى إلى تشكيل مجلس تشريعى فلسطينى منتخب امتلك صلاحيات واسعة، وكذلك دعمها الكبير لإقامة منظمة التحرير الفلسطينية كجسم سياسى وعسكرى يمثل جميع الفلسطينيين ويقودهم لتحرير أرضهم وإحياءً للكيانية الفلسطينية. كما لم تقف مصر فى وجه النزعة الفلسطينية داخل قطاع غزة، بل سايرتها حتى أن النوادى والنقابات المهنية داخل قطاع غزة حملت جميعها اسم فلسطين، وقد هدفت الإدارة المصرية من وراء هذه السياسة إلى التصدى لسياسة الإلحاق والضم تجاه قطاع غزة. وهو ما يؤكد عدم رغبة مصر لطمس أو تذويب الهوية الفلسطينية لقطاع غزة. مما لا شك فيه أن مصر كانت تستطيع بكل سهولة وفق المعطيات السياسية التى كانت موجودة على الأرض فى تلك الحقبة الصعبة من تاريخ القضية الفلسطينية ضم قطاع غزة إليها كما فعل الملك عبدالله ملك الأردن عندما ضم الضفة الغربية للأردن، وهو ما يعنى تلاشى واندثار اسم فلسطين وشطب القضية الفلسطينية تماما من الخارطة السياسية، لكن قطاع غزة وفى إطار الإستراتيجية المصرية الثابتة التى اعتبرت وجودها فى القطاع وضعًا مؤقتًا وليس وضعًا نهائيًا إلى حين التوصل إلى حل دائم للمشكلة الفلسطينى ظل الجزء الوحيد المتبقى من فلسطين الذى ظل عكس ملامح الشخصية الوطنية الفلسطينية، خلافاَ لما أصبح عليه وضع الضفة الغربية التى ضمت إلى الأردن. [email protected]