يشير الباحث القبطي/سمير مرقس إلى وجود عدة أنواع من الكتابة التاريخية التي تناولت العلاقة بين المسلمين، والأقباط منها: الكتابة السردية للوقائع، والتي يمثلها: تاريخ الأمة القبطية ليعقوب نخلة روفيلة، وتاريخ الأمة القبطية للسيدة بوتشر، وتاريخ الأمة القبطية ليوسف منقريوس. وهناك الكتابة التاريخية من منظور الجماعة الوطنية، وهي كتابة تعد امتداداً للكتابة الأكاديمية، ولكنها تجاوزت النظرة للأقباط على أنهم "أهل ذمة" إلى أنهم مكون من مكونات الجماعة الوطنية، كما تم تناول تاريخ الكنيسة من خلال دورها في المجال الوطني، وانعكاساته على واقع الجماعة الوطنية المصرية. الأزهريون والمواطنة ولا ننسى مقولة الأستاذ الإمام/ محمد عبده، التي ذاعت قبل الثورة العرابية، وهي: " إنه من المستقر لدى الأزهريين؛ أن العلاقة بين أبناء الوطن لا تقوم على الدين". وبالتالي فإن هناك حقوقاً لكل من المسيحي واليهودي داخل الوطن الواحد، مع حقوق المواطن المسلم أيضاً. ويمكن اعتبار كتاب المفكر القبطي/ وليم سليمان قلادة "الكنيسة المصرية تواجه الاستعمار والصهيونية" والصادر في العام 1968م، هو الكتاب الرائد في هذا المقام! وفي هذا الإطار تجدر الإشارة إلى العمل المبكر الذي ألفه قرياقص ميخائيل، عام 1911م بعنوان "أقباط ومسلمون تحت الاحتلال البريطاني" والذي هو إرهاصة للكتابات التي تُقارب العلاقات الإسلامية المسيحية، في مصر من منظور الجماعة الوطنية الواحدة، والكيان الواحد. ولا ننسى؛ أن اللحمة القوية بين المسلمين والأقباط؛ قويت، وزاد تماسكها مع فترات القلق، والاحتلال، والعدوان؛ ففي ثورة عام 1919م تعانق الهلال مع الصليب ضد الاحتلال البريطاني! وأثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م كانت الوحدة الوطنية في أعلى صورها، وأروع نماذجها، التي تفتخر بها مصر أمام أنظار العالم! فلم يستطع هذا العدوان شق الصف المصري الواحد، ولم يقدر على استمالة الأقباط إلى جانبه؛ بسبب وطنيتهم الضاربة بجذورها في أوتاد التاريخ السحيق! وخلال نكسة عام 1967م؛ سارع الأقباط بالانخراط بأعداد كبيرة في قوات الجيش المصري؛ لتحويل الهزيمة إلى نصر مؤزر في حرب الاستنزاف؛ التي كبدت إسرائيل خسائر لم تشهدها من قبل؛ في أية حرب أخرى! وأما دور الأقباط في حرب أكتوبر 1973م المجيدة؛ فهو آية الآيات على تضحية الأقباط الكبرى؛ من أجل انتصار مصر المُدوِّي على الصهاينة، وعلى مدى تغلغل حب الوطن في دمائهم النبيلة! تآخي الإسلام والمسيحية يقول د/ طه حسين في كتابه(مستقبل الثقافة في مصر): "وأغرب من هذا أن بين الإسلام والمسيحية تشابهاً في التاريخ عظيماً؛ فقد اتصلت المسيحية بالفلسفة اليونانية قبل ظهور الإسلام؛ فأثَّرت فيها، وتأثرت بها. وتنصَّرت الفلسفة، وتفلسفت النصرانية، ثم اتصل الإسلام بهذه الفلسفة اليونانية؛ فأثَّر فيها، وتأثر بها، وأسلمتْ الفلسفة اليونانية، وتفلسف الإسلام. وتاريخ الديانتين واحدٌ إلى هذه الظاهرة .. جوهر الإسلام ومصدره؛ هما جوهر المسيحية ومصدرها". مجد الكنيسة القبطية ويقول أيضاً طه حسين: "والكنيسة القبطية مجدٌ مصريٌّ قديم، ومُقوِّمٌ من مقومات الوطن المصري .. وكما أن الأزهر مصدرٌ الثقافة للعالم الإسلامي؛ فينبغي أن تصدر عنه لهذا العالم ثقافة تلائم حاجاته الحديثة؛ فالكنيسة القبطية مصدر الثقافة الدينية لأوطان أخرى غير مصر؛ فيجب أن تصدر لهذه الأوطان ثقافة دينية تلائم حاجاتها الحديثة أيضاً". بل؛ من قبل هذا سجل المصري القديم إحساسه بنعمة التدين الفطري، والوئام؛ فقال في (كتاب الموتى): "لم أجعل أحداً يبكي، لم أسبب إيلام إنسان"! بل زاد فقال: "إن الصالحين يتمتعون بنشوة الأرض، وإن الخلود ليرتبط بالأخلاق". كما لفت الأديب/حمزة قناوي إلى أن المفكر القبطي الكبير الراحل/ أنور عبد الملك؛ كان شديد التسامح، عاشقاً للقرآن الكريم؛ فقال "كثيراً ما ذهبت إليه وقت الإفطار؛ فوجدته يستمع إلى الشيخ/ محمد رفعت، ويقول لي ( سامع القيثارة؟) كان حافظاً لكثير من سور القرآن الكريم.. حيَّرني ذلك؛ أن أجد عالماً قبطياً متسامحاً إلى ذلك الحد"! كما كشف حمزة قناوي عن حب عبد الملك لمصر بصورة لا مثيل لها؛ فقال " ذات يوم بينما نسير في الميريلاند وهو يتكئ على ذراعي: مصر هذه قصة كبيرة، قصة عمرها آلاف الأعوام. السعيد وحده من يعيش؛ ليعرفها ويكتشف مكامن روعتها وعذوبتها.. كانت مصر عشقه الأوحد، وكانت ذكريات المعتقل عزيزةً على روحه"! بل؛ إن الغرباء عن مصر؛ ما يلبثون إلا أن يكونوا منخرطين في أجوائها، مرتدين ثقافتها المتسامحة إطاراً لهم، وعنواناً عليهم؛ بمجرد قدومهم إليها! وإن أنس؛ فلا أنسى تلك الصداقة المتينة العرى بين المحقق الكبير الأردني الراحل/ عصام الشنطي-مدير معهد المخطوطات العربية بالقاهرة سابقاً- وبين الأب/ رنيه مدير مكتبة الآباء الدومينيكان بالقاهرة .. فقد حكي لي الأستاذ/ الشنطي كيف أن هذا الأب يحب الثقافة العربية الإسلامية، ويخدمها عن طيب خاطر .. وكيف أنه يخدم الباحثين المرتادين للمكتبة، ويوفر لهم ما يحتاجونه من أمهات كتب التراث الإسلامي بكل سهولة؛ فهو صورة صادقة على المودة، والوئام! كما لا أنسى ما حييت ما حكاه لي الأستاذ/ الشنطي أيضاً؛ من أن الأب رنيه من المغرمين بالمخطوطات الإسلامية؛ حتى إنه يبحث منذ فترة عن إحدى نسخ مخطوطة نادرةلابن البطّال على شرح البخاري! كما أنه يقوم بإعداد أطروحته للدكتوراه في جامعة السربون عن تاريخ السخاوي! وتحضرني هنا حكاية عن نبله، ووفائه؛ فبمجرد أن سمع أن معهد المخطوطات العربية يقوم بعمل كتاب تذكاري عن عصام الشنطي؛ حتى كان أول من سارع بالكتابة، وإعداد بحثٍ ضافٍ عن مكانة الشنطي، وعلمه، وأخلاقه؛ قبل أي باحثٍ عربي آخر! بل؛ إنه منذ عدة سنوات؛ وهو دائم السؤال عن سر عدم ظهور هذا الكتاب حتى الآن! ومن الملاحظ؛ أن مصر تصهر الجميع داخل ثقافتها المتسامحة؛ فبمجرد وصول أي إنسان إليها، وأكله من طعامها، وشربه من نيلها، ورؤيته لأهلها؛ إلا وهو من عشاقها؛ بل من مريديها، والمتدلهين بعظمة موروثها الحضاري، والأخلاقي! ومن أراد المزيد من خميرة مصر المتسامِحة المتعايشة المُتوادّة المترابِطة بين الأقباط والمسلمين عبر عصورها المديدة؛ فليقرأ كتابي(الوحدة الوطنية في مصر الملحمة والديوان)الصادر عن مكتبة الآداب بالقاهرة مؤخراً. لكن السؤال المهم هنا، هو: فلماذا إذن يعاف الإخوان، والمتشددون، والمتأسلمون .. الطبيعة المصرية الرحيبة المتسامحة؛ فيبحثون لهم عن هوية أخرى، ومظاهر اجتماعية وثقافية مغايرة؟! فهل عافتهم مصر، أم هم مَن عافَ التسامح، والتعايش، والسلام، والوطن، والإسلام، والأديان؟!