"أجل؛ إن الأديان نبتت في مصر، وإن التدين فطرة مصر، وإن الإخاء فكرة مصرية صميمة، وواقعٌ حياتي فريد" العلامة/ حسين مجيب المصري سجَّل التاريخ عبر صفحاته في القديم والحديث؛ وحكت الرسالات السماوية عبر سلوك رموزها وأتباعها؛ ورصد الشعراء والأدباء والمفكرون في دواوينهم وأطروحاتهم خلال رحلة الإنسان على أرض مصر الطاهرة .. قصة الوحدة الوطنية المصرية؛ تلك الوحدة الضاربة بجذورها في عمق التاريخ والأديان! ومن هنا؛ يأتي كتاب(الوحدة الوطنية في مصر الملحمة والديوان) للباحث والأديب/ صلاح حسن رشيد والصادر حديثاً عن مكتبة الآداب بالقاهرة؛ ليقصَّ علينا كيف علَّمتْ مصر الأمم الأخرى .. فلسفة التسامح، وروح التعايش، وانصهار أبنائها جميعاً في إطار التلاحم والتعاون والمواطنة والمساواة! فقد جمع فيه المؤلف بين قصص التواد والتراحم بين المسلمين والأقباط على ثرى مصر في كل العصور؛ وبأسلوب أدبي رائق؛ كله تشويق وفن؛ فقد امتزج فيه الدين؛ بالحبكة القصصية الواقعية، والحكايات المروية في بطون الكتب، وعلى أفواه الناس؛ كما ارتبط الأدب بالتاريخ في لُحمة من العبقرية المصرية الفريدة! يقول المؤلف: إن مصر بلد الرسالات السماوية، والأنبياء الكرام، والصحابة الأوفياء، والأولياء، والقديسين، والعباقرة؛ فقد كانت وما تزال؛ موئل اللاجئين، ومهوى أفئدة الرحّالة والمتعلمين، والمُعْوِزين، والمضطهدين؛ فقد استقبلت مصر مَن يرنو إلى الحرية، ومَن يتوق إلى العلم؛ فكانت لهم جميعاً بمثابة الأُم الرءوم! مصر بلد الأنبياء ويضيف صلاح حسن رشيد: فلم يُخطئ المؤرخون عندما وصفوا مصر بأنها واحة التسامح، والتعايش بين الأديان، والطوائف، والمذاهب، والأعراق على مدار التاريخ الإنساني! أجل لقد أصاب عين الحقيقة مَن قال: إن مَن لم ير مصر؛ لم يعرف للتسامح من سبيل! لا؛ بل صدق القائل: ففي مصر تجد اليهودي بجوار أخيه القبطي، إلى جانب المسلم؛ في ملحمة من الترابط المجتمعي، والتكافل المتغلغل في الروح المصرية الواحدة! فعلى سهول مصر عاش، وتربَّى نبي الله إدريس عليه السلام(ثاني الأنبياء بعد أبينا آدم عليه السلام) فنشأت في مصر حضارة إيمانية؛ إنسانية الطابع، علمية المقصد والهدف؛ تدعو إلى الحق، والخير، والحرية، والمساواة بين البشر! ومن بعده؛ توالت رسالات السماء في مصر؛ التي احتضنت نبي الله إبراهيم عليه السلام؛ فلقيَ فيها أجمل وأطيب معاملة. وها هو ذا؛ نبي الله يوسف الصديق عليه السلام يأتيها طفلاً خادماً؛ فما لبث أن صار رئيس وزرائها، ووزير ماليتها؛ بعد أن أحبه أهل مصر جميعاً؛ فيستدعي والده نبي الله يعقوب عليه السلام، وإخوته للعيش في خيرات مصر وجَنّاتها العظيمة. وهذا هو نبي الله موسى وأخوه هارون عليهما السلام يولدان على أرض مصر؛ فيُخلِّصان الناس من ظلم فرعون، وينشران العدل، والمساواة، والتوحيد في ربوعها. وعلى أرض مصر المباركة؛ تجلَّى الله على جبل طور سيناء، وتنزَّلت التوراة والصحائف المقدسة، وألواح موسى، التي دعت إلى توحيد الله تعالى. وبعد مجئ العائلة المسيحية المقدسة إلى مصر؛ اعتنق المصريون المسيحية عن اقتناع ومحبة، وقدَّموا للإنسانية طقوس الرهبانية؛ التي لم تكن موجودة قبلهم؛ وهي طقوس الحب، والإخاء، والنفع العام بين الناس. رسول الإسلام زار مصر! هذا؛ وقد ورد في سنن الإمام النسائي حديث رقم(450)، كما ورد أيضاً في كتاب فتح الباري لابن حجر العسقلاني الحديث رقم(3886) وهما يتناولان زيارة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لمصر أثناء رحلة الإسراء والمعراج؛ فقد زارها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلَّى فوق جبل طور سيناء ركعتين عندما أمره سيدنا جبريل عليه السلام بالنزول للصلاة فيها؛ فصلَّى؛ فلما سأله: أتدري أين صليت؟ فرد عليه النبي محمد صلى الله عليه وسلم: لا؛ فقال سيدنا جبريل: صليتَ بطور سيناء؛ حيث كلَّم الله موسى عليه السلام! وهذه هي فضيلة فضائل مصر؛ والعجيب؛ أنَّ أحداً من الدعاة، والشيوخ لا يذكرها على الإطلاق؛ لا في الإسراء والمعراج، ولا في أي مناسبة أخرى! ويقول صلاح حسن رشيد: فهذا كتاب ماتع؛ بل هو سِفْر الوحدة الوطنية المصرية؛ وهو رحلة المتعة والروعة المليئة بسبحات الملأ الأعلى، والفردوس الأغلى، بدايةً من دعاء سيدنا آدم عليه السلام إلى مصر، ومروراً بالنور الإدريسي، والنور الإبراهيمي، والنور اليوسفي، والنور اليعقوبي، والنور الموسوي، والنور الهاروني، والنور العيسوي، والنور المحمدي، ونبوءة النبي أشعيا لمصر. قسَّم المؤلف كتابه إلى عدة فصول؛ منها: مقدمة الوحدة الوطنية، وأنبياء الله في مصر؛ ومصر علَّمت فلاسفة الإغريق، وخطبة الصحابي عمرو بن العاص لأهل لمصر، وعهد الإمام الشافعي للأقباط، وآثار سيناء تؤكد تسامح المصريين، والعلاقة بين المسلمين والأقباط رؤية تاريخية، والأزهريون والمواطنة، والأقباط في الأزهر الشريف، ومجد الكنيسة القبطية. ومن القصص الطريفة المتسامحة التي رواها المؤلف في كتابه؛ قصة حب الأب رنية(مدير مكتبة الآباء الدومينيكان لمصر)، وقصة صالون شيخ الأزهر/ مصطفى عبد الرازق والتنوع الثقافي والديني، ورسائل الشيخ مصطفى عبد الرازق ومي زيادة، وكلمة مصطفى عبد الرازق قي تأبين مي زيادة، ومصطفى عبد الرازق والحب الإنساني، وأنور عبد الملك عاشق القرآن، والقبطي/ جرجس دوس يبني الجوامع، والأزهر المتسامح والكنيسة القبطية المتسامحة، وفقه المواطنة، والشيخ محمد الغزالي وتعايش الأديان، ومواقف مشرفة للأقباط، ومسلمون وأقباط يبنون الجوامع والكنائس، ورثاء العقاد للحاخام/ حاييم ناحوم رئيس الطائفة اليهودية في مصر، وعهد أمان دير سانت كاترين، وعبقرية سعد زغلول، وأثر الثقافة الإسلامية في الأقباط، وأقباط درسوا في رحاب الأزهر الشريف، ورثاء القبطي إسكندر نظير للإمام محمد عبده، والمستشرق لويس ماسينيون يدرس في الأزهر لمدة عامين، والأقباط يحضرون دروس محمد عبده في الأزهر، والمعلم القبطي جرجس يحتفل بشهر رمضان، والأنبا غريغوريوس يقول: مصر شعب الله المتسامح، وشهادة المبعوث البريطاني على الأخوة بين الأقباط والمسلمين، وأفلاطون يصيح: الفراعنة أساتذة العالم، ووصية البطريرك بنيامين لعمرو بن العاص لحكم مصر، والبطريرك كيرلس الرابع يقف في وجه التبشير الغربي، وجبران عاشق القرآن، ورحابة الأديان وفلسفة التعايش الإنساني، وجمعية الوحدة الوطنية، وصداقة الشيخ الباقوري والقمص بولس باسيلي، ودعاء الأب جروج قنواتي لشيوخ الأزهر في صلواته، وقصة مسيحي ينال عقوبة بدلاً من صديقه المسلم، ومسلم تُرضعه قبطية، وقصة أبناء العسّال الأقباط مع الإسلام، ونظلة ليفي يهودية تخطب فوق منبر الأزهر في ثورة 1919م، وصلاة الوحدة الوطنية في الجوامع والكنائس؛ وهي الصلاة التي كتبها أمير الشعراء أحمد شوقي دعماً لمفاوضات ثورة 1919م، وإنجاحها. وختم صلاح حسن رشيد كتابه بديوان الوحدة الوطنية؛ وهي أجمل الأشعار من المسلمين والأقباط؛ فمنهم شوقي، وحافظ، ومحمد عبد المطلب، وعبد الرحمن شكري، وعلي الغاياتي، ومارون عبود، وعزيز بشاي، وبولس الشماع، ووليم نجيب سيفين، وميشال المغربي، ورياض سوريال، وشفيق حنا، وخليل جرجس خليل، وفيليب عطا، ونصر لوزا الأسيوطي، وعوض واصف، وبطرس إبراهيم، وإدوار حنا أسعد، ومحمود غنيم، وعلي الجارم، وغيرهم. والكتاب؛ لا غنى عنه للمؤسسات الثقافية، والدينية، والإعلامية، والأكاديمية؛ فهو الحاوي بحق لأجمل، وأغرب، وأفضل، وأمتن القصص الجامعة لأواصر التلاحم بين المسلمين والأقباط؛ لكي يتم تدريسه، والنهل منه، والإفادة مما تضمنه من الحقائق، والشهادات؛ التي يحتاجها الجيل الجديد في زمن الفتن التي تعصف بالدول العربية المجاورة لنا؛ بسبب الحروب المذهبية، والطائفية، والعرقية؛ للتذكير بترابط الأمة المصرية، ووحدتها القوية فوق مهاترات المتأسلمين وإرهابهم الأعمى!( وذكِّرْ؛ فإن الذكرى تنفع المؤمنين).