شهد النظام الدولي منذ بداية القرن الحادي والعشرين اختلالًا في موازين القوى بصعود قوى دولية جديدة اتسمت بالتنوع في منافستها للقوى المهيمنة، فلم تأخذ الطابع العسكري كما هو متعارف عليه، بل تميزت بتنوع أدوات التنافس. وتعتبر الصين حاليًا هي المنافس الأبرز على الساحة الدولية للقوى المهيمنة والمتمثلة في الولاياتالمتحدةالأمريكية، فقد دخلت الصين مرحلة جديدة بعد الأزمة المالية العالمية في منتصف عام 2008 بعد أن حققت نجاحات على مسار الإصلاح الاقتصادي. ففي عام 1989 عندما خرج ملايين الصينيين في ثورة حاشدة مطالبين بالحرية والحد من الفساد كان نصيب الفرد من إجمالي الناتج القومي يقدر بنحو 403 دولارات سنويًا، والذي كان يعتبر متقدمًا آنذاك مقارنةً بعام 1978 عندما كان يقدر بنحو 200 دولار سنويًا، ومع نهاية عام 2014 أصبح نصيب الفرد يقدر بنحو 6000 دولار سنويًا. كما تغير الخطاب الصيني (المارد الأصفر) وأصبح أكثر ندية للولايات المتحدة، وبدأ يتعاظم صراع النفوذ بالمناطق الأكثر استراتيجية بين الدولتين وخاصة في إفريقيا. انتهجت الصين بعد الحرب العالمية الثانية الخطة المعروفة باسم ماراثون المائة عام 1949- 2049، والتي تهدف إلى الانتقام ومحو الإذلال الذي تعرضت له الصين في السابق، وتأسيس نظام عالمي بلا تفوق أمريكي، فضلًا عن الحد من الهيمنة الأمريكية سواء الاقتصادية أو الجيوسياسية الناتجة عن معاهدة بريتون وودز بعد الحرب العالمية الثانية، إذ تمخض عنها تأسيس نظام الصرف الأجنبي في مرحلة ما بعد الحرب، وإنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي الذي أسس لنظام أحادي القطب يخضع لهيمنة ونفوذ أمريكا. لم تعتمد استراتيجية الصعود الصيني على القوة الصلبة (العسكرية) فحسب، فرغم أن ميزانية الصين العسكرية قد زادت على مدى العقد الماضي وحققت نموًا لافتًا للنظر فإن الميزانية العسكرية الأمريكية لا تزال أربعة أضعاف الميزانية الصينية، لكن الاستراتيجية الصينية رأت أن تعتمد بالأساس على القوة الناعمة، ويطلقون عليها الاستراتيجية الذكية، وقد عبر عن هذا التوجه الرئيس الصيني شي جين بينج الذي أكد أن الصين في حاجة إلى زيادة القوة الناعمة كما تناولها من قبله الرئيس السابق هو جين تاو في مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني ال 17 في عام 2007، واتساقًا مع هذه الاستراتيجية أنفقت بكين مبالغ طائلة على الإعلام العالمي، ومعاهد كونفشيوس التي تلعب دورًا كبيرًا في الجامعات الأمريكية، حيث يوجد 350 معهدًا داخل الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتفاقات المبرمة بين هذه المعاهد والجامعات الأمريكية تتسم بالسرية وعدم النشر. كما تعتمد الصين وسائل أخرى متعددة للوصول إلى بقية العالم والتأثير فيه فكريًا واقتصاديًا وماليًا. هذه الاستراتيجية ارتبطت بالتخوف من أن يؤدي التركيز المنفرد على تعظيم القوة العسكرية والاقتصادية إلى إثارة قلق دول الجوار، ودفعهم إلى الدخول في تحالفات ضد المصالح الصينية، وخصوصًا من جانب اليابان والهند اللتين تتمتعان بعلاقات طيبة مع البيت الأبيض تجعلهما قادرتين على احتواء الصين. ومن هذا المنطلق اتجهت الصين إلى تعزيز مصادر قوتها الناعمة بالتزامن مع تدعيم قدراتها العسكرية والاقتصادية وهو الأمر الذي يخفف من حدة تخوفات الدول الأخرى، ورغم أن القوى الناعمة للصين من صنيعة الحكومة الصينية، عكس القوى الناعمة الأمريكية التي تعتمد على منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الاقتصادية والتجارية فإن السمعة السيئة التي حظيت بها منظمات المجتمع المدني الأمريكية في العقد الأخير تصب في صالح النفوذ الصيني، كما بدت الولاياتالمتحدة تُعاني أزمة قيادة فقد تراجعت في الكثير من أماكن نفوذها وتأثيرها داخليًا وخارجيًا بصورة جعلت من غير الممكن التعويل كثيرًا على قدرتها المنفردة في تسيير النظام الدولي الجديد. ومن ناحية أخرى رغم تفوق الاقتصاد الصيني على نظيرة الأمريكي عند قياسه ومقارنته بالقوة الشرائية، فإن الولاياتالمتحدة لا تزال المهيمن الحقيقي على السوق العالمي، حيث تمتلك أمريكا حصة 46٪ من أكبر 500 شركة عالمية عابرة للقارات، فضلًا عن 19 علامة تجارية عالمية من أصل 25. ومع ذلك يظل نزيف إجمالي الدين العام الذي يلاحق الولاياتالمتحدةالأمريكية منذ عام 2011 في الارتفاع، فقد وصل مع نهاية العام 2015 إلى 18.8 تريليون دولار، والمتوقع أن يصل إلى 22.4 تريليون دولار في العام 2016، وهو ارتفاع مخيف وحاد بالمقارنة بجمهورية الصين الشعبية التي تمتلك إجمالي دين عام 5.333 تريليون دولار بنسبة 41.07٪ من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي، ولذلك فقد عمدت الولاياتالمتحدةالأمريكية على رسم سياسات تتجه إلى إنتاج الإصدار الثاني من الحرب الباردة، فالقطب الأوحد عزم على ألا ينسحب بهدوء، وعزم أن يخرج الجميع خاسرًا في هذه الحرب أو تتقاسم الغنائم مع الجميع فى انتظار معركة طريق الحرير القادمة. كاتب جيوسياسي