منذ عقد من الزمن طلبت مني إحدي الدوريات العلمية إعداد دراسة عن الصورة المستقبلية للتوازن والتراتب بين القوي الاقتصادية الكبري. وبناء علي مستويات النمو المقارنة كان من المفترض أن تبدأ الصين في اللحاق بالولاياتالمتحدة من زاوية حجم الناتج المحلي الإجمالي بعد الربع الأول من هذا القرن. ومع اشتعال المنافسة الاقتصادية بين القوي الكبري والاستمرار القوي للنهوض الصيني رغم الأزمة الاقتصادية العالمية, والتراجع الأمريكي المستمر, واندلاع حرب العملات بين الشركاء الاقتصاديين الكبار, وتصاعد الدعوات لإصلاح النظام النقدي الدولي الفاسد فعليا والمعتمد علي الدولار الذي لا يملك أسس الاستمرار كعملة احتياط دولية... مع كل هذه التطورات أصبح من الضروري إعادة الحسابات من جديد حول صورة التراتب الاقتصادي العالمي حتي نصيغ استراتيجيتنا الاقتصادية وحتي السياسية بناء علي صورة مستقبلية صحيحة عمن سيملك القوة الاقتصادية التي تشكل الأساس المتين للقوة الشاملة لأي دولة. وتشير بيانات البنك الدولي إلي أن الدخل القومي الإجمالي الحقيقي المحسوب وفقا لتعادل القوي الشرائية, قد بلغ في عام2008, نحو14724 مليار دولار في الولاياتالمتحدة, ونحو7961 مليار دولار في الصين, ونحو3339 مليار دولار في الهند. وانطلاقا من هذا الحجم للناتج في كل دولة من الدول الثلاث, يمكن تقدير الناتج المستقبلي لكل منها بناء علي متوسط معدل النمو السائد فعليا والمتوقع في هذه الدول الثلاث. ووفقا لبيانات صندوق النقد الدولي فإنه خلال الفترة من عام1989 حتي عام1998 بلغ متوسط معدل النمو الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي الأمريكي نحو3% سنويا, وبلغ نحو2.5% سنويا خلال الفترة من عام1999 حتي عام.2010 وحتي قبل الأزمة المالية والاقتصادية الأمريكية التي انفجرت عام2008, فإنه كان قد بلغ نحو2.5% خلال الفترة من عام2000 حتي عام.2007 وبالتالي فإننا لو أخذنا معدل3% كمتوسط لمعدل النمو الحقيقي للناتج الأمريكي في الثلاثين عاما القادمة, فإننا نكون منصفين أكثر مما ينبغي بشأن التقديرات المستقبلية لحجم هذا الناتج. وبناء علي حجم الدخل القومي الإجمالي الأمريكي عام2008, ومعدل نمو حقيقي بنسبة3% سنويا, فإن هذا الناتج سيبلغ في عام2021, نحو21.6 تريليون دولار بالأسعار الثابتة لعام2008( التريليون يساوي ألف مليار), وسيبلغ نحو33.6 تريليون دولار عام2036, ونحو43.9 تريليون دولار عام.2045 وبالمقابل ووفقا لصندوق النقد الدولي أيضا, فإن متوسط معدل النمو السنوي للناتج المحلي الإجمالي للصين قد بلغ نحو9.8% سنويا خلال الفترة من عام1989 حتي عام1998, وبلغ10.1% سنويا خلال الفترة من عام1999 حتي عام.2010 وبناء علي حجم الدخل القومي الصيني عام2008 والمشار إليه آنفا, وبناء علي معدل نمو حقيقي يبلغ8% فقط وهو أقل كثيرا من المعدلات الفعلية التي تحققها الصين, فإن الدخل القومي الإجمالي الحقيقي للصين بالأسعار الثابتة لعام2008, سيبلغ نحو21.8 تريليون دولار عام2021 متجاوزا نظيره الأمريكي لأول مرة في العصر الحديث, وفي عام2036 سيبلغ الناتج القومي الصيني69 تريليون دولار متجاوزا ضعف نظيره الأمريكي, وفي عام2044 سيبلغ نحو127.8 تريليون دولار بما يساوي ثلاثة أضعاف الناتج القومي الأمريكي في العام نفسه. ومن المرجح أن تحقق الصين هذه التجاوزات قبل التواريخ المذكورة لأنها تحقق بالفعل معدلات للنمو أعلي من المعدل المتوسط الذي اعتمدنا عليه في الحسابات لتفادي أي تأثيرات ناتجة عن أي ظروف طارئة باستثناء الحروب الكبري. وحتي الاقتصاد الهندي الذي يحقق منذ عام2003 معدلات نمو مرتفعة, ويتجاوز معدل نموه8% في المتوسط سنويا في الوقت الراهن, فإنه لو حافظ علي هذا المعدل فإن الناتج القومي الهندي بالأسعار الثابتة لعام2008, سيبلغ نحو39.1 تريليون دولار عام2040 متجاوزا نظيره الأمريكي الذي سيبلغ نحو37.9 تريليون دولار في العام المذكور. وفيما يتعلق بحجم ونوعية الصادرات التي تبين القدرة التنافسية للاقتصاد في علاقاته الدولية, فإن الصين تتصدر دول العالم من زاوية قيمة صادراتها وتليها ألمانيا وتأتي الولاياتالمتحدة في المرتبة الثالثة في الوقت الراهن. وحتي الصادرات عالية التقنية, فإن بيانات البنك الدولي في تقريره عن مؤشرات التنمية في العالم(2010, ص340-342), تشير إلي أن صادرات الصين من تلك السلع بلغت381.4 مليار دولار عام2008, مقارنة بنحو231.1 مليار دولار للولايات المتحدة في العام نفسه. وحتي لو كان قسما كبيرا من الصادرات الصينية عالية التقنية يتم إنتاجه من خلال شركات أجنبية تعمل في الصين, فإنها في النهاية موجودة في الصين التي وضعت شروطا للاستثمارات الأجنبية لديها تكفل لها السيطرة علي الحلقة التكنولوجية. ومن سخريات القدر أنه حين بدا أن الإمبراطورية الأمريكية تفرض قواعدها ونموذجها علي العالم اقتصاديا وسياسيا بصورة مباشرة أو من خلال المؤسسات الدولية السياسية والاقتصادية التي تماهت مع ما تريده الإمبراطورية الأمريكية منذ عقدين من الزمن, وعندما بدا أنها تعزز سيطرتها العالمية من خلال استعادة النموذج الاستعماري الكريه بالغزو العسكري لبلدان أخري بصورة خارجة علي القانون الدولي والمؤسسات الدولية التي تهيمن عليها الولاياتالمتحدة مثل مجلس الأمن الدولي مثلما حدث في الغزو الأمريكي الإجرامي للعراق عام...2003 عندما بدا كل ذلك مكملا لصورة الإمبراطورية الأمريكية المهيمنة عالميا, كان في الحقيقة وعلي العكس من تصور الإدارة الأمريكية الذكية ومنظريها المحليين في مصر وبلدان أخري, يشكل بداية النهاية لهذه الإمبراطورية التي لا تقرأ دروس التاريخ والتي تغرق بالفعل في مستنقع أفعالها الإجرامية في العراق بعد أن وضح أن تكاليف غزوها للعراق واستمرارها في احتلاله وفي دعم العملاء الذين وضعتهم في سدة الحكم في بغداد والذين يدين معظمهم بالولاء الحقيقي لإيران, أكبر كثيرا من العوائد التي يمكن أن تحصل عليها من بلد يكرهها ويقاومها, كما كان الحال مع كل الإمبراطوريات الاستعمارية وهي تسير باتجاه أفولها الحتمي.