كتبت في مقالين سابقين عن حالة الشد والجذب بين الجيش ورجال مبارك وجمال علي مدي السنوات الأخيرة.. وكان صندوق الصراع مغلقاً، نظراً لطبيعة المؤسسة العسكرية.. واليوم دعونا نرصد معلومات موثقة من داخل هذا 'الصندوق'.. ربما تفيد في تحليل موقف 'الجيش' الراهن، والتنبؤ باتجاهاته خلال الأشهر القليلة المقبلة..! كان الجيش ضد التوريث منذ اللحظة الأولي.. قال لي أحد كبار الضباط 'كنا دائماً ضد التوريث، لأنه ضد كرامتنا.. كان مخطط تصعيد جمال مبارك سيتم في عام 2005، عرفنا ذلك بدقة.. ولكن رموز التخطيط والتدبير للنظام الحاكم أوصوه بإرجاء الخطة والعمل علي منح جمال الفرصة لتقويته في الشارع، مع دعم رجال الأعمال في مؤسسة الحكم، وتقوية الشرطة بموازنة ضخمة وأفراد '3 أضعاف جنود الجيش' تمهيداً للحظة التوريث'..! كلام الضابط الكبير يفسر كل ما حدث في مصر خلال السنوات الأخيرة، بدءاً بالتصعيد الأسطوري لجمال، مروراً بحكومة رجال الأعمال وتمكين 'أحمد عز' ورجاله في الحزب الوطني، وانتهاء بالسطوة المبالغ فيها لوزارة الداخلية وجهاز أمن الدولة..! غير أن معارضة الجيش لمخطط التوريث لم تكن سراً طوال الوقت.. ففي إحدي المناسبات التي حضرها مبارك مع قادة وضباط من القوات المسلحة، وقف أحد المواطنين من سيناء، وهتف بتحية مبارك وقال 'ربنا يخليك لنا ياريس ومن بعدك ابنك جمال'.. وقبل أن يتم الرجل عبارته، كانت أصوات وهمهمة الضباط الغاضبة ترن في القاعة، ولاحظ مبارك ذلك، فأومأ للرجل 'الهتيف' بالجلوس خوفاً من تصاعد غضب قادة القوات المسلحة..! وفي إحدي المناسبات.. جمعتني المصادفة مع بعض القادة البارزين في الجيش.. كعادتي لم أتحدث معهم عن أحوال البلد تفادياً لإيقاعهم في الحرج.. غير أنهم فتحوا باباً مشرعاً للحديث دون مواربة.. سألوني كثيراً عن معاناة المواطنين والفقراء والعاطلين عن العمل.. وكان واضحاً متابعتهم الدقيقة لكل التجاوزات والسياسات الخاطئة.. وكان الأكثر وضوحاً غضبهم الشديد من الفساد المستشري في الحكومة والحزب الوطني.. قال لي أحدهم 'نحن نتمزق لأن الأرض التي حررها أبناء الشعب في القوات المسلحة بدمائهم الطاهرة منحوها مجاناً لحاشية جمال مبارك'..! وكانت الطامة الكبري في هذا الصراع أثناء ثورة 25 يناير.. فبعد نزول الجيش للشارع، وحمايته للمتظاهرين، وتلميحه بوقوفه مع مطالبهم المشروعة، أراد 'مبارك' الإيحاء بأن الجيش معه، فذهب إلي مقر القيادة العامة للقوات المسلحة بهدف احتواء كبار القادة، وأصر مبارك علي تصوير الاجتماع وهو يتابع الموقف في ميدان المظاهرات.. غير أن الرجل ارتكب خطأ جديداً باصطحاب 'جمال مبارك' معه، وظهوره علي شاشة التليفزيون جالساً وراءه.. يومها سقط 'مبارك' فعلياً، ومعه 'جمال'، الذي ظل متمسكاً بحلم 'الرئاسة' حتي آخر لحظة، وفي عقر دار القوات المسلحة..! تلك العقيدة التي تحكم الجيش المصري، باعتباره أحد أبرز الجيوش النظامية في العالم، تلقي بمسؤولية جسيمة علي المجلس الأعلي للقوات المسلحة.. فالجيش، الذي رفض حماية 'مبارك' في مواجهة الشعب، هو ذاته الذي ينبغي عليه الخروج بمصر إلي بر الأمان.. مصر الديمقراطية.. المدنية والحديثة، وليس مصر التي يحكمها نظام شمولي أو عسكري أو ديني.. مصر 2011 أكبر من مصر 1954.. مصر التي لن تكون 'إيران' أخري، ولا 'سودان' آخر.. فالطريق الوحيد للمستقبل هو الديمقراطية.. وأهلاً بالإخوان المسلمين، وكل التيارات الدينية، ضمن عملية سياسية مدنية وعمل مشترك يحتكم لصناديق الاقتراع ويسعي لمصلحة الوطن.. وليظل الجيش حامياً للدستور والديمقراطية، مثلما كان حائط صد قوياً ضد 'مخطط التوريث'، ومثلما كان حامياً لأبنائنا وهم يروون ميدان التحرير بدمائهم من أجل مستقبل لا يجوز لأحد أن 'يخطفه'..!