سيدة ضربت المثال في التضحية والفداء من أجل الوطن، مناضلة صلبة من زمن الأساطير، أنها رائد الحركة النسائية في مصر الحديثة 'هدي شعراوي'. ولدت بإسم نور الهدي محمد سلطان في مدينة المنيا بصعيد مصر في 23 يونيو 1879، ووهي ابنة محمد سلطان باشا، الذي نسب إليه تهم بخيانة عرابي والثورة وأنه كان سببا في دخول الإنجليز مصر، بتلقيه أموالاً من الخديوي توفيق مقابل رفضه لمواقف عرابي ودفع رشاوي لعدد من العربان والقيادات العسكرية اللذين خانوا عرابي، وكان رئيس مجلس النواب المصري الأول في عهد الخديوي توفيق، وأنعمت عليه بريطانيا بعد الإحتلال بنياشين مقابل خدماته. تلقت هدي شعراوي التعليم في منزل أهلها، وتزوجت مبكرا في سن الثالثة عشرة من ابن عمتها 'علي الشعراوي' الذي يكبرها بما يقارب الأربعين عاما، وغيرت لقبها بعد الزواج من هدي سلطان إلي هدي 'شعراوي'، وذلك تقليدا للغرب، وكان أحد شروط عقد زواجها أن يطلق زوجها زوجته الأولي، وفي السنوات اللاحقة أنجبت هدي بنتا أسمتها 'بثينة' وابنا أسمته 'محمد'. وكأغلب الشخصيات النسائية اللواتي تبنين تحرير المرأة، كنَّ في الواقع شخصيات مأزومة، عاشت ظروفاً اجتماعية قاسية نتيجة غياب الوعي الكامل بمقتضي الإسلام عن نطاق أسرهن، ومن هذه الشخصيات التي ينطبق عليها هذا الحال إلي حدّ كبير، هدي شعراوي، فمن خلال مذكراتها تسرد لنا المتغيرات والمواقف، أو بالأحري الصدمات، التي كانت بمثابة نقط تحول في شخصيتها وتفكيرها وحياتها، ومنها : تفضيل أخيها الصغير 'خطاب' عليها في المعاملة، علي الرغم من أنها تكبره بعشرة أعوام، فتقول: 'كانوا في المنزل يفضلون دائمًا أخاها الصغير في المعاملة، ويؤثرونه عليها، وكان المبرر الذي يسوقونه إليها أن أخاها هو الولد الذي يحمل اسم أبيه وهو امتداد الأسرة من بعد وفاته، أما هي فمصيرها أن تتزوج أحدًا من خارج العائلة، وتحمل اسم زوجها، ويعد موقف مرضها بالحمي من أبرز المواقف التي أثرت فيها بشكل سلبي، خاصة أن اهتمامهم بأخيها من جانب والدتها، التي كانت لا تغادر الفراش، أول الصدمات التي جعلتها تكره أنوثتها - بحد وصفها - فقط لأنه ولد'. زواجها من ابن عمتها، وتقول أن الزواج الذي حرمها من ممارسة هواياتها المحببة في عزف البيانو وزرع الأشجار، وحدت حريتها بشكل غير مبرر، الأمر الذي أصابها بالاكتئاب لفترة استدعت فيها سفرها لأوروبا للاستشفاء، وهناك تعرفت علي قيادات فرنسية نسائية لتحرير المرأة، الأمر الذي شجعها في أن تحذو حذوهم. وفاة أخيها الصغير وسندها في الحياة 'خطاب'، مما جعلها تشعر بالوحدة والأزمة، لأن من يفهمها في هذه الدنيا رحل عنها، خاصة أنهما متشابهان في الذوق والاختيارات، كما أنه اليد العطوفة عليها بعد وفاة والدتها وزواجها من شعراوي باشا. وعن زواجها كتبت في مذكراتها: ' بأنه كان يسلبها كل حق في الحياة، وذكرت من أمثلة ذلك ما نصه : لا أستطيع تدخين سيجارة لتهدئة أعصابي حتي لا يتسلل دخانها إلي حيث يجلس الرجال، فيعرفوا أنه دخان سيجارة السيدة حرمه إلي هذا الحد كانت التقاليد تحكم بالسجن علي المرأة وكنت لا أحتمل مثل هذا العذاب ولا أطيقه. كما تسرد لنا في مذكراتها بداية نشاطها لتحرير المرأة كما عبرت، والذي بدأ أثناء رحلتها الاستشفائية بأوروبا بعد زواجها، وانبهارها بالمرأة الإنجليزية والفرنسية في تلك الفترة للحصول علي امتيازات للمرأة الأوروبية، وهناك تعرفت علي بعض الشخصيات المؤثرة التي كانت تطالب بتحرير المرأة، وعند عودتها أنشأت شعراوي مجلة ' الإجيبسيان ' والتي كانت تصدرها باللغة الفرنسية، وكان لنشاط زوجها علي الشعراوي السياسي الملحوظ في ثورة 1919، وعلاقته بسعد زغلول أثر كبير علي نشاطاتها، فشاركت بقيادة مظاهرات للنساء عام 1919، وأسست 'لجنة الوفد المركزية للسيدات' وقامت بالإشراف عليها. وفي العام 1921 وفي أثناء استقبال المصريين لسعد زغلول، قامت هدي شعراوي بخلع الحجاب علانية أمام الناس وداسته بقدميها مع زميلتها 'سيزا نبراوي'، وكتبت تقول في مذكراتها : 'ورفعنا النقاب أنا وسكيرتيرتي ' سيزا نبراوي ' وقرأنا الفاتحة ثم خطونا علي سلم الباخرة مكشوفتي الوجه، وتلفتنا لنري تأثير الوجه الذي يبدو سافراً لأول مرة بين الجموع، فلم نجد له تأثيراً أبداً لأن كل الناس كانوا متوجهين نحو سعد متشوقين إلي طلعته '. لقائها بشخصيات عالمية : حضرت هدي شعراوي أول مؤتمر دولي للمرأة في روما عام 1923م، وكان معها نبوية موسي وسيزا نبراوي صديقتها و أمينة سرها، وكتبت في ذلك الوقت تقول: ' كان من بين ما حققه مؤتمر روما الدولي، أننا إلتقينا بالسنيور موسوليني ثلاث مرات، وقد استقبلنا وصافح أعضاء المؤتمر واحدة واحدة، وعندما جاء دوري وقدمت إليه كرئيسة وفد مصر، عبر عن جميل عواطفه ومشاعره نحو مصر وقال: إنه يراقب باهتمام حركات التحرير في مصر'. عقد المؤتمر النسائي الدولي الثاني عشر في العاصمة 'استانبول' في 18 إبريل 1935، وتكون من هدي شعراوي رئيسة وعضوية اثنتي عشر سيدة، وقد انتخب المؤتمر هدي نائبة لرئيسة الاتحاد النسائي الدولي، وكانت تعتبر أتاتورك قدوة لها وأفعاله مثل أعلي، حيث كتبت تقول في مذكراتها : 'وبعد انتهاء مؤتمر استانبول وصلتنا دعوة لحضور الاحتفال الذي أقامه مصطفي كمال أتاتورك محرر تركيا الحديثة، وفي الصالون المجاور لمكتبه وقفت المندوبات المدعوات علي شكل نصف دائرة، وبعد لحظات قليلة فتح الباب ودخل أتاتورك تحيطه هالة من الجلال والعظمة وسادنا شعور بالهيبة والإجلال، وعندما جاء دوري تحدثت إليه مباشرة من غير ترجمان، وكان المنظر فريداً 'أن تقف سيدة شرقية مسلمة وكيلة عن الهيئة النسائية الدولية، وتلقي كلمة باللغة التركية تعبر فيها عن إعجاب وشكر سيدات مصر بحركة التحرير التي قادها في تركيا'، وقلت: 'إن هذا المثل الأعلي من تركيا الشقيقة الكبري للبلاد الإسلامية شجع كل بلاد الشرق علي محاولة التحرر والمطالبة بحقوق المرأة، وقلت أيضا: إذا كان الأتراك قد اعتبروك عن جدارة أباهم و أسموك أتاتورك، فأنا أقول: إن هذا لا يكفي بل أنت بالنسبة لنا 'أتاشرق'، فتأثر كثيراً بهذا الكلام الذي تفردت به، ولم يصدر معناه عن أي رئيسة وفد وشكرني كثيراً في تأثر بالغ ثم رجوته في إهدائنا صورة لفخامته لنشرها في مجلة الإجيبسيان '. كما حضرت هدي شعراوي مؤتمر باريس عام 1926، ومؤتمر أمستردام العام 1927، ومؤتمر برلين العام 1927، ودعمت إنشاء نشرة 'المرأة العربية' الناطقة باسم الاتحاد النسائي العربي. ولما عادت هدي من مؤتمر الاتحاد النسائي الدولي المذكور كونت الاتحاد النسائي المصري عام 1927. شغلت هدي شعراوي منصب رئاسة الاتحاد النسائي المصري حتي عام 1947، كما كانت عضوا مؤسسا في 'الاتحاد النسائي العربي'، وصارت رئيسته في العام 1935، وبعد عشرين عاماً من تكوين هذا الاتحاد قامت بعقد ما سمي 'بالمؤتمر النسائي العربي' عام 1944م، وقد حضرت مندوبات عن الأقطار العربية المختلفة، واتخذت فيه قرارات، والتي في مقدمتها : - المطالبة بالمساواة في الحقوق السياسية مع الرجل وعلي الأخص الانتخاب. - تقييد حق الطلاق. - الحد من سلطة الولي أياً كان وجعلها مماثلة لسلطة الوصي. - تقييد تعدد الزوجات إلا بإذن من القضاء في حالة العقم أو المرض غير القابل للشفاء. - الجمع بين الجنسين في مرحلتي الطفولة و التعليم الابتدائي. ثم في نهاية القرارات : تقديم طلب بواسطة رئيسة المؤتمر إلي المجمع اللغوي في القاهرة والمجامع العلمية العربية، بأن تحذف نون النسوة من اللغة العربية. في 29 نوفمبر 1947، صدر قرار التقسيم في فلسطين من قبل الأممالمتحدة، توفيت شعراوي بعد ذلك بحوالي الأسبوعين، في 12 ديسمبر 1947، بالسكتة القلبية، وهي جالسة تكتب بياناً في فراش مرضها، تطالب فيه الدول العربية بأن تقف صفاً واحداً في قضية فلسطين. حازت في حياتها علي عدة أوسمة ونياشين من الدولة في العهد الملكي، وأطلق اسمها علي عديد من المؤسسات والمدارس والشوارع في مختلف مدن مصر في حينها