انتظر البعض كلمته بفارغ الصبر، كثيرون لم يُبدوا تفاؤلاً، توقعوا ذات المفردات، والادعاءات، ومحاولة توظيف العبارات المطاطة لتبرير الأفعال والمواقف المناوئة للجميع. لم يخيّب أمير قطر الشيخ تميم بن حمد ظنون الكثيرين، فقد جاءت كلمته أمام القمة العربية في شرم الشيخ لتعكس تناقضاً بين المواقف المعلنة وحقائق الواقع علي الأرض، ولتقدم تبريرات غير منطقية لمواقف قطرية تسببت في إحداث الفوضي والانهيار ودعم الإرهاب في المنطقة العربية. كانت قطر، ولا تزال، لاعباً وظيفياً في الحرب ضد الأمة والدولة الوطنية، قدمت الدعم المالي واللوجيستي لكثير من الحركات التي استهدفت تفتيت الأوطان وإذكاء الصراعات وصولاً إلي ما سُمي 'الشرق الأوسط الجديد'!! وفي خطابه أمام القمة ركّز أمير قطر علي بعض قضايا الأمة وأزماتها، فجاء خطابه متناقضاً، يحمل شعارات ومفردات جميلة ولكنها كمن يدس السم في العسل. وبعيداً عن كلماته المعسولة عن القضية الفلسطينية فقد كان حديث أمير قطر عن سوريا كاشفاً، لقد جاءت كلماته لتعكس قفزاً علي الواقع وإصراراً علي التمادي، وحرصاً علي استمرار الأزمة بكل تداعياتها.. ورغم أن صمود النظام السوري دفع الكثير من الأطراف المعنية، الإقليمية والدولية، إلي مراجعة مواقفها، ودعوة النظام إلي أن يكون طرفاً في حل المعضلة، فإن أمير قطر قال وبوضوح: 'علينا أن نوضح بشكل حاسم وقاطع أن هذا النظام ليس جزءاً من أي حل'!! وكان من رأي أمير قطر، الذي هو جزء من المشكلة، أن الحل السياسي يعني تلبية مطالب الشعب السوري وإتاحة المجال أمام القوي المدنية السورية بجميع تياراتها لتشكيل حكومة انتقالية تمهد الطريق أمام الشعب السوري لتحديد خياراته بنفسه في انتخابات حرة ونزيهة لرسم معالم مستقبله واستعادة وطنه وحريته وكرامته دون خوف أو إرهاب!! والملاحظ هنا أن خطاب أمير قطر لم يطرح رؤية محددة لحل الأزمة السورية، وإنهاء الحرب الإقليمية والدولية التي تتعرض لها سوريا، بل يكاد يكون قد اقتصر في تحليله للأزمة ورؤيته للحل علي إبعاد النظام السوري الذي يترأسه الرئيس بشار الأسد المنتخب شعبياً من أي دور في حل المشكلة. إن ذلك يطرح، في المقابل، عدداً من التساؤلات وعلامات الاستفهام حول الخطاب القطري تجاه الأزمة السورية، وهنا يمكن التوقف أمام عدد من الملاحظات المهمة. أولاً: أن حاكم قطر لا يري أي أفق عربي أو دولي أو حتي داخلي لحل الأزمة السورية في ظل وجود الرئيس بشار الأسد، وهذا أمر يتعارض نهائياً مع التوجهات التي سادت القمة العربية والتي أكدت جميعها في مضمونها ضرورة السعي إلي حل سياسي لسوريا يضمن وحدة الشعب والأرض. هذا من ناحية، ومن ناحية أخري فإن كلام أمير قطر يحمل مزايدة حتي علي الموقف الأمريكي، هذا الموقف الذي عبّر عنه وزير الخارجية جون كيري خلال مشاركته في أعمال القمة الاقتصادية في شرم الشيخ، حيث صرح لقناة 'سي بي إس نيوز' بأن الولاياتالمتحدة علي استعداد للتفاوض مع الرئيس السوري من أجل ضمان انتقال سياسي للسلطة في سوريا. وقال 'كيري' في حديثه: 'إن ظهور عدو مشترك -في إشارة إلي داعش- قد يكون خفف من موقف الغرب تجاه الأسد'. هذا عن الموقف الأمريكي، غير أن أمير قطر بدا في خطابه أكثر تشدداً، وأكثر إصراراً علي استمرار الحرب لحين إسقاط نظام بشار الأسد الذي لا يعتبره جزءاً من الحل!! ثانياً: لم يأت أمير قطر في كلمته بأي ذكر أو انتقاد للتدخلات الإقليمية والدولية في الأزمة السورية، وهذا أمر طبيعي ومتوقع، باعتبار أن حكومة قطر نفسها تدخلت، ولا تزال تتدخل، في هذه الأزمة عبر تمويل وتسليح الأطراف والمنظمات الإرهابية المناوئة للنظام السوري، وهو أمر يضعها طرفاً مشاركاً في هذه الحرب وليس وسيطاً يحق له الحديث عن الأطراف المعنية. ثالثاً: لقد تجاهل أمير قطر، عن عمد، ذكر أي كلمة أو عبارة عن التنظيمات الإرهابية المناوئة في سوريا التي تستخدم العنف والإرهاب سبيلاً، وفي مقدمتها 'داعش والنصرة'، وهو أمر لا يمثل قفزاً علي حقائق الواقع فحسب، بل يمثل كذلك دعماً واضحاً لهذه التنظيمات ودورها الذي تقوم به في الوقت الراهن، ذلك أن الحل في نظر أمير قطر جسّده بالقول: 'ألم يحن الوقت أن نسأل: هل سنبقي ننتظر ما سوف يفعله الآخرون في سوريا؟ لقد اتضح تماماً حدود فعلهم، ولم يعد ثمة مجال للتكهن والتحليل، متي سوف نتحرك نحن كعرب لإنهاء هذه المأساة بالتنسيق مع من يجب أن ننسق معه؟'، وهو بذلك يطرح الخيار العسكري كخيار وحيد تشارك فيه الأمة العربية مع القوي الدولية التي يتوجب التنسيق معها، متجاهلاً بذلك أن الفترة الماضية عجزت فيها القوي الإقليمية والدولية عن كسر إرادة الشعب السوري، وأثمرت عن ظهور تنظيمات إرهابية جديدة أبرزها داعش، وتراجع التأييد الدولي والإقليمي للمتمردين السوريين والإرهابيين الذين جاءوا من كل حدب وصوب، ناهيك عن صمود النظام والجيش السوري في هذه الحرب. من هنا يمكن القول إن خطاب أمير قطر وحديثه عن الملف السوري كان خطاب حرب، وليس خطاب 'حل'، وهو بذلك يكرر نفس النهج ويحرّض علي استمرار الفتنة، ويستهدف القضاء علي ما تبقي من مؤسسات الدولة السورية، وكأنه يخوض حرباً قبلية لا هدف لها إلا المزيد من الدماء والدمار. قضية الإرهاب.. رؤية متناقضة كانت القضية الثانية التي توقف أمامها المحللون في خطاب أمير قطر هي ما يتعلق بالموقف من قضية الإرهاب، وهنا ظهر التناقض واضحاً وجلياً، فالرجل الذي يتحدث عن خطورة الإرهاب علي الأمن الإقليمي العربي والدولي ويدعو إلي اجتثاثه من الجذور هو نفسه الذي يُعد أحد أبرز داعميه ومموليه!! إن الأدلة والبراهين الثابتة التي تكشف حقائق الدور القطري في دعم الإرهاب لا تخفي علي أحد، بل إن أحد أبرز أسباب الخلاف المصري والخليجي والعربي مع هذه الإمارة يقوم علي تلك الدلائل التي تؤكد أن قطر قدمت، ولا تزال تقدم، الدعم الكامل لهذه التنظيمات التي تستخدم العنف والإرهاب سبيلاً، وأظن أن الموقف في مصر وسوريا وليبيا تحديداً هو عنوان بارز لهذا الدعم الذي لا يخفي علي أحد. أما عن اليمن وليبيا فحدث بلا حرج. كان ذلك أيضاً دليل الازدواجية التي تعامل بها الخطاب القطري أمام القمة، والتي تعكس بالتبعية تناقض السياسة الخارجية القطرية في تعاملها مع القضايا الإقليمية والدولية. ففي الوقت الذي تحدّث فيه أمير قطر أمام القمة عن أن موقف بلاده المتضامن مع 'عاصفة الحزم' إنما جاء بسبب مصادرة الحوثيين وأنصار الرئيس السابق للشرعية السياسية والسعي إلي تقويض مؤسسات الدولة وعدم احترام الشرعية المتمثلة في الرئيس هادي وحكومته المعترف بها، نراه علي النقيض تماماً من الموقف في ليبيا. لقد أكد أمير قطر أن بلاده ترفض الحل العسكري في ليبيا لأنها تري أن المخرج الوحيد من تداعيات الأزمة هو حل سياسي يحترم إرادة الشعب الليبي ويلبي طموحاته ويهيئ الظروف لإعادة بناء الدولة ومؤسساتها دون إقصاء أو تهميش بعيداً عن التدخلات الخارجية. وهنا يمكن التأكيد علي عدد من الملاحظات التي تكشف تناقضات الموقف القطري: أولاً: أن مفهوم الشرعية في اليمن يختلف لدي قطر عن مفهوم الشرعية في ليبيا، ففي الوقت الذي تشارك فيه الحكومة القطرية في الحملة العسكرية 'عاصفة الحزم' ضد الانقلاب الحوثي في اليمن في مواجهة الشرعية التي يمثلها الرئيس عبدربه هادي، نراها لا تعترف بالشرعية الحالية في ليبيا، لا الحكومة ولا مجلس النواب المنتخب، حيث قال الأمير في خطابه: 'إن الأمر لن يُحسم إلا بتفعيل الحوار الوطني بين جميع مكونات الشعب الليبي للوصول إلي حل سياسي يحقق تطلعات وآمال الشعب الليبي'، وهو بذلك يقر علناً بأنه لا يعترف بمجلس النواب الليبي المنتخب ولا بالحكومة التي اختارها، وإنما يري أن حسم الأمر متوقف علي الحوار مع مكونات الشعب الليبي الأخري، وهو بذلك يقصد التنظيمات الإرهابية 'داعش، أنصار الشريعة، فجر ليبيا، وغيرها'. ثانياً: أن أمير قطر الذي شاركت بلاده في الحملة العسكرية ضد الانقلاب الحوثي في اليمن بناء علي طلب من الحكومة الشرعية اليمنية، يرفض أي حل عسكري في ليبيا بناء علي طلب من الحكومة الشرعية ومجلس النواب الليبي المنتخب، وهو ما أكده في خطابه أمام القمة من أنه لا حل عسكرياً في ليبيا، وأن الحوار هو وحده الوسيلة. وهنا يجب التذكير بالموقف القطري في الجامعة العربية، حيث رفضت قطر، وبكل عنف، الضربات الجوية التي وجهتها مصر ضد تنظيم داعش الإرهابي في 'درنة' الليبية بناء علي دعوة من الحكومة الليبية الشرعية وبعد ذبح 21 مصرياً علي يد هذا التنظيم، وراحت تتهم مصر بالتدخل في الشئون الداخلية الليبية، وطالبت بإدانة هذه الخطوة بينما هي تقف علي النقيض تماماً من تداعيات الأزمة في اليمن، وهو أمر لا يكشف عن ازدواجية واضحة فحسب، بل عن عمي في البصيرة، وتآمر مكشوف ضد مصر وليبيا علي السواء. ثالثاً: عندما تحدّث أمير قطر أمام القمة عن ضرورة تهيئة الظروف لإعادة بناء الدولة الليبية ومؤسساتها بمشاركة جميع القوي السياسية والاجتماعية ودون إقصاء أو تهميش وبعيداً عن التدخلات الخارجية، فهو بذلك يقع في تناقض جديد حتي مع مقررات القمة العربية التي أقرت بضرورة حماية الأمن القومي العربي، فإذا كان يقصد بالتدخلات الخارجية موقف مصر، فهو بذلك يتجاهل اتفاقية الدفاع العربي المشترك وميثاق الجامعة العربية وأيضاً المادة '51' من ميثاق الأممالمتحدة، أما إذا كان يقصد دعوات الحوار التي تسعي إليها أطراف إقليمية ودولية فهو بذلك أيضاً يؤكد أن خياره الوحيد هو في استمرار العنف والإرهاب علي الأرض الليبية وضرب المؤسسات الشرعية وعدم الاعتراف بها، مع أن قطر كانت طرفاً في التدخل الخارجي جنباً إلي جنب مع حلف الناتو وحربه ضد حكم العقيد معمر القذافي في وقت سابق، كما أن دورها المشبوه وتدخلها في الشئون الداخلية الليبية لا يزال ماثلاً أمام العيان. بقيت نقطة مهمة تتعلق بالموقف القطري من شرعية الحكم في مصر، وشرعية الثورة المصرية التي أسقطت حكم جماعة الإخوان. لقد دأب الخطاب السياسي والإعلامي القطري طيلة الفترة الماضية علي وصف ما جري في مصر بأنه 'انقلاب'، واستمر هذا الموقف حتي بعد الانتخابات الرئاسية التي شهد بنزاهتها العالم والمنظمات المحلية والدولية. ولم يتوقف الدور القطري عند هذا الحد، بل لعبت قطر دوراً تآمرياً في التحريض ضد مصر في المحافل الإقليمية والدولية، ودعمت الإرهاب واحتضنت رموزه علي الأرض القطرية. وكان بمقتضي ذلك يتوجب علي قطر أميراً وحكومة أن تقاطع القيادة والحكومة المصرية اتساقاً مع توصيفها وخطابها، غير أن أمير قطر جاء إلي شرم الشيخ ووجّه الخطاب إلي الرئيس السيسي بالقول: 'فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي، أود في البداية أن أعرب عن بالغ التقدير لجمهورية مصر العربية الشقيقة رئيساً وحكومة وشعباً'. هكذا تحدّث أمير قطر أمام القمة، لكن إعلامه لا يزال يصف النظام في مصر بأنه 'انقلابي' وخارج علي 'الشرعية'، حتي ولو كان ذلك في صورة رسائل تُنشر أو تحليلات تُذكر علي شاشة قناة الجزيرة والقنوات الأخري التي تدعمها قطر. وهكذا يبدو الخطاب القطري متناقضاً مع حقائق الواقع، والأخطر أن الأمير لا يزال مصمماً علي المضيّ في نفس الطريق الذي سلكه والده في وقت سابق، وكان سبباً في جرّ ويلات العنف والفوضي إلي المنطقة العربية. ولكل ذلك لا أظن أن أصحاب دعوات التفاؤل بمراجعة قطر لمواقفها يمكن أن يكونوا علي حق، فحقائق ما يجري علي الأرض تصطدم بمفردات الخطاب التحريضي، كما أن قطر، وهذا هو المهم، ليست لديها حريتها في اتخاذ القرار، لقد ارتضت بأن تكون مجرد أداة يحركها لاعبون من خلف ستار. إن الذين يظنون أن السياسة القطرية ستراجع نفسها تجاه الملفات العربية والمصرية بعد القمة ليسوا علي حق، فالشهور التي مضت حملت أوهام التفاؤل لدي البعض، لكن ذلك لم يستمر طويلاً، وأعتقد أننا أيضاً نقف علي أعتاب ذات المرحلة، فلن يكون هناك جديد، فطالما بقي المخطط، تبقي أدواته.