ويبدو أن السكوت علامة الرضا عند كل سكان الأرض وليس المصريين فقط.. فالخَرَس المزمن الذي أبتُلي به مسؤولونا علي طول الزمان، في مواجهة قضايا يكون فيها التعامل باللسان هو أضعف الإيمان، فسره الغرب أنه خضوع وارتضاء بالذل والهوان، فتمادي الخواجة في تجبره ودفعت مصر من هيبتها، والمصريون من كرامتهم ثمن تقاعس حفنة من العجزة والمأفونين. فمنذ حوالي أربعة أشهر، وبالتحديد يوم الإثنين 22 سبتمبر 2014 أُزيح الستار عن نسخة طبق الأصل لتمثال شامبليون الباصم بنعل حذائه علي رأس الفرعون، والقابع في مدخل 'الكولاج دو فرانس' بباريس منذ مائة واربعين عاماً، وبهذه المناسبة، وتحت رعاية نجاة بلقاسم وزيرة التعليم الفرنسية، احتفلت مدرسة 'شامبليون' الثانوية العريقة، بالنسخة البرونزية الجديدة التي استقرت هذه المرة بباحتها، وتقع هذه المدرسة في 'جرونوبل' جنوب شرق فرنسا، تلك المدينة التي كان 'شامبليون' طالباً ثم مُدَرساً للتاريخ بإحدي مدارسها، قبل أن يسافر إلي باريس ليصبح أول أمين لمجموعة الآثار المصرية بمتحف اللوفر، وأستاذ كرسي لعلم المصريات في 'الكولاج دو فرانس'. شاهدت الحفل من خلال الفيديو الذي أرسله لي 'هشام جاد' الفنان التشكيلي المقيم بباريس منذ ربع قرن، ومن أوائل المعترضين علي وجود النسخة الأصلية من التمثال، وأكثرهم تفاعلاً.. كان حفلاً هادئاً أنيقاً، تخللته أناشيد ومعزوفات وطنية راقية، ورغم ذلك شعرت وكأن الحاضرين يحتفلون بالذكري المائة والأربعين لذبح هيبتنا، بالتحرش بما تبقي من كرامتنا علي أنغام الموسيقي!! أما تعليق هشام جاد المصاحب للفيديو فكان أشبه بالرثاء الساخط علي كافة المسؤولين، الذين سبق واستجار بهم عدة مرات قبل ذلك، ممن اعتلوا الكراسي في السنتين الأخيرتين واحدا واحدا بالإسم، من صابر عرب وزير الثقافة السابق إلي جابر عصفور الوزير الحالي، ومن محمد ابراهيم وزير الآثار السابق إلي ممدوح الدماطي الوزير الحالي، ومن محمد كامل عمرو وزير الخارجية الأسبق، إلي نبيل فهمي، إلي سامح شكري الوزير الحالي، ومن محمد مصطفي كمال سفير مصر السابق في فرنسا إلي إيهاب بدوي السفير الحالي.. الجميع لم يسلم من توبيخه بسبب اكتشافه أن المسؤولين في فرنسا لم يصلهم أي مكاتبات رسمية من الجانب المصري بشأن التمثال. فهو يراقب أصداء الحملة التي أشنها في هذا الصدد، ومعي الكثير من القامات الشريفة، والأقلام النزيهة، والكل غيور علي سمعة مصر وتاريخها، وفي ديسمبر الماضي قمت بإطلاعه علي التصريحات الإيجابية لوزيري الثقافة والآثار المصريين تجاه التمثال والتي جاء بها قيامهما بمخاطبة الجانب الفرنسي، ولا سيما الدكتور جابر عصفور الذي أكد علي ثقته في استجابة الفرنسيين للطلب المصري.. ومنذ ذلك الحين أخذ هشام في الاتصال بأكثر من جهة في فرنسا لمتابعة الأمر، ولكن المدهش أن الجميع بدوا وكأنها المرة الأولي التي يستمعون فيها لتلك الحكاية، فالموظفون بوزارة الثقافة الفرنسية نفوا تماماً علمهم بالموضوع، وكذلك موظفو السفارة المصرية في باريس.. وحسب قول هشام جاد: فإن السفير المصري إيهاب بدوي يتهرب منه، ويرفض الحديث معه في أمر التمثال.. أما الدكتورة أمل الصبان المستشارة الثقافية بالسفارة فقد أبلغته بالحرف: أنها ليست معنية بهذا الموضوع علي الإطلاق!! ما زال هناك من يسفه حمية المصريين علي وطنهم.. وما زال هناك من يكذب عليهم، ومن يضلل، ويراوغ، ويتنصل. كان الاحتفال بالنسخة الجديدة من تمثال شامبليون بمثابة الأثر المباشر الذي ترتب علي سلبية المسؤولين في مصر عبر السنين، والعاقبة الطبيعية لإهمالهم وتخاذلهم، وإن استمروا علي هذا النحو فالقادم أسوأ لا محالة.. فهل نترك هؤلاء يخطئون بمحض اختيارهم، بينما ينزل العقاب جبراً علي هيبة وعزة مصر، وكرامة أبنائها، ومجد أجدادها!! ولنستكمل في العدد القادم بمشيئة لله. [email protected]