أثبتت الأيام أن عبد الفتاح إسماعيل كان مختلفًا عن زملائه.. قادة التنظيم.. ربما لميوله الواضحة إلي الزعامة.. وحبه للاستعراض.. ورغبته وحرصه الشديدين علي أن يكون غامضًا.. وربما لأنه 'ابن سوق' وله خبرة كبيرة في التعامل مع الناس وفهمهم.. كان قادة التنظيم -دون عبد الفتاح- يرون سيد قطب رجلًا لا ترد له كلمة.. وإذا تحدث فإن حديثه الصدق كله.. وكل رأي يدلي به -حتي لو كان بعيدًا عن التصور- هو الرأي الصحيح.. لا معقب عليه.. كانوا يرونه من ذلك الصنف من الناس ذوي المكانة.. والقداسة.. لا يقاس بغيره من البشر.. إنما يقاس بالصديقين.. وربما الأنبياء.. بينما كان عبد الفتاح إسماعيل يتعامل معه كندّ.. تقريبًا.. ويري فيه رجلًا قرأ أكثر.. وتأمل أكثر.. ومنحته السن خبرة أكثر.. وأنه -في الوقت المناسب- يمكن أن يراجع.. ويمكن أن يخطئ.. ويتم الاعتراض علي ما يدلي به من آراء ومفاهيم.. وأغلب الظن.. أن عبد الفتاح إسماعيل كان يدرك كل ذلك.. ويؤمن به.. بينه وبين نفسه.. لا يفصح عنه لأحد.. حفاظًا علي التنظيم.. وعلي هيبة القيادة.. كان عبد الفتاح إسماعيل قلقًا.. وغير مستريح لدخول علي عشماوي في الخط الواصل بين التنظيم والإخوان بالخارج.. وقد أصيب بالضيق عندما سافر عشماوي إلي السعودية بدعوة من الإخوان الهاربين هناك.. وبلغ ضيقه القمة عندما علم بالرسالة التي حملها 'أخ سوداني' تنبئ بأن ما اتفق عليه عشماوي قد نفذ تمامًا.. وأن السلاح الذي طلبه موجود حاليًا بالسودان.. وأن عليه أن يرتب أموره لاستلامه عند وصوله إلي 'دراو' قرب السودان.. وزاد من ضيقه أكثر أن عشماوي التقي سيد قطب بهذا الخصوص وإنهما اتفقا علي كل شيء.. ولم يبق إلا تسلم عشماوي مبلغ ألف جنيه من عبد الفتاح إسماعيل للصرف علي استقبال السلاح ونقله وتخزينه.. وبالرغم من الظروف الحرجة.. والتوتر القائم.. وحمي الاستعداد لمواجهة ضربة منتظرة للتنظيم.. فإن عبد الفتاح إسماعيل لم ينس نفسه.. وذاته المتضخمة.. وانبري يدافع عن 'وضعه' و'مكانته' بضراوة.. وبمجرد حضور علي عشماوي وطرحه الأمر علي لجنة القيادة.. ثار عبد الفتاح إسماعيل ثورة عارمة.. وفجّر موضوع الاتصال بالخارج.. وأنه من اختصاصه وحده.. ولم تقتصر ثورته علي 'علي عشماوي' فقط.. بل امتدت إلي 'سيد قطب' نفسه.. فاتهمهما بالانفراد بالرأي.. وهو ليس من حقهما.. وهدد بأنه لن يسكت علي ذلك.. وهب من فوره قائلًا: إنه ذاهب إلي سيد قطب لكي يتحاسبا.. وعاد ليقول لمجموعة القيادة 'إنه سأل الأستاذ سيد قطب إن كان قد أعطي هذه التعليمات إلي علي عشماوي كي يتسلم شحنة السلاح.. وينقلها.. ويقوم بتخزينها.. فنفي ذلك'.. وهنا -والكلام من مذكرات علي عشماوي- أحسست بإحباط شديد.. وخيبة أمل كبيرة.. فقد كان الأستاذ سيد قطب بالنسبة لي ولغيري المثل الكبير للقائد.. والمفكر.. والفيلسوف.. وكنت متأثرًا به إلي حد كبير.. ولكنه.. إذا كان قد أنكر ما قاله لي.. أمام ثورة الشيخ عبد الفتاح إسماعيل.. فسوف يسقط من نظري.. وقلت للشيخ عبد الفتاح والإخوة إنني سوف أذهب للقاء الأستاذ سيد قطب.. وذهبت إليه.. وكان معي بعض الإخوة.. وكان صباح يوم جمعة.. وواجهته بما بدر منه.. فقال: إنه ينبغي أن نسأل إخواننا في القيادة.. وألا ننفرد بقرار.. وينبغي أن يكونوا راضين عما نفعل.. وأنني قد فهمت الأمر خطأ.. فهو لم يكن يقصد المعني الذي فهمته.. وعندئذ -والكلام مازال لعلي عشماوي- تأكدت أن سيد قطب قد عاد في كل كلمة قالها لي بشدة.. ومن شدة غيظي وإحباطي.. أجهشت بالبكاء أمامه وأمام من كان معي من الإخوة.. وأحسست أنني ضيعت عمري وحياتي.. وسرت بعيدًا في طريق الخطأ.. فقد انكسرت في نفسي أمور كثيرة لا يمكن أن 'تجبر' بعد ذلك.. وتساءلت بيني وبين نفسي: 'لماذا أعطي نفسي لأي فرد.. وأعطل عقلي وإرادتي.. وأعطي قيادي لشخص آخر دون سبب مفهوم.. وقررت بيني وبين نفسي الابتعاد'.. ولم يحدث ذلك الابتعاد لأنه في التنظيم تكاثروا عليه.. وأغرقوه بالاعتذارات والتبريرات.. وأن الخطأ لا يعالج بخطأ أبشع.. والتنظيم في مهب الريح.. وعلينا أن نصمد حتي يتحدد المصير.. وبعدها يمكن علاج كل الأمور.. وكلام سيد قطب لعلي عشماوي وصحبته حول عدم الانفراد بأي قرار.. وسؤال الإخوة.. وضمان رضائهم.. يتنافي كلية مع مبادئ الإخوان.. ومنهج الدعوة التي أسسها حسن البنا.. وعندما يتحدث سيد قطب بهذا الحديث.. فإنه يهدر مبدأ أساسيًا قامت عليه جماعة الإخوان ولم تزل.. وهو مبدأ السمع والطاعة والكتمان.. وعندما يرضخ سيد قطب قائد التنظيم وإمامه لقيادة ميدانية 'عبد الفتاح إسماعيل' فإنه من الأمور المتكررة التي حدثت.. وتحدث.. وستظل تحدث حتي تنتهي الجماعة وفكرها من الحياة.. والصورة التي رسمها علي عشماوي لرضوخ سيد قطب أمام ثورة عبد الفتاح إسماعيل.. واضطراره إلي الكذب.. ومحاولات التبرير.. والالتفاف.. تكاد تتطابق تمامًا مع ما جري بين الشيخ حسن البنا مؤسس الإخوان ومرشدها الأول.. وعبد الرحمن السندي.. قائد التنظيم السري المسلح.. حيث تراجع وهو الإمام، والملهم، العلامة، والفقيه الذي لا يباري أمام إصرار السندي.. وجرأته التي بلغت حد اتهام حسن البنا بالكذب.. وأنه الذي أمره باغتيال المستشار الخازندار.. بينما اكتفي البنا بالرفض المائع.. ومحاولات التبرير الهزيلة.. وبدا مرتبكًا.. مشتت الفكر.. يخطئ في الصلاة تحت تأثير الحدث.. والمواجهة.. ولم يستطع عمل شيء رغم سلطاته غير المحدودة.. لأن عبد الرحمن السندي كان قويًا.. يسيطر علي الجهاز السري المسلح سيطرة كاملة.. وكان عبد الفتاح إسماعيل بالنسبة لسيد قطب وتنظيم 1965.. هو عبد الرحمن السندي.. بالنسبة لحسن البنا.. وللإخوان.. وقد أكد لنا قادة الإخوان منذ النشأة حتي اليوم.. أنه وأمام المصالح.. تسقط المبادئ.. وتهوي القيم.. وتمرغ الضمائر في وحل الأكاذيب.. والتدليس.. والبهتان.. ومازلنا مع عبد الفتاح إسماعيل.. الرجل الغامض..