«هنصحى بدري ولا متأخر؟».. سؤال حير المواطنين مع تغيير توقيت الساعة    هل تتغير الساعة تلقائي في الهاتف مع بدء التوقيت الصيفي؟    عاجل - قوات الاحتلال تقتحم نابلس الفلسطينية    صلاح: على جوميز عدم التأليف أمام دريمز.. وهذا هو أفضل تشكيل للزمالك    لقاء محتمل بين الأهلي والزمالك في أفريقيا هذا العام.. تفاصيل    مصر تضمن لقبي بطولة الجونة للاسكواش للرجال والسيدات بعد تأهل 4 للاعبين للنهائي    النيابة تقرر حبس المتهم في واقعة إنهاء حياة «طفل» شبرا الخيمة    انكسار الموجة الحارة.. الأرصاد تتوقع انخفاض درجات الحرارة اليوم الجمعة    حظك اليوم برج الدلو الجمعة 26-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    حفل افتتاح الإسكندرية للفيلم القصير يحتفي بالدورة العاشرة    كريم فهمي يروج لفيلم «السرب»: انتظرونا 1 مايو    «الإفتاء» تعلن موعد صلاة الفجر بعد تغيير التوقيت الصيفي    أذكار وأدعية ليلة الجمعة.. اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا    جدعنة أهالي «المنيا» تنقذ «محمود» من خسارة شقى عمره: 8 سنين تعب    ناقد رياضي: الزمالك فرط في الفوز على دريمز الغاني    طارق السيد: ملف بوطيب كارثة داخل الزمالك.. وواثق في قدرات اللاعبين أمام دريمز    رئيس لجنة الخطة بالبرلمان: الموازنة الجديدة لمصر تُدعم مسار التنمية ومؤشرات إيجابية لإدارة الدين    إعلان نتيجة مسابقة المعلمة القدوة بمنطقة الإسكندرية الأزهرية    الحوثيون يستهدفون سفينة في خليج عدن ويطلقون صواريخ مجنحة على أهداف في إيلات    هيئة الغذاء والدواء بالمملكة: إلزام منتجات سعودية بهذا الاسم    لطفي لبيب ل صدى البلد: برتاح على سيرة أشرف عبد الغفور    إصابة 8 أشخاص في تصادم 3 سيارات فوق كوبري المندرة بأسيوط    عاجل.. رمضان صبحي يفجر مفاجأة عن عودته إلى منتخب مصر    أبرزها الاغتسال والتطيب.. سنن مستحبة يوم الجمعة (تعرف عليها)    أمريكا تستعد للإعلان عن عقود أسلحة بقيمة 6 مليارات دولار لأوكرانيا    بشرى سارة للموظفين.. عدد أيام إجازة شم النسيم بعد قرار ترحيل موعد عيد العمال رسميًا    "أكسيوس": مباحثات سرية بين مصر والاحتلال لمناقشة خطة غزو رفح    ليلى زاهر: جالي تهديدات بسبب دوري في «أعلى نسبة مشاهدة» (فيديو)    «زي النهارده».. استقالة الشيخ محمد الأحمدي الظواهري من مشيخة الأزهر 26 أبريل 1935    نقابة محاميين شمال أسيوط تدين مقتل اثنين من أبنائها    يونيو المقبل.. 21364 دارسًا يؤدون اختبارات نهاية المستوى برواق العلوم الشرعية والعربية بالجامع الأزهر    رمضان صبحي يحسم الجدل بشأن تقديم اعتذار ل الأهلي    الزراعة: منافذ الوزارة تطرح السلع بأسعار أقل من السوق 30%    أحمد كشك: اشتغلت 12 سنة في المسرح قبل شهرتي دراميا    عاجل - محمد موسى يهاجم "الموسيقيين" بسبب بيكا وشاكوش (فيديو)    "حزب الله" يعلن ضرب قافلة إسرائيلية في كمين مركب    ذكري تحرير سيناء..برلماني : بطولات سطرها شهدائنا وإعمار بإرادة المصريين    عيار 21 يسجل هذا الرقم.. أسعار الذهب اليوم الجمعة 26 أبريل بالصاغة بعد آخر انخفاض    مواقيت الصلاة بالتوقيت الصيفي .. في القاهرة والإسكندرية وباقي محافظات مصر    عاجل - تطورات جديدة في بلاغ اتهام بيكا وشاكوش بالتحريض على الفسق والفجور (فيديو)    أنغام تبدأ حفل عيد تحرير سيناء بأغنية «بلدي التاريخ»    هل العمل في بيع مستحضرات التجميل والميك آب حرام؟.. الإفتاء تحسم الجدل    القومي للأجور: قرار الحد الأدنى سيطبق على 95% من المنشآت في مصر    رضا عبدالعال: إخفاء الكرات بمباراة القمة كان في صالح الأهلي    فيديو جراف| 42 عامًا على تحرير سيناء.. ملحمة العبور والتنمية على أرض الفيروز    قيادي بفتح: عدد شهداء العدوان على غزة يتراوح بين 50 إلى 60 ألفا    المحكمة العليا الأمريكية قد تمدد تعليق محاكمة ترامب    استشاري: رش المخدرات بالكتامين يتلف خلايا المخ والأعصاب    الأقصر.. ضبط عاطل هارب من تنفيذ 35 سنة سجنًا في 19 قضية تبديد    حكايات..«جوناثان» أقدم سلحفاة في العالم وسر فقدانها حاستي الشم والنظر    السعودية توجه نداء عاجلا للراغبين في أداء فريضة الحج.. ماذا قالت؟    أنغام باحتفالية مجلس القبائل: كل سنة وأحنا احرار بفضل القيادة العظيمة الرئيس السيسى    «اللهم بشرى تشبه الغيث وسعادة تملأ القلب».. أفضل دعاء يوم الجمعة    عاجل - "التنمية المحلية" تعلن موعد البت في طلبات التصالح على مخالفات البناء    رئيس الشيوخ العربية: السيسي نجح في تغيير جذري لسيناء بالتنمية الشاملة وانتهاء العزلة    مواطنون: التأمين الصحي حقق «طفرة».. الجراحات أسرع والخدمات فندقية    يقتل طفلًا كل دقيقتين.. «الصحة» تُحذر من مرض خطير    قبل تطبيق التوقيت الصيفي، وزارة الصحة تنصح بتجنب شرب المنبهات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإخوان المسلمون.. وجمال عبد الناصر.. والحكم
نشر في الأسبوع أونلاين يوم 07 - 08 - 2012

عندما نجح الضباط الأحرار في الاستيلاء علي السلطة في مصر ليلة 23 يوليو 1952 كانت جماعة 'الإخوان المسلمون' قد فقدت مؤسسها حسن البنا الذي اغتالته حكومة إبراهيم عبد الهادي في 21 فبراير 1949 وهويخرج من جمعية الشبان المسلمين ردا علي اغتيال الجماعة لرئيس الحكومة محمود فهمي النقراشي في 28 ديسمبر 1948 بعد عشرين يوما من قرار النقراشي بإغلاق المقر العام للجماعة بالحلمية '8 ديسمبر 1948'. وكانت الجماعة قد تجاوزت مرحلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلي ضرورة الاستيلاء علي الحكم لإقامة الحكومة الإسلامية بمقتضي اللائحة التي أصدرها حسن البنا في 6 مايو 1948 ونصت فيما نصت علي 'قيام الدولة الصالحة التي تنفذ أحكام الإسلام وتعاليمه عمليا وتحرسها في الداخل وتبلغها في الخارج 'فقرة' و 'من المادة الثانية''.
وهذا الهدف لا يمكن تحقيقه إلا بإقامة حكومة إسلامية أو أن تستولي الجماعة علي السلطة وتقيم هذه الحكومة بنفسها.
وفي تلك الأثناء كان جمال عبد الناصر يؤسس 'تنظيم الضباط الأحرار' ويتحرك بين مختلف القوي السياسية خاصة الحركة الشيوعية ومصر الفتاة وجماعة الإخوان المسلمين.. وأصبح يعرف مبادئهم وأهدافهم.
لكن المصادر اختلفت في توضيح حقيقة هذا الاتصال بالإخوان وطبيعته وتراوحت بين أن عبد الناصر كان عضوا أصيلا في الجماعة، أو أنه كان علي علاقة عابرة لم تدم طويلا، أو أن علاقته بالجماعة كانت استكشافية لمعرفة طبيعتها ومدي امكانية العمل معها أو من خلالها.
وفي هذا الخصوص يذكر حسن العشماوي أحد أقطاب الجماعة أن الضباط الأحرار بدءوا أصلا باعتبارهم إحدي مجموعات الإخوان المسلمين 'شعبة' في الجيش بايعت حسن البنا تحت رئاسة الضابط الإخواني الصاغ محمود لبيب لكنها انفصلت عام 1948 حين تمكن عبد الناصر من إقناع رئيسه محمود لبيب بانفصالها واستقلالها بكثير من أمورها.
وتلك رواية ضعيفة لأنه في عام 1948 كان عبد الناصر في ميدان القتال في فلسطين ولم يعد إلي مصر إلا بعد عقد هدنة رودس في فبراير 1949.
وتذكر مصادر أخري أنه بعد وفاة محمود لبيب في 18 ديسمبر 1951 اتصل ناصر بصلاح شادي وهو ضابط إخواني في البوليس ليعيد ارتباطه بالجماعة.
ويمكن فهم هذا الاتصال في إطار حرص عبد الناصر علي تأمين تنظيم الضباط الأحرار إزاء جماعة الإخوان وهي جماعة لها شعبيتها العريضة. ورواية أخري تقول إن عبد المنعم عبد الرءوف الضابط الإخواني هو الذي ضم جمال عبد الناصر إلي الجماعة وأن عبد الناصر في مطلع الأربعينيات قام بتدريب الإخوان المسلمين علي استعمال السلاح ببلدة 'الرقة الشرقية' مركز الصف في إطار بناء فريق الجوالة والتنظيم الخاص '1942'.
علي أن تعدد الروايات بشأن حقيقة انتماء عبد الناصر لجماعة الإخوان المسلمين وعدم إجماعها علي أمر واحد يؤكد صعوبة الأخذ بأحدها ويبقي كل منها في دائرة الممكن والمحتمل.
أما عبد الناصر نفسه فلم ينكر اتصاله بالجماعة فقد ذكر لمجلة المصور في أكتوبر 1952 قصة لقائه بمحمود لبيب في صيف 1944 في جزيرة الشاي بحديقة الحيوان بالجيزة وكيف أنه تأثر به وبتفكيره في التنظيم.
وفي خطبة له في 18 فبراير 1965.. قال: قبل الثورة كنت علي صلة بكل الحركات السياسية الموجودة في البلد.. يعني مثلا كنت أعرف الشيخ حسن البنا لكن ماكنتش عضو في الإخوان.. فيه فرق بين أن أعرف الشيخ حسن البنا وأن أكون عضو في الإخوان.. ابتدينا نتصل في الجيش بكل الحركات السياسية لكن ماكناش أبدا في يوم من الأيام أعضاء في الإخوان المسلمين.. كأعضاء أبدا.. ولكن الإخوان المسلمين حاولوا يستغلونا فكانت اللجنة التأسيسية للضباط موجودة.. وفي ذلك الوقت كان معانا عبد المنعم عبد الرءوف وجه يوم ووضع اقتراح.. قال إننا يجب أن نضم حركة الضباط الأحرار إلي الإخوان المسلمين.. أنا سألته ليه. قال: دي حركة قوية إذا انقبض علي حد منا تستطيع هذه الحركة أن تصرف علي أولاده وتؤمن مستقبله.. وحصل اختلاف كبير صمم عبد المنعم عبد الرءوف علي ضم الضباط الأحرار إلي الإخوان.. واحنا كلنا رفضنا'.
وهذا الحديث يؤكد أن عبد الناصر كان علي صلة بالإخوان المسلمين وهي صلة لم ينكرها، لكنها لم تكن صلة تنظيمية، وكانت في إطار المناورة ولعبة الذكاء بين فريقين كل منهما لديه مشروع سياسي يناقض الآخر مما يفسر الصدام الذي وقع بين الطرفين.
ويبدو من المؤكد أن عبد الناصر افترق عن جماعة الإخوان المسلمين في سنة 1945 وأنه أخذ معه الضباط الذين كان قد اختبر وعيهم واستعدادهم منذ لقاءات معسكر منقباد شمال أسيوط '1938' وما بعدها بعيدا عن الإخوان لينشئ بهم تنظيما مستقلا من وراء ظهر محمود لبيب دون أن يعلن ذلك، إذ قال في خطاب له 'إن عام 1945 بالنسبة لي كان أكثر من مجرد انتهاء الحرب 'العالمية الثانية' فقد شهد هذا العام بداية حركة الضباط الأحرار.
وتم افتراقه عن الجماعة أو انعزاله عنها دون صدام. وبعد أن اكتملت أركان التنظيم جدد اتصالاته بالجماعة عن طريق صلاح شادي الذي خلف محمود لبيب بعد وفاته ليكون علي مقربة من تحركاتهم حتي لا تفسد الجماعة إعداده هو للاستيلاء علي الحكم، وكأنه يضمن حيادهم أو عدم عدوانهم بشكل من الأشكال.
وعندما وقع حريق القاهرة في 26 يناير 1952 واشتدت قبضة السلطة لجأ عبد الناصر إلي الجماعة واستعان بأفراد منها في نقل الأسلحة والذخائر الموجودة في مدرسة الأسلحة الصغيرة عهدة مجدي حسنين أحد الضباط الأحرار خوفا من التفتيش في أعقاب الحريق.
وبعد الحريق تعددت اجتماعات عبد الناصر بالجماعة وكان يمثلها كل من صلاح شادي، وعبد القادر حلمي، وحسن العشماوي، وصالح أبو رقيق، وفريد عبد الخالق أحيانا.
وفي أحد هذه الاجتماعات قال ناصر للمجتمعين: 'إن أهداف تنظيم الضباط الأحرار تتلخص في إصلاح نظام الحكم السياسي بإرساء قواعده علي أساس حكم نيابي سليم، وتطهير الجيش وأجهزة الدولة من عملاء الملك وعناصر الفساد، وكذا القيام بإصلاح اجتماعي اقتصادي شامل'.
وقال الإخوان ردا علي كلام ناصر: إن مبادئ الإسلام هي الأساس الوحيد الصالح لحكم مصر ولعلاج الخلل السياسي والاقتصادي والاجتماعي.. ولم يشأ ناصر أن يصطدم بهم حتي لا يستعديهم عليه فأخذ يناورهم فأعلن تمسكه بالإسلام أساسا للتغيير المنشود، وأن هدفه الإسلام في النهاية، وأكد لهم أن من المصلحة عدم المجاهرة بذلك في بادئ الأمر بل ينبغي أن تؤخذ الأمور بالتدريج حتي لا يقوم أعداء الإسلام بمحاربة الحركة وهي في أولي خطواتها.
وبعد قيام الملك فاروق بحل مجلس إدارة نادي الضباط في 17 يوليو 1952 التقي عبد الناصر بالجماعة في اليوم التالي '18 يوليو' في منزل عبد القادر حلمي في الحادية عشرة مساء وحضر اللقاء كمال الدين حسين وعبد الحكيم عامر ومن الإخوان حسن العشماوي وصالح أبو رقيق.
وفي هذا الاجتماع قال ناصر: إن أسماء قيادات الضباط الأحرار أصبحت معروفة للبوليس السياسي ونظرا لذلك فإنه قرر الإسراع بالتحرك خلال عشرة أيام وإن الأمر يقتضي أن يتعاون الإخوان معه. وطلب منهم رأي المرشد العام 'المستشار حسن الهضيبي' وكان بالإسكندرية.. فقالوا له سيكون الرد جاهزا خلال 48 ساعة أي في يوم 20 يوليو.
وفي الموعد المحدد التقي ناصر بصلاح شادي ولم يكن وفد الإخوان الذي ذهب للإسكندرية لمعرفة رأي المرشد العام قد عاد بعد فتأجل اللقاء إلي اليوم التالي '21 يوليو'.. وعرف عبد الناصر رأي المرشد الذي يتلخص في أن تكون مشاركة الإخوان في قيام الحركة مشاركة كاملة، والمشاركة في المسؤولية والتعاون بعد النجاح، وتطبيق الشريعة الإسلامية.
ولم يشأ عبد الناصر الدخول في مناقشة حول هذه التفاصيل وتوزيع المسؤوليات واستمر في طريق المناورة ضمانا لحركته وفور سماعه رأي المرشد انتحي بصلاح شادي جانبا وأشهدا الله علي عهدهما القديم بقراءة الفاتحة.
وبناء علي هذا التفاهم واطمئنان كل فريق للآخر قام جمال عبد الناصر وكمال الدين حسين بإبلاغ كل من حسن العشماوي وصالح أبو رقيق 'عضوي مكتب الارشاد' بموعد تحرك الضباط الأحرار.
وفي صباح 23 يوليو نفسه انتشرت كتائب الإخوان علي طول طريق السويس - القاهرة لتتصدي للقوات البريطانية إذا ما تحركت ضد الثورة، وقام الإخوان بحراسة المنشآت العامة والسفارات وأماكن العبادة. وتم استدعاء حسن العشماوي الي مقر قيادة الثورة في كوبري القبة وطلب منه أن يتصل بالمرشد العام في الإسكندرية لإصدار بيان بتأييد الثورة لكن المرشد لم يفعل شيئا وظل بالإسكندرية.
ولم يحضر المرشد العام إلي القاهرة إلا بعد أن غادر الملك فاروق البلاد في 26 يوليو ومن الواضح أنه آثر التريث حتي ينجلي الموقف تماما من حيث تمام سيطرة الضباط علي الحكم. وأصدر بيانا مقتضبا بتأييد حركة الجيش طلب بعده أن يقابل أحد رجال الثورة فقابله عبد الناصر في منزل صالح أبو رقيق صباح يوم 30 يوليو.
وفي اللقاء طالب المرشد بتطبيق أحكام القرآن، فقال ناصر: إن الثورة قامت حربا علي الظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي وهي بذلك ليست إلا تطبيقا لتعاليم القرآن، فانتقل المرشد الي مشروع الاصلاح الزراعي وكان مطروحا للمناقشة في الصحف وقال إن رأيه أن يكون الحد الأقصي للملكية الزراعية 500 فدان فقال عبد الناصر إن مجلس قيادة الثورة مصمم علي 200 فدانٍ كحد أقصي. وهنا انتقل المرشد لنقطة أخري يبدو أنها بيت القصيد من اللقاء إذ اشترط لتأييد الثورة أن يعرض الضباط علي الجماعة أي قرار قبل أن يصدر لمناقشته في مكتب الإرشاد، فقال عبد الناصر إن الثورة قامت دون وصاية ولا تقبل بحال أن توضع تحت وصاية أحد.
كان هذا اللقاء بداية تجمع السحب السوداء في أفق العلاقة بين الطرفين، فقد خرج المرشد من اللقاء باقتناع بأنه لا يمكن اعتبار حركة الضباط حركة إسلامية تسير علي الخط الذي يبتغيه الإخوان، وأنه يمكن اعتبارها في أحسن الأحوال حركة إصلاحية يبتغي القائمون بها الانفراد بالعمل وأنه يجب أن يكون تعامل الإخوان معهم قائما علي هذا الفهم.
ورغم هذا الانطباع الذي خرج به المرشد العام حسن الهضيبي فإنه ومن باب المناورة وعدم قطع الأمل في الاستفادة من حركة الجيش أصدر بيانا في أول أغسطس 1952 عن فرحة الجماعة بنجاح الحركة المباركة التي قام بها الضباط الأحرار'.. فلقد وفق الله جيش مصر العظيم لهذه الحركة المباركة وفتح بجهاده أبواب الأمل في بعث هذه الأمة وإحياء مجدها التليد وأزال عقبة كانت تصد عن سبيل الله والحق وحقوق المصلحين'. كما تضمن البيان ضرورة إلغاء دستور 1923 ووضع دستور جديد يستمد مبادئه من مبادئ الإسلام الرشيدة في كافة شؤون الحياة.
وكان مثل هذا البيان رغم الحوار الذي دار بين عبد الناصر والمرشد العام محاولة من الجماعة لإحراج الضباط الأحرار برفع شعار الإسلام في تقرير الأمور السياسية مما زاد من تجمع سحب الخلاف في أفق العلاقة بين الطرفين. وأكثر من هذا أن سيد قطب وصم حركة الضباط الأحرار بأنها حركة ديكتاتورية يمكن أن تكون عادلة نظيفة، إذ طالب في جريدة المصري يوم 8 أغسطس بإقامة دكتاتورية عادلة نظيفة وقصر الحرية السياسية علي الشرفاء فقط وحرمان الملوثين.. وأن الشعب الذي احتمل ديكتاتورية طاغية باغية شريرة مريضة عليمدي خمسة عشر عاما أو تزيد 'يعني حكم الملك فاروق' يستطيع احتمال ديكتاتورية عادلة نظيفة ستة أشهر. وليس من شك في أن مثل هذا المقال أسهم في إشعال نار التوجس والريبة من نية الجماعة تجاه حركة الجيش ولم يمض علي قيامها إلا خمسة عشر يوما.
وفي اليوم التالي لهذا المقال '9 أغسطس' أعلن المرشد العام بأن الإخوان لم يعلموا بحركة الجيش إلا عند ظهورها، وأن برنامج الإخوان هو قيام حكومة إسلامية تحكم بكتاب الله وأنهم يريدون مجلسا نيابيا واحدا من 150 عضوا.
وهكذا وضحت معالم الشقاق والنفور وبداية افتراق الجماعة.. وليس هذا فقط بل إن الجماعة بهذا البيان كانت تسعي لعزل جماهير الشعب المصري عن حركة الجيش عندما يقال لهم إن الإخوان لم يعلموا بالثورة إلا عند قيامها وكأنهم يعتذرون عن تأييدهم السابق للثورة في بيان أول أغسطس الذي سبقت الإشارة إليه.. ثم كيف يطالبون بإلغاء دستور 1923 في بيان التأييد ثم يريدون إقامة مجلس نواب من 150 عضوا..؟!.
وفي الوقت نفسه كانت الجماعة في الشارع تُفهم الناس أن ثورة الضباط ثورتهم.
ورغم هذا كان عبد الناصر حريصا علي أن يُبقي علي حبل المودة والصداقة معهم ولم يشأ أن يجهر بالخلاف وأن يعلن علي الملأ ما يقومون به وكان هذا أمرا يسيرا وذلك لسبب بسيط وجوهري وهو أنه كان يعلم مدي شعبية الإخوان بين المصريين.. ولهذا عندما تقرر أن يؤلف محمد نجيب الوزارة في 7 سبتمبر 1952 بعد استقالة علي ماهر لعدم موافقته علي الاصلاح الزراعي قرر جمال عبد الناصر إشراك الاخوان المسلمين في الوزارة بثلاثة أعضاء. واتصل ناصر بحسن عشماوي وفي اللقاء الذي تم بينهما صباح 8 سبتمبر بمبني إدارة الجيش أخبره ناصر بقرار مجلس قيادة الثورة علي أن يكون هو واحدا من الوزراء الثلاثة. غير أن الجماعة اختلفت فيما بينها حول أسماء الإخوان الذين ينبغي تقديمهم وترددت بين: احمد حسني وكيل وزارة العدل ومحمد كمال الديب محافظ الاسكندرية 'ترشيح المرشد شخصيا'، ومنير الدلة، وحسن العشماوي 'ترشيح مكتب الارشاد'. غير أن مجلس قيادة الثورة وبتوجيه من عبد الناصر اختار الشيخ احمد حسن الباقوري فأقدم المرشد العام علي فصله من الجماعة فازدادت النار تحت الرماد.
وبعد هذا الموقف المحرج للإخوان أعلنوا أنهم يرفضون الاشتراك في وزارة محمد نجيب لأن المشاركة من شأنها تقوية الضباط وإضعاف الجماعة، وستمنح الضباط صكا إسلاميا ولونا إخوانيا يستطيعون استخدامه في التأثير علي جماهير المصريين المسلمين.. وأن اشتراك الإخوان بثلاثة وزراء فقط سوف يجعل القرار النهائي في يد الضباط ويتحمل الإخوان في النهاية تبعات الحكم.
بعد فشل استوزار الإخوان المسلمين في حكومة محمد نجيب علي ذلك النحو صدرت تعليمات المرشد العام لجميع 'شعب' الإخوان بأن موقف الجماعة من الحكم من الآن فصاعدا سيكون سلبيا، بل لقد طالب فريق داخل الجماعة برأس جمال عبد الناصر وضباط مجلس قيادة الثورة وهدم النظام من أساسه. ودأب المرشد علي إعطاء تصريحات للصحف يهاجم فيها الثورة وأصدر أوامره شفاهة إلي 'شعب' الإخوان بأن يظهروا في المناسبات التي يظهر فيها جمال عبد الناصر ويهتفون هتافهم المأثور 'الله أكبر ولله الحمد' كنوع من التحدي الظاهر.
وعندما صدر قانون تنظيم الأحزاب السياسية 'رقم 176 لسنة 1952' في 9 سبتمبر في نفس يوم صدور قانون الإصلاح الزراعي انقسمت الجماعة بشأنه، ذلك أن القانون وضع الجمعيات ذات الأغراض الدينية أو العلمية أو الاجتماعية أو الثقافية أمام الاختيار بين أن تقوم بإخطار وزارة الداخلية بشأن تكوينها كحزب سياسي، أو أن تستمر جمعية بعيدة عن النشاط السياسي. وبينما كان المرشد العام يرفض فكرة تقديم إخطار للداخلية يعيد به الجماعة لتصبح حزبا سياسيا، كان معظم أعضاء مكتب الإرشاد مصممين علي ضرورة إعلان الجماعة حزبا سياسيا.
وبعد كثير من الجدل والخلاف استقر الرأي علي حل وسط يقوم علي التفرقة بين النشاط الديني للجماعة الذي يتولاه فريق، والنشاط السياسي الذي يتولاه فريق آخر علي أن يتقدم الفريق السياسي بإخطار الداخلية لتكوين الحزب. وبالفعل قام المرشد العام بإيداع أموال الجماعة بالبنك العربي المصري تطبيقا لنص قانون تنظيم الأحزاب.
وهنا وقع الإشكال.. فالأموال المودعة بالبنك أموال الجماعة كلها مما يعني حرمان فريق النشاط الديني من التمويل، وأيضا حرمان عدد كبير من القيادات من النشاط الحزبي لأن قانون تنظيم الأحزاب حظر علي الموظفين الاشتغال بالحزبية وهؤلاء القادة موظفون في الدولة وأبرزهم صالح ابو رقيق الموظف بجامعة الدول العربية، ومنير أمين الدلة المستشار المساعد بمجلس الدولة فتم التراجع عن الفكرة وعادت أمور الجماعة إلي ما كانت عليه.
وقبل أن يشمر الإخوان عن ساعدهم ضد الثورة للخروج من هذا المأزق بادر جمال عبد الناصر في 11 أكتوبر 1952 بالإفراج عن قتلة المستشار احمد الخازندار وعن المحكوم عليهم في قضية قنابل مدرسة الخديوية، وفي قضية قنابل الإسكندرية وذلك من باب عدم استعداء الإخوان والإبقاء علي العلاقات الفاترة معهم.
وبعد أن هدأت الأحوال نسبيا عقد مكتب الإرشاد يوم 7 نوفمبر '1952' اجتماعا لم يحضره المرشد العام فانتهز المتحمسون لإعلان الجماعة حزبا فرصة غيابه وقرروا تقديم إخطار إعادة تكوين الجماعة حزبا سياسيا وتم إرسال الإخطار للداخلية في اليوم التالي '8 نوفمبر'.. فلما علم المرشد العام بهذا الإجراء تقدم باستقالته من الجماعة ثم رجع عنها بصعوبة بالغة بناء علي مناقشة مع عبد القادر عودة في الإسكندرية.
ولما ألغيت الأحزاب السياسية في 17 يناير 1953 تم استثناء جماعة الاخوان المسلمين علي اعتبار أنها ليست حزبا سياسيا بالمعني الاصطلاحي. وهذا الاستثناء يؤكد أن ناصر كان لا يزال حريصا علي عدم إثارة الإخوان ضده لأنه يدرك مدي شعبيتهم في البلاد.وفي اليوم التالي '18 يناير 1953' التقي به صلاح شادي ومنير الدلة وقالا له: إن علاقتنا يلزمها أن تكون أكثر توثقا إذا أردت منا عدم السلبية أو عدم المعارضة فيما تصدره من قوانين لأنه ليس من الإنصاف أن تطالبنا بتأييدك علي طول الخط في أمور صدرت بها قوانين لا نعلم عنها شيئا. ثم قالا له: الآن وبعد حل الأحزاب لم يبق من يؤيد الثورة إلا هيئة الإخوان ولهذا فمن المفروض تكوين لجنة من الإخوان تعرض عليها القوانين قبل صدورها للموافقة عليها. فكرر ناصر عليهما ما سبق أن قاله للمرشد العام من أنه لا يقبل وصاية أحد.
ولم تيأس الجماعة فنراها تتقدم لوزارة الداخلية بطلب لإعادة تكوينها حزبا سياسيا فرفض الطلب لأنه لم يكن يستقيم مع قرار إلغاء الأحزاب السياسية.
ولأن عبد الناصر كان لا يزال يحافظ علي 'شعرة معاوية' بينه وبين الجماعة وتجنبا لإثارتهم بسبب رفض تسجيلهم كحزب سياسي بادر بالذهاب إلي قبر حسن البنا في الذكري الرابعة لاغتياله '12 فبراير 1953' ومعه محمد نجيب ومعظم رجال الحكم.. وأمام ضريح المرشد قال ناصر: إنني لأجد منهاجي وسيرتي تكملة لمنهاج وسيرة هذا الرجل. فلم يكن أمام الجماعة والحال كذلك إلا الإعجاب بما قال، وكأنه أراد أن يفوت عليهم الفرصة وتلك كانت مناورة بارعة من عبد الناصر ومن ثم بقيت النار تحت الرماد.
فلما علم المرشد العام بنية الثورة في تكوين هيئة التحرير لملء الفراغ السياسي الناجم عن حل الأحزاب حاول إثناء جمال عبد الناصر عن اتخاذ هذه الخطوة قائلا له: إن الجماعة كفيلة بملء الفراغ. فقال جمال إن في البلاد من لا يرغب في الانضمام للجماعة، وهي إشارة غير مباشرة الي المسيحيين.. فبدأ المرشد في محاربة التنظيم السياسي الجديد 'هيئة التحرير' لأن إنشاءها كان يعد تحديا واضحا لشعبية الجماعة مع أن ناصر استعان بسيد قطب في تنظيم الهيئة ووضع برامجها. ويبدو واضحا أن عبد الناصر كان يريد استيعاب الإخوان في هيئة التحرير لوضعهم تحت رقابته.
وعند هذا المنعطف من الأحداث كانت فكرة التفاوض مع الإنجليز قد بدأت تفرض نفسها وتقرر أن تبدأ في أبريل '1953'.. وفي تلك الأثناء سعت السفارة البريطانية لاستقطاب عناصر معادية للوضع الجديد في مصر لإثارة القلاقل أمام المفاوض المصري حتي تضطرب الأمور فيتخذها الإنجليز حجة لإيقاف التفاوض.
ولم تجد السفارة إلا الإخوان المسلمين صيدا ثمينا يحقق الغرض وتم الاتصال بهم بواسطة الدكتور محمد سالم الموظف بشركة النقل والهندسة الذي اتصل بصالح أبو رقيق في فبراير 1953 وأبلغه برغبة السفارة البريطانية في عقد لقاء بين بعض المسئولين بالجماعة وبين تريفورز إيفانز مستشار شئون الشرق الأوسط بالسفارة بهدف استطلاع رأيهم فيما يرتضونه لنجاح مفاوضات الجلاء المزمع إجراؤها مع حكومة الثورة. وعلي هذا تمت المقابلة في منزل محمد سالم وبحضور منير الدلة وصالح أبو رقيق. وفي ذلك اللقاء قال الإخوان: إن عودة الإنجليز إلي القاعدة العسكرية في منطقة قناة السويس تكون بناء علي رأي لجنة مشتركة من المصريين والإنجليز وأن الذي يقرر خطر الحرب هي هيئة الأمم المتحدة.
وفي مايو 1953 تأكد ناصر من حدوث هذا الاتصال في بيت محمد سالم وما دار فيه من خلال حديثه مع حسن العشماوي، فلما تقابل ناصر مع المرشد العام للجماعة أظهر له استياءه من هذا الاتصال والتحدث مع الإنجليز في شأن التفاوض. وفي أوائل يونية '1953' بدأ الاخوان خطة لتشكيل تنظيم سري اخواني بين ضباط الجيش والبوليس.
واستجاب لهم بعض ضباط الجيش وأخذوا يجتمعون بهم بشأن الإعداد لحكم الإخوان والدعوة إلي ضم أكبر عدد من الضباط للعمل تحت إمرة الإخوان، وأخذوا عليهم عهدا وقسما أن يطيعوا أوامر المرشد التي يصدرها. كما استجاب لهم بعض ضباط البوليس وعملوا علي إثارتهم ضد ضباط الجيش 'أصحاب الثورة' حيث أوحوا لهم أنهم أحق بالحكم من ضباط الجيش بدعوي أنهم علي اتصال بالجماهير أكثر من ضباط الجيش. كما سعت الجماعة لتجنيد أكبر عدد من ضباط الصف لإثارتهم ضد الضباط رؤسائهم بدعوي أن ضباط الصف هم القوة الفعلية وليس الضباط، أي محاولة دق إسفين بين قيادات ضباط الجيش والبوليس وبين ضباط الصف ورؤسائهم مما يسهل للإخوان السيطرة علي الموقف.
وأمام هذه المعلومات التي تجمعت لدي عبد الناصر التقي بحسن العشماوي باعتباره ممثلا للمرشد العام وقال له: لقد آمنا لكم ولكن هذه الحوادث تظهر أنكم تدبرون أمرا سيجني علي مصير البلاد ولن يستفيد منه إلا المستعمر.. وإنني أنذر أننا لن نقف مكتوفي الأيدي أمام هذه التصرفات التي يجب أن توقف إيقافا كاملا.. ويجب أن يعلم الإخوان أن الثورة إنما أبقت عليهم بعد أن حلت جميع الأحزاب لاعتقادها أن في بقائهم مصلحة وطنية.. فإذا ما ظهر أن في بقائهم ما يعرض البلاد للخطر فإننا لن نتردد في اتخاذ ما تمليه مصلحة البلاد مهما كانت النتائج'. فوعد حسن العشماوي أن يتصل بالمرشد في هذا الأمر لكنه خرج ولم يعد.
وفي اليوم التالي استدعي جمال عبد الناصر الصيدلي خميس حميدة نائب المرشد العام والشيخ سيد سابق وأبلغهما ما قاله لحسن العشماوي في اليوم السابق فأظهرا الاستياء الشديد وقالا إنهما لا يعلمان شيئا عن هذا النشاط الضار. كما اتصل عبد الناصر بالمرشد العام نفسه معاتبا لعله يدرك ان نشاطه تحت المراقبة، لكن المرشد لم يتراجع.
ولم يفعل عبد الناصر أكثر من التحذير ولم يكن من الممكن أن يقوم بأكثر من هذا، ذلك أن المفاوضات مع الإنجليز قائمة ولا يريد أن يمنح الإنجليز فرصة إذا ما قام بإجراء عنيف ضد الإخوان آنذاك، لكن الظروف واتته لاختراق الجماعة واستثمرها جيدا. والحاصل أن المرشد العام أراد أن يطيح بالجهاز الخاص 'السري' الذي كان حسن البنا قد شكله ورأسه عبد الرحمن السندي ليقوم بتشكيل تنظيمه الخاص طلبا للولاء والطاعة. ولتحقيق تلك الخطوة استقطب المرشد إلي جانبه عددا من التنظيم الخاص لإيقاع الفرقة بين صفوفه، فحدث الانقسام فعلا وأخذ مظهر الشغب، إذا قام فريق من الجهاز المراد حله واحتلوا مبني المركز العام. وبعد منتصف الليل حضر إلي منزل عبد الناصر الشيخ محمد فرغلي 'واعظ بالإسماعيلية' وسعيد رمضان 'زوج ابنة حسن البنا' وطلبا من عبد الناصر التدخل ضد الفريق المناوئ للمرشد.. وطلب فرغلي شخصيا من عبد الناصر أن يتوسط بنفسه وأن يجمعه مع صالح عشماوي فحدد ناصر له الساعة العاشرة في الصباح. ولما كانت هناك صعوبة للاتصال بصالح عشماوي لحضور المقابلة في الموعد المضروب لضيق الوقت فلم تتم إلا في الساعة الثانية عشرة ظهرا وبحضور الشيخ سيد سابق.
وبعد العتاب المتبادل تم الاتفاق علي تشكيل لجنة يوافق عليها صالح عشماوي للبحث فيما نسب للإخوان الأربعة الذين فصلهم المرشد بتاريخ 23 نوفمبر 1953 علي ألا يعتبروا مفصولين ولكن تحت التحقيق، وأولئك الأربعة هم: عبد الرحمن السندي، واحمد زكي، واحمد عادل كمال، ومحمود الصباغ. وفي هذه الوساطة وقف عبد الناصر إلي جانب عبد الرحمن السندي رئيس الجهاز الخاص وصالح عشماوي لأن هذا الفريق كان من أنصار التعاون مع ناصر وليس الخروج عليه. ولم تتعرض الوساطة للمفصولين الآخرين وعددهم 60 عضوا أبرزهم محمد الغزالي، والسيد سابق، ويوسف القرضاوي. وبعد انتهاء المقابلة عاد سيد سابق للمركز العام للإخوان وأخبر الجماعة بأن عبد الناصر يؤيد الإنقلاب علي حسن الهضيبي، كما ذهب سعيد رمضان إلي صلاح سالم وزير الإرشاد وطلب منه عدم نشر أحداث المركز العام في الصحف والإذاعة لكن ناصر سمح بالنشر.
وفي ديسمبر 1953 تصاعد الخلاف بين عبد الناصر ومحمد نجيب الذي بدأ منذ مطلع يناير 1953 حول إدارة الأمور بعد إلغاء الأحزاب السياسية، وهو خلاف بدأ صامتا دون مواجهة مباشرة. ولما ازدادت حدة التوتر بينهما أوحي اليوزباشي محمد رياض، ياور محمد نجيب 'قائد حرسه الخاص' وقد أصبح رئيسا للجمهورية ان يتصل بالاخوان المسلمين للتخلص من ناصر.
والتقي محمد رياض مع حسن العشماوي ومنير الدلة عدة مرات في ديسمبر 1953، ولخص الاخوان طلباتهم له وتتمثل في تشكيل وزارة يرضي عنها الاخوان. لكن نجيب لم يكن يملك القوة التي تمكنه من تنفيذ هذه الشروط حتي ولو كانت علي هواه.
وجاء عام 1954 ليشهد تطورا مريرا في مواقف الإخوان تجاه جمال عبد الناصر ففي 12 يناير 1954 احتفل طلاب جامعتي القاهرة والاسكندرية بذكري استشهاد المنيسي وشاهين في التل الكبير علي يد الإنجليز وهما من أبطال الحركة الفدائية في مدن قناة السويس. وقد نظم الاجتماع كل من عبد الحكيم عابدين وحسن دوح المحامي ومحمود ابو شلوع ومصطفي البساطي من الطلاب الإخوان، واتفقوا علي ألا يظهر صوت إلا صوتهم وضموا إليهم بعض الطلبة الشيوعيين للعمل المشترك في هذا اليوم.
وكانت السلطات قد دفعت بعدد من تلاميذ المدارس الثانوية للجامعة للمشاركة في الاحتفال بيوم الشهداء ومعهم ميكروفون محمول علي عربة، فانزعج الإخوان منظمو الحفل وطلبوا إخراج ميكروفون تلاميذ المدارس حتي ينفردوا بالسيطرة علي الميكروفون. غير أن تلاميذ المدارس لم ينسحبوا مع الميكروفون بل لقد أخذوا يردون علي هتافات الجماعة 'الله أكبر ولله الحمد' بهتاف 'الله أكبر والعزة لمصر'.. فما كان من الطلاب الإخوان إلا أن ضربوا تلاميذ المدارس بالكرابيج والعصي وقلبوا عربة الميكرفون وأحرقوها وأصيب البعض إصابات خفيفة.
ومما يلفت النظر في أحداث ذلك اليوم '12 يناير' أن حسن العشماوي قابل كريزويل الوزير المفوض بالسفارة البريطانية يوم الأحد 10 يناير بمنزله في بولاق الدكرور الساعة السابعة صباحا ثم عاد لزيارته في اليوم نفسه من الساعة الرابعة عصرا إلي الحادية عشرة مساء. ولا بد أن موضوع اللقاء كان بمناسبة يوم 12 يناير والغرض البعيد هو إثارة الفوضي والقلق لإضعاف موقف جمال عبد الناصر في التفاوض مع الإنجليز.
وعند ذلك الموقف تراخت شعرة معاوية بين عبد الناصر والإخوان بعد أن ظلت مشدودة سنة ونصف السنة فقرر حل الجماعة بعد ذلك بيومين '14 يناير'. ونكاية في المرشد العام أبقي ناصر علي 'مجلة الدعوة' الإخوانية لأنها تعارض المرشد العام، فأعلن المرشد أن المجلة لا تعبر عن الجماعة. واشترط عبد الناصر لكي تعود الجماعة إلي نشاطها أن تبتعد عن النشاط السياسي وأن توقف نشاطها داخل صفوف الجيش والبوليس، وحل تنظيم الجهاز الخاص 'السري'.
وهنا لجأ الإخوان إلي محمد نجيب لالغاء القرار فلم يستطع شيئا بل لقد اضطر للتوقيع علي قرار الحل باعتباره رئيسا للجمهورية. وبادر جمال عبد الناصر في خطوة محسوبة ومناورة بارعة بزيارة قبر حسن البنا ومعه صلاح سالم والشيخ الباقوري بمناسبة الذكري الخامسة لاستشهاد البنا '12 فبراير 1954' مثلما فعل في العام السابق '1953'.
وبهذا الموقف أصبح صراع إخوان المرشد حسن الهضيبي مع عبد الناصر واضحا وصريحا حيث أخذوا يتربصون به. وسرعان ما جاءتهم الفرصة عندما انفجر الخلاف بين ناصر ونجيب عندما أصدر مجلس قيادة الثورة بيانا في 25 فبراير 1954 بقبول استقالة اللواء محمد نجيب من جميع الوظائف التي يشغلها 'رئاسة الجمهورية، ورئاسة الوزارة، ومجلس قيادة الثورة' وكان قد قدمها في 22 فبراير.
وبينما كان البيان الرسمي بقبول الاستقالة يؤكد أن سبب الخلاف يرجع الي رغبة نجيب في الانفراد بالسلطة، كانت أحاديث الصالونات التي انتقلت الي الشارع تقول إن نجيب يطالب بترك الحكم لرجال السياسة وعودة الحياة النيابية، فاصبح نجيب رمزا للديمقراطية وناصر رمزا للدكتاتورية!!، وشاع بين جمهرة المثقفين أن أزمة مارس 1954 هي أزمة الديموقراطية مع أنها كانت أزمة الصراع علي السلطة.
ومع أن طرفي الأزمة الرئيسيين هما محمد نجيب وجمال عبد الناصر وأنصار كل منهما، إلا أن الإخوان المسلمين دخلوا علي المشهد فأصبحوا قاسما مشتركا بينهما، إذ أراد كل طرف من الطرفين أن يستخدم الجماعة لصالحه في المعركة. أما الجماعة نفسها فقد أرادت أن تلعب بالاثنين حتي يصفي كل منهما الآخر وتخلص لها الساحة للحكم.
وسرعان ما احتوي عبد الناصر الأزمة مع نجيب ذلك أن الظروف لم تكن تسمح بخلاف مهما كانت درجته أو نوعه بسبب المفاوضات مع الإنجليز التي كانت لا تزال قائمة ولم تحسم بعد والانجليز ينتظرون مثل هذه الخلافات كما سبقت الإشارة. وفي مساء 27 فبراير صدر بيان برجوع نجيب عن استقالته وعودته إلي الرئاسة، وفي صباح اليوم التالي '28 فبراير 1954' انطلقت مظاهرات تزعمها الإخوان المسلمون من جامعة القاهرة الي قصر عابدين يحمل أصحابها أسلحة نارية وتردد هتافات عدائية ضد الثورة، وكان أحد المتظاهرين يطلق النار عشوائيا في الشوارع، وركب ومعه آخر عربة جيب عليها ميكروفون يردد هتافات مهيجة ويوزع منشورات تطالب بإسقاط الحكم. ووصل المتظاهرون إلي ساحة قصر عابدين يهتفون باسم محمد نجيب فخرج إلي الشرفة المطلة علي ساحة الميدان، فازدادت هتافاتهم باسمه وطالبوه أن ينصرهم ويرفع عنهم الشروط المجحفة التي اشترطها مجلس قيادة الثورة 'عبد الناصر' مقابل عودتهم للنشاط. ولما لمح محمد نجيب وجود عبد القادر عودة علي رأس المتظاهرين استدعاه إلي الشرفة بجواره لتهدئة المتظاهرين الذين توقفوا عن الهتاف بإشارة من يده. فما كان من عبد الناصر باعتباره رئيسا لمجلس الوزراء إلا أن اعتقل عبد القادر عودة مساء اليوم نفسه ومعه 45 عضوا من الإخوان.
وعندما ذهب نجيب في أول مارس الي السودان للمشاركة في افتتاح البرلمان السوداني قام عبد الناصر باعتقال كل الذين اشتركوا في مظاهرات عابدين 'بلغ عددهم 118 منهم 46 من الاخوان يليهم 21 من جماعة أحمد حسين 'الحزب الاشتراكي'، وخمسة من الوفد وأربعة من الشيوعيين، و 2من الأفراد العاديين'. وعندما عاد نجيب من السودان غضب من قيام ناصر بحملة الاعتقالات وطلب ان يتولي رئاسة الوزارة مرة أخري فاضطر ناصر للموافقة وعاد نائبا لرئيس الوزراء.
وفي يوم 25 مارس تم الإفراج عن الذين تم اعتقالهم في مظاهرات عابدين في 12 يناير وكان أول المفرج عنهم حسن الهضيبي المرشد العام للاخوان الذي زار عبد الناصر في نفس اليوم وقال له عبد الناصر مضمون قرارات 28 فبراير بشأن التصالح مع محمد نجيب من حيث إعادة الأحزاب السياسية، فانزعج المرشد العام وأصدر بيانا في 27 مارس يعلن أن الجماعة لن تطالب بتأليف حزب سياسي ولكن فيما يتعلق بعودة الأحزاب 'فان أملنا ألا يعود الفساد أدراجه مرة أخري فإننا لن نسكت علي هذا'. وبهذا ضمن عبد الناصر وقوف الإخوان إلي جانبه في الأزمة وتحرك بسرعة وقام بابعاد الضباط الذين أظهروا تعاطفا مع إعادة الأحزاب، وزار حسن الهضيبي واتفق معه علي عودة الجماعة لنشاطها. وفي تلك المقابلة طلب الهضيبي من عبد الناصر أن يصدر قرارا بتعميم ارتداء الحجاب، فقال له ناصر متعجبا: إن ذلك سيجعله مدعاة للسخرية وأن الناس سيتندرون عليه ويقولون لقد عاد الحاكم بأمر لله.
وفي يوم 29 مارس تقرر تشكيل مجلس وطني يراعي فيه التمثيل النسبي لفئات الشعب وطوائفه، فأعلن الهضيبي رفض جماعة الإخوان عودة الحياة النيابية بصورتها القديمة واشترط لعودتها أن تكون حياة نيابية نظيفة محوطة بالضمانات التي تجنبها مساوئ الماضي.
وعندما تشكلت معسكرات لتدريب الشباب في جميع مدن مصر 'مارس 1954' وكل معسكر تحت قيادة أحد الضباط ولمدة ثلاثة أسابيع، صدرت تعليمات المرشد لجميع شباب الإخوان بالانتظام في هذه المعسكرات باعتبارها فرصة ذهبية لتدريب أكبر عدد منهم تحت سمع وبصر الحكومة.
وبعد مرور شهر علي انتهاء أزمة مارس لصالح عبد الناصر عاد الإخوان إلي مواقفهم السابقة ففي الرابع من مايو '1954' أرسل المرشد العام رسالة إلي عبد الناصر تذكره بالحديث الذي دار بينهما في 25 مارس وطالبه بعودة الحياة النيابية وإلغاء الإجراءات الاستثنائية والأحكام العرفية وإطلاق الحريات. ولم يكن الوقت يسمح بمطالبات من هذا النوع أبدا ليس لأن عبد الناصر كان ضدها كما يحلو لخصومه قول ذلك ولكن لأن المفاوضات مع الإنجليز كانت لا تزال قائمة ويتطلب الأمر عدم فتح جبهات يستثمرها الإنجليز في فرض شروطهم.
ومن عجب أن المرشد لم ينتظر رد عبد الناصر علي رسالته كما تقضي الأصول، بل لقد تم توزيع هذا الخطاب علي شكل منشورات فلم يأبه ناصر. وهكذا عاد الإخوان إلي سلاح المنشورات وخاصة عندما اشتدت الرقابة علي جريدة 'الدعوة' الخاصة بالجهاز الخاص 'السري' والتي كان عبد الناصر قد أبقي عليها بعد حل الجماعة في 14 يناير '1954' في مناورة منه لشق صفوف الجماعة. غير أن تنظيم الجهاز الخاص 'السري' بادر بإصدار مجلة سرية بعنوان 'الإخوان في المعركة' رأس تحريرها 'سيد قطب' أيضا وكانت مهمتها نشر ما تعترض الرقابة علي نشره في مجلة 'الدعوة'.
ولما ضاق الحال بالمرشد العام قرر السفر إلي المملكة العربية السعودية وأبلغ عبد الناصر بأنه سوف يبقي بالسعودية مدة شهرين وأن عليه أن يفعل ما يمكن لتوفير جو التفاهم مع الجماعة، ولما دعا عبد الناصر المرشد لمقابلته عشية سفره لم يستجب المرشد.فما كان من عبد الناصر إلا أن أوفد صلاح سالم إلي السعودية في مهمة رسمية لكنها كانت لمراقبة اتصالات المرشد هناك.
وانقضي الأمر دون أزمة حتي إذا ما تم توقيع اتفاقية الجلاء مع الإنجليز بالأحرف الأولي في 27 يولية 1954 هاجمها الإخوان المسلمون مثلما هاجمتها الفصائل الشيوعية وقدامي السياسيين. وفي ذلك قال الاخوان إن 'الضباط' خانوا القضية الوطنية، ونشر المرشد نقدا لاذعا للاتفاقية في جريدة 'المنار' التي تصدر في دمشق. وفي الثاني من أغسطس أرسل محمد خميس حميدة وكيل الجماعة خطابا إلي عبد الناصر عنيف اللهجة في شأن نقد الاتفاقية، وتحول الخطاب إلي منشور يتداوله الناس ضمن منشورات أخري اتهمت عبد الناصر بأنه 'فرش بيته بمفروشات القصور الملكية المصادرة.. '. وهكذا تدنت لغة الجماعة في الخصومة عندما فقدت الحجج المادية أو العقلية لانتقاد عبد الناصر.
وقد يكون من المفيد في هذا الخصوص الإشارة إلي قول حسن الهضيبي المرشد العام والمشتق من أقوال حسن البنا ولائحة الجماعة: 'إن الجماعة تنظر إلي العالم الإسلامي ككل، ولها أن تحدد أولويات الجهاد، فقد يكون الجهاد في الجزائر أهم من الجهاد في منطقة القناة'.
وخلال المدة من 5 - 17 أغسطس '1954' سافر عبد الناصر لآداء فريضة الحج وحضور مؤتمر قادة الدول الإسلامية للرد علي سياسة الأحلاف الغربية التي تريد الولايات المتحدة الأمريكية فرضها علي المنطقة العربية في إطار الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي حيث تقرر إعلان منظمة دول المؤتمر الإسلامي في 7 أغسطس. ومع هذا لم تنقطع حملة المنشورات الإخوانية بل لقد اتصلت الجماعة بمنظمات اليسار الشيوعي القائمة بدعوي توحيد الصفوف.
وفي اللقاء الأسبوعي للجماعة كل ثلاثاء 'يوم 24 أغسطس 1954' شرح المرشد العام للإخوان موقفه من اتفاقية الجلاء فهتف أحد الحاضرين 'الموت للخونة'. وبعد ذلك بثلاثة أيام وفي 27 أغسطس وبعد صلاة الجمعة بمسجد شريف بالروضة ألقي حسن دوح خطابا في جمهور المصلين حرضهم فيه علي مناوأة الثورة، ودعا إلي العنف، وخرج من المسجد إلي الشارع في جمع من إخوانه وتتبعهم البوليس ووقع الاشتباك وحدث مثله في طنطا. وهنا تحركت أجهزة أمن الدولة واعتقلت الإخوان بالجملة وكذا خطباء المساجد الذين هاجموا الاتفاقية.
ومع نهاية أغسطس 1954 تمحور الخلاف بين الإخوان وعبد الناصر حول نقطتين رئيستين: الأولي تتلخص في استمرار بقاء العسكريين من الإخوان الذين اعتقلوا في أوائل مارس 1954 داخل السجون وفي مقدمتهم رؤساء الجهاز السري بالجيش: ابو المكارم عبد الحي، وعبد المنعم عبد الرءوف، وحسين حمودة، ومعروف الحضري. والثانية أن عبد الناصر 'يماطل' في إصدار بيان يشرح فيه حقيقة ما حدث والأسباب التي أدت إلي حل الجماعة.
وكان عبد الناصر قد عقد العزم علي محاكمة الضباط الإخوان المعتقلين الذين اشتركوا في اضطرابات مارس '1954' وعدم إعادتهم للجيش حتي ولو تمت تبرئتهم مما نسب إليهم، لأن إعادتهم للجيش معناها عودة النشاط السري للإخوان في الجيش بطريقة أو بأخري. وأسرع عبد الناصر بتقديم عبد المنعم عبد الرءوف للمحاكمة، وكان قد فصله من تنظيم الضباط الأحرار في مطلع 1952 لأنه كان يعمل علي تجنيد ضباط الجيش للجماعة وليس للضباط الأحرار. وأصدرت المحكمة حكمها بسجنه لكنه استطاع الهرب ولعب دورا في إعادة تشكيل الجهاز السري للجماعة.
واستمرت الملاحقة والمتابعة ففي 23 سبتمبر 1954 أعلن مجلس قيادة الثورة تجريد ستة من المصريين من جنسيتهم لقيامهم بأعمال استهدفت تشويه سمعة البلاد في الخارج وكان معظمهم من الإخوان في مقدمتهم عبد الحكيم عابدين، وسعيد رمضان، وكامل إسماعيل الشريف، وسعد الدين الوليلي، ومن خارج الجماعة احمد أبو الفتح صاحب جريدة المصري الذي غادر مصر، وكانوا يعملون سويا مع ابو الفتح من سوريا.
وعلي هذا وفي أواخر سبتمبر وأوائل أكتوبر '1954' أصبح عبد الناصر لدي الإخوان 'الخائن المرتد.. الناقض للبيعة.. ويطبق نظاما لا إسلاميا'.
ولم يكن عبد الناصر بعيدا عما يجري بين ظهراني الجماعة ولهذا تحركت أجهزة أمن الدولة ضد أعضاء الجماعة، وخلال أربعة أيام من 23 - 26 أكتوبر شنت حملة صحفية ضد الجماعة كأشخاص ومبادئ ونظام خصوصا أن عبد الناصر كان ينوي إلقاء خطاب في الإسكندرية مساء يوم 26 أكتوبر احتفالا بالتصديق علي اتفاقية الجلاء، وكان المرشد العام قد غادر القاهرة إلي الإسكندرية يوم 13 سبتمبر.
ثم ذهب عبد الناصر إلي الإسكندرية مساء يوم 26 اكتوبر للاحتفال بالتصديق علي اتفاقية الجلاء، وفي ميدان المنشية وأمام حشد جماهيري وأثناء إلقاء خطابه وفي الساعة السابعة وخمس وخمسين دقيقة انطلقت عدة رصاصات عليه 'تراوحت الأقوال بين ثماني رصاصات وست وتسع' بمعرفة محمود عبد اللطيف 'سباك من إمبابة' وعضو في الجهاز الخاص 'السري' للجماعة ورئيسه في المجموعة هندواي دوير 'محامي من امبابة وأصلا من المنيا' هو الذي حرضه علي إطلاق الرصاص. ولما ألقي القبض علي الجاني فور إطلاقه الرصاص أسرع هنداوي بتسليم نفسه للبوليس في اليوم التالي '27 أكتوبر' بعد أن أرسل زوجته وأولاده إلي المنيا.
وبعد يومين وفي 29 أكتوبر أقام عمال مصر في هيئة التحرير اجتماعا جماهيريا في ميدان الجمهورية 'عابدين' احتفالا بنجاة عبد الناصر.
وفي هذا الخطاب قال مشيرا إلي الإخوان المسلمين: إنه إذا كان هذا التسامح والتآلف.. وإذا كنا قد مددنا إليهم أيدينا للتعاون فيمدون إلينا أيديهم بالخيانة والغدر، فإن التسامح والثورة البيضاء لن تكون في مصلحة مصر ولكن ضدها.. ولئن خيرت بين ثورة عرجاء وثورة حمراء ما اخترت أبدا ثورة عرجاء.. ولكن ثورة حمراء.. '.
وكانت تلك الكلمات نهاية المطاف في علاقة قامت علي المحاورة والمناورة طويلا وآن لها أن تنتهي بقطع شعرة معاوية إذ لم يعد هناك ما يمنع ناصر من اتخاذ إجراءات شديدة وعنيفة تجاه الإخوان المسلمين بعد أن تم التصديق علي اتفاقية الجلاء، ففي 30 اكتوبر تم اعتقال المرشد العام في الإسكندرية وفي 14 نوفمبر أعلن ناصر إعفاء محمد نجيب من رئاسة الجمهورية.
واشتدت حملة الاعتقالات هنا وهناك وحتي يوم 27 نوفمبر تم اعتقال 70% من أعضاء الجهاز السري للإخوان البالغ عدده 700 عضو وتم تقديمهم للمحاكمة سريعا. وفي 9 ديسمبر '1954' نفذ حكم الإعدام في ستة منهم. وبعد أن تم الإفراج عن بعض الإخوان في نهاية عام 1956 بعد انتهاء العدوان الثلاثي، وفي 1958 بعد قيام الوحدة بين مصر وسوريا، واصل بعضهم النشاط لإعادة تجميع الإخوان. وهكذا وفي عام 1962 كان التنظيم قد استعاد قوته بقيادة كل من: علي عشماوي، وأمين محمود شاهين، واحمد عبد المجيد عبد السميع، وتكونت مجموعة أخري بقيادة عبد الفتاح إسماعيل.. وقد طلب المرشد العام حسن الهضيبي اندماج التنظيمين وترتيب كيفية اغتيال عبد الناصر عن طريق تفجير موكبه حيثما يذهب.
لكن عبد الناصر لم يغفل عن الجماعة ولم يطمئن علي استقرار الأمور في يده بعد أن ترك الإخوان المسلمون ساحة النشاط لأنه يعلم مدي عمق تأثيرهم في نفوس عامة المصريين..
فلما صدر قانون تطوير الأزهر في عام 1961 وتكون المجلس الأعلي للشئون الإسلامية بديلا عن هيئة كبار العلماء ليكون مسئولا عن الخطاب الديني، ضم إليه كثيرا من الذين انشقوا علي جماعة الإخوان بعد حادثة المنشية، وبعض رجال الأزهر الذين هاجموا الجماعة ووصفوا أعضاءها بأنهم 'اخوان الشياطين'.
وآنذاك لم تكن مؤامرات القوي الخارجية لإسقاط عبد الناصر قد انقطعت بمشاركة الإخوان المسلمين ففي أثناء الإعداد للعدوان الثلاثي وضعت بريطانيا خطة للإطاحة بناصر رسمها جوليان آمري رجل المخابرات الذي اتصل بسعيد رمضان وبعدد من الوفديين تقوم علي الإتيان بمحمد نجيب للحكم مرة أخري علي أن يصبح الدكتور محمد صلاح الدين وزير خارجية الوفد '1950 - 1952' رئيسا للوزارة، لكن لم تتم.. واتصل التنظيم في شكله الجديد بسيد قطب وكان قد خرج من السجن 'إفراج صحي' في 1964 وأعدوا عدتهم للقيام بانقلاب ضد عبد الناصر واشترك في الترتيب سعيد رمضان 'زوج ابنة حسن البنا' الذي كان يقيم في جنيف فلما اكتشفت السلطات المؤامرة أسرعت باعتقالهم وعلي رأسهم سيد قطب في التاسع من أغسطس 1965.
وباعتقال قيادات الإخوان للمرة الثانية علي ذلك النحو انطوت صفحة هذه الجماعة من كتاب الحياة السياسية في مصر ولم تقم لهم قائمة في حياة عبد الناصر إلي أن أفرج عنهم الرئيس السادات في 1972 وأعاد لهم نشاطهم. ولقد جاء ذلك الإفراج امتثالا لطلب الحكومة الأمريكية التي سربته للسادات عبر قنوات مخابراتية مع طرد الخبراء السوفييت من الجيش المصري إذا أراد السادات من أمريكا أن تتدخل لحل الصراع مع إسرائيل خاصة بعد أن أعلن السادات أن 99% من أوراق حل هذا الصراع في يد الحكومة الأمريكية. وهذه الصفحة التي بدأها السادات ظلت تكبر وتتضخم وما أن انفجرت ثورة 25 يناير 2011 حتي استثمرها الإخوان لصالحهم كما بدا من ظاهر الأحداث التي مرت بمصر بعد 11 فبراير 2011.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.