سلامُ عليكَ، وسلام لكَ، وسلام من حولكَ، وإن كانت جسور عبورك في شقوق هذه الأيام الصعبة، مشحونة بالمخاطر، مملوءة بمن يتربصون بك، من سفكة الدماء، وباعة الأوهام، وقطّاع الطرق. '1' سلام عليك في يقظتك الموحشة وأنت تواجه جيوش الفتن، وأفواه الأكاذيب، وأقنعة الخديعة، بينما تحمل علي ظهرك جبالًا من الصخور، وسلام عليك في رقدتك الليلة الخشنة، وأنت تغالب كوابيس الهزيع الأخير من الليل، بينما ترفرف في جنبيك أجنحة عصافير الأمل. سلام عليك أيها الصابر الصامد المُحتسب، وأنت منبع البطولة، ومجري الفداء، ومصب الكبرياء. أيها الواضح كرغيف الخبز، النقيّ كقطر الندي، المحدّد كحدّ السيف، الثابت نحو هدفه كالرصاصة.. يا صانع الرجال ومفجّر الثورات، وباعث الآمال، ومبدد الظلمات، يضيق صدري ولا ينطلق لساني، فلا أجد هاديا إلا نجومك المتوهجة في سماوات تاريخك العالية، ويهتزّ قلبي، ويرتجّ يقيني فلا أجد مُنجيًا إلا بأن أجلس بين يديك، لتعيد علي مسامعي، دروس عبقريتك في مغالبة الزمن، وهزيمة المحن، ورد الجحود والإنكار، بالإصرار والصمود والحكمة. '2' أيها المعلم دومًا، كيف يتوهمون أنهم قادرون علي أن يخادعوك، وأنت خادعهم، وكيف يتصورون أنهم قادرون علي أن يسجنوك في زنازين أوهامهم التي استوردوها من خارج حدودك، وأنت تحملهم قوارب من الورق المقوّي في مياه بحرك الهادئ، الذي يصبح عاصفة حين تريد، ونارًا مؤصدة حين تشاء، وكيف يحلمون بأن يكسروا إرادتك، وهي شامخة مرفوعة الرأس، لا يقاربها صلابةً وشموخًا، إلا مسلاّت الجرانيت التي ابتدعها أجدادك، تعبيرًا ملاصقًا للكرامة الوطنية، وكأنها تسند برؤوسها السماء، من أن تميد علي الأرض، أو كأنها أحد تجلّيات الروح التي تتوسّد الأرض، وتعرج حرّة في السماوات. وكيف يتوهمون وأنت صانع التاريخ أن يغيّروا تاريخك، وأنت صانع المعجزات، أن يحولوك من مُعجز إلي عاجز، يروعونك بالقتل والحديد والنار، متوهمين أن الخوف يمكن أن يتسلل إلي قلبك، وأن الجبن يمكن أن يخترق مسام جلدك، ولا تسريب عليهم فهم الخائفون من بأسك، الجبناء عن مواجهتك، ولذلك يخوضون حربهم بمنطق الجبن والخوف والخسّة، وهو منطق غادر، لا يتسلل إلا تحت جنح الظلام، ولا يعمل إلا خلسة، ولا يستخدم إلا أسلحة تنم عن مرض في القلب، وضعة في النفس، وموت للضمير، وكُفر بيّن بكل ما هو إنساني، ونكوص فاجر عن شرائع السماء قبل قوانين الأرض. أيها المعلم دومًا، الموصول بقلب الحقيقة، المضيء في ساعات العتمة، المشرق في جوف الظلمات، القوي في لحظات الضعف، الشديد الغني في براثن الفقر، الكبرياء النبيل في أوج الانكسار، لقد تكسّرت النصال علي النصال، ولا تزال ضاحك الثغر، وضّاح الجبين. '3' سلام عليكَ، وسلام لكَ، وسلام من حولك، سلام علي الدم الزكّي التي تسفكه تلك الأيدي النجسة الجبانة، والتي تقول عن نفسها إنها أيدٍ متوضئة، إلا لو كانت قد توضأت بماء الشيطان واغتسلت في بحر الجنون. سلام علي أشجع الرجال الذين يتتابعون كالكواكب في مواكب الشهداء، تدبّ فيهم الحياة، وتستريح عظامهم وتتدفأ أجسادهم عندما تتدثرّ بقماش العلم. سلام علي الذين باعوا أرواحهم لوطنهم فداء وتضحية وهم يصّدون عنه غربان الخراب والدمار والموت، وهم يدفعون قطعان الظلام بعيدا عن الأمهات والبنات والأطفال، وبعيدا عن الحقل والمصنع والمدرسة. '4' سلام عليكَ، وسلام لكَ، وسلام من حولك، ولا سلام لأؤلئك الذين ارتضوا أن يكونوا سكاكين الأجنبي الطامع في ذبح شرايينك، وأن يكونوا جسور الأجنبي المغامر في طعن إرادتك، وأن يكونوا مجرد أدوات مستأجرة لسبيّ مصر، وتحويلها من أُمْة إلي أَمَة. الذين يزعمون زورًا وبهتانًا أن الجهاد في سبيل الله طريقه الواضح هو سفك دماء الأبرياء، وترويع الآمنين، وأن الله يريد من عباده الصالحين، تخريب الأرض لا عمارتها، وزرع القنابل والمتفجرات لا السنابل والورد، وبثّ الرعب والفزع في قلوب الناس، لا الطمأنينة والسكينة والسلام. هؤلاء الذين اشتروا بدينهم رضا أعداء أوطانهم وأعداء الإسلام معا، الذين انخلعوا من جذورهم فأصبحوا أكوامًا من القشّ، تحركها رياح البغي والسلطة والبغضاء، هؤلاء لا سلام عليهم، ولا سلام لهم، ولا سلام معهم. '5' سلام عليك، وسلام لك، وسلام من حولك، ولا سلام لأؤلئك الذين يسعون إلي ان يقطعوا كتلتك الوطنية المتماسكة بالمناشير، أولئك الذين يشيعون فيها كل هذا القدر والنوع والصنف من ثنائيات التقسيم، ويضعوها فوق لوحة كلوحة الشطرنج، مربعات متتالية بالطول والعرض، وقطاعات متعددة متواجهة بالهوية والجيل والهدف، مع أن صخرة وحدتك الوطنية ظلت ملاذك في مواجهة كل زلزلة، وسندك في كل عاصفة غاشمة، وقاعدة صمودك وانتصارك في كل معركة، وأحسب أنها ستظل كما ظلت عبر مسارات آلاف السنين، لا تأخذ منها عاديات الزمن، ولا تفصمها متغيرات الوقت، ولا تشقها أحماض الإذابة. '6' سلام عليكَ وسلام لكَ وسلام من حولك، ولا سلام لأؤلئك الضالين الذين يحاولون أن يشيعوا في فضائك صنوفًا مستوردة من بضاعة التجزئة والتقسيم، فبينما صوّروا الصراع في ساحتك وملعبك في مرحلة سابقة، انكشف قلبها المحتقن، علي أنه صراع بين مصر الإسلامية ومصر المدنية، هاهم ينقلونه بالكذب والبهتان أيضًا، إلي صورة مستوردة أخري، علي أنه صراع بين مصر العسكرية، وبين مصر المدنية، وأنت تعرف بالوجدان قبل العقل، أن هذا الصراع المستورد بصورتيه ليس إلا عارضا من عوارض هذا الزمن، وليس إلا لحنًا ناشزًا في معزوفة الروح المصرية، وليس إلا ميدانًا مصطنعًا لمعركة وهمية، هي جزء من مسرح الإيهام الواسع الذي حشدت له كل القوي، كي يتمدد في ساحتك للتغطية علي الميدان الحقيقي للمواجهة، وعلي الأسباب الحقيقية التي تضافرت من الداخل والخارج لإعاقتك عن أداء دورك ورسالتك، فضلًا عن تحويل ذاتك إلي كائن معاق. فكما ظل الدين يتنفس في كرات دمك، وظل الإسلام ناطقا في قيمك وسلوكك، ظلت المدنية قاعدة ثابتة في أصول دولتك، وكما لم يقم تناقض في تاريخك بين مصر الإسلامية، ومصر المدنية، كانت مصر العسكرية هي الدرع الواقية، وحائط الصد الصلب، للحفاظ علي مصر المدنية ومصر الإسلامية معًا، ولذلك فهذا التناقض المصطنع الجديد، ليس إلا محاولة لتمزيق درعك، وتفتيت حائط صدّك، واستباحة كيانك، فمعركة وطنك الحقيقية ليست من أجل الدين، لأنه يشع نورا من ضميرك، ولا من أجل المدنية لأنك أول من أنتجها وعاشها وتمثلها في العالمين، ولكن معركة وطنك الحقيقية في استخلاص إرادته، وإعادة بناء توازناته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتصفية أسباب الاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي، علي قاعدة من التوافق الوطني، الذي يطرد خصومه خارج صفوفه، فمصر المتوافقة علي هذا الأساس، هي مصر الإسلامية، وهي مصر المدنية، وهي مصر العسكرية، ومصر المتفرقة، لن تكون إسلامية قلبًا، ولا مدنية عقلًا، ولا عسكرية بدنًا. '7' السلام عليكَ، والسلام لكَ، والسلام من حولك، ولا سلام علي أؤلئك الذين يمدّون أيديهم في الظلام، ليصافحوا يد الإرهاب وهي تقطر من دمك، ليحصدوا منافع عاجلة في دوائر المال والسلطة. لا سلامَ علي أؤلئك الذين يريدون أن يعبّدوا ممر صعودهم إلي مواقع النفوذ فوق جماجم شهدائك، بتحالفات خفيّة مع أعدائك في الداخل والخارج، يشكّلون بها حلفًا واسعًا من كل المغامرين والطامعين والمرتزقة وشذاذ الآفاق، فقد أينعت شهوة السلطة، في عقولهم المريضة، وقلوبهم المرتجفة، ليصبحوا بعد ذلك أرجوحة تهزّها نفس الأيدي المخضبة بالدماء، فهكذا يحشون بأيديهم بنادق القتلة، وهكذا يخبئون في ثيابهم وكلماتهم قنابلهم ومتفجراتهم، وهكذا يعطون حضورهم مددا، وبقاءهم سندًا، وتأثيرهم الإجرامي مدي، وهكذا يمنحونهم قبلة الحياة في لحظات الاحتضار، وأنت تدرك بالبصيرة قبل البصر، وبالغريزة قبل العقل، أن هؤلاء الذين يتحالفون مع القتلة والمغامرين والآفاقين ليستمدوا منهم العون في الصعود علي سلام السلطة، هم ألد أعداء الثورة، وإن أدعوا أنهم أصحاب رسالتها، وأن لفّوا علي صدورهم راياتها، وان جمَّلوا وجوههم بما تبقي من ألوانها ومساحيقها. '8' السلام عليكَ، والسلام لكّ، والسلام من حولك، ولا سلام علي هؤلاء المتقاعسين القاعدين، الواقفين بين الخطوط الفاصلة بين معسكر الثورة والثورة المضادة، والذين يفتحون الحدود بين المعسكرين، لتختلط الخنادق والوجوه والأهداف، فأنت أيها الشعب العظيم، لم تهدم نظامًا متداعيًا ليكون غاية فعل الثورة وقصده وجهده وعرقه ودمه، أن يعيد ترميم أسقفه التي انهارت، وأركانه التي تهدّمت، وقواعده التي تآكلت، فإذا كانت الثورة مجرد عملية تاريخية لترميم أوضاع سابقة خرج الناس بالملايين عليها، فإنها لا تحتاج إلي ثوري، ولا إلي قائد، وإنما إلي مقاول، وإذا كان هدف الثورة بتضحياتها النبيلة وأمواجها الشعبية الهائلة، هو مجرد تحسين أوضاع لم تعد قابلة للبقاء أو الاحتمال، فإن الثورة في حد ذاتها تصبح فصلا في كتاب عبث الأقدار، لأنه إذا لم تكن عوائد الناس قدر الطاقة والبذل والجهد والتضحية، فمعني ذلك أن مخزون الطاقة والبذل والجهد والتضحية، الذي مُنع من أن يترجم نفسه إلي فعل للتغيير، سوف يظل وفق قوانين الطبيعة، ينتظر لحظة مفعمة باليأس، ليعبر عن نفسه بالقوة الجبرية، وساعتها لن يكون التعبير، فعلا عاقلا للتغيير والبناء، وإنما فعل غضوب للهدم والدماء. '9' السلام عليكَ، والسلام لكَ، والسلام من حولك، ولا سلام علي هؤلاء الذين يملئون أفواههم بالكلمات التي تتنزّل عليهم من صنابير مال أجنبي ملوث. لا سلام علي هؤلاء الذين حوّلوا العمل الأهلي من عمل تطوعيّ خالص، إلي عمل مستأجر، وحوّلوا أنفسهم إلي عين للمموّل الأجنبي لا تري غير ما يراه، والي فم له، لا ينطق بغير ما يريده، الذين لا يرون في حقوق الإنسان إلا حقوق القتلة والمأجورين وتجار الدم، ويغمضون أعينهم وأفواههم جهارًا نهارًا عن حقوق الذين يتربص بهم رصاص الغدر، والذين ترديهم قنابل الغدر، ويحولون عيونهم عن برك الدم الشهيد من أبطال الجيش والشرطة الذين يتصدون لإرهاب أسود لا عقل في رأسه، ولا قلب في صدره، ولا وطن في ضميره، وهم يحملون شمس الوطن فوق رؤوسهم خشية أن تغيب، ويرفعون سماءه فوق أكتافهم حتي لا تميد. السلام عليهم ولهم، ولا سلام علي أؤلئك الذين يخلطون الصور، ويزوّرون المشاهد، ويقلبون الحقائق من أجل مال ملوث، مضمّخ بالدم. '10' السلام عليكَ، والسلام لكَ، والسلام من حولك، ولا سلام علي هؤلاء الذين يملئون أقلامهم حبرًا أجنبيا، ويملئون قلوبهم نبضا أجنبيًا، وتتحرك عقولهم بذبذبات كهرومغناطيسية تأتيهم من وراء الحدود والبحار، ولا سلام علي هؤلاء الذين يطردون ذكور النحل من خلايا الوطن، ليفتحوا الباب أمام أنصاف المواقف، وأنصاف العقول، من التابعين المصفّقين المهادنين. لا سلام علي الجبناء ولا علي المتخاذلين، ولا علي الذين لا يزالون منقادين إلي فهم ضيق الأفق بأن سياسة الملاينة والمصالحة هي الحل والمخرج، وان استرضاء الغرب وطمأنته هي السبيل. لا سلام علي ذلك المنهج الذرائعي الذي يرفع شعار خذ من كل بستان زهرة، لأن بساتين الدم والفقر، أصبحت أكثر طولًا وعرضًا وعمقًا من بساتين الزهور، ولأن الزهور التي تم جمعها من حقول الرماد، ليست زهور حية، ولكنها زهور من البلاستيك. '11' ولو أنَ الحياةَ تبقي لحيَّ لعددنا أضلّنا الشجعانا وإذا لم يكن من الموتِ بُدّ فمن العارِ أن تعيشَ جبانا 'أبو الطيب المتنبي'