عندما قال شكسبير: ما الدنيا إلا مسرح كبير.. صدقناه.. وعندما كررها علي مسامعنا يوسف بك وهبي في الأربعينيات.. ضحكنا علي الأداء بعد أن تاه منا المعني.. أما الآن ونحن نستعيدها ونذكر الجمهور بها، فتصيبنا المرارة.. أولاً لافتقادنا الرؤية الفنية العميقة لدنيانا التي أصابتها التشققات والصراعات والانفلاتات من كل نوع وصنف، بعد أن ضربتها الأصولية والمتاجرون بالدين في مقتل مستهدفين وأد العقل، واعتقاله في مغارة سحيقة ومعتمة! ثم ثانيًا: افتقادنا المسارح والفنون الجادة والحقيقية، والتي جرفت علي مدار عقول مضت، لأنها السلاح الحقيقي والفعال للتصدي لهؤلاء التكفريين.. لأنها تبغي إشاعة التفكير العلمي السليم، والتنوير، وإعمال العقل الذي يحض علي العدل والعمل والإنتاج. بعد أن كفر هؤلاء المتاجرون بالدين الفنون والثقافة.. لم يتبق علي السطح سوي الهزيل والخطابي، والرثاثة، والغثاثة، وبالتالي كنا أقرب ما نكون إلي مشاهدة أنواع مختلفة من خيال الظل لملء الفراغ الذي لا تعترف به المجتمعات الإنسانية.. ولعله من هنا أيضًا جاءت المفاجأة المدهشة لعشاق فن المسرح والفرجة الحقيقية متجسدًا في مسرحية 'المحاكمة' التي أراها الابن الشرعي لثورتي 25 يناير و30 يونية.. أو بمعني أدق الثمرة الناضجة لهاتين الثورتين.. والتي أعدها وأخرجها الفنان الشاب المبدع 'طارق الدويري' برؤية خلاقة قد تضارع كبار المخرجين المخضرمين في تاريخ المسرح المصري ولا أقول حاضره الذي صار يعاني التصحر والخواء!! وإذا كان هناك من رسالة أولي تقرأ.. فهي رسالة الشباب.. شباب المسرح الموهوبين الذين تحسبهم كمًا مهملاً.. لكن 'الدويري' القابض علي الجمر، وبكفاحه وجلده، ومعاونة 'خالد الذهبي' مدير المسرح القومي.. استطاع أن يقهر اليأس ويتجاوز البيروقراطية ويقدم عملاً مسرحيًا رائعًا يؤرخ لثورة حقيقية في الرؤية الجمالية في المسرح، كما أنه يدافع عن مبادئ ثورتي يناير ويونية. إن 'المحاكمة' تحاكم أصحاب الشعارات الرنانة، والحناجر مدفوعة الأجر، والدعوات الظلامية والتكفيرية، بل تكشف حلف التخلف القائم في قلب مجتمعنا، والذي تغافلنا عنه طويلاً بفعل حكم مستبد، وحكومات فاسدة، وبعد أن تبين لنا عمق المشهد، وأن فصيلاً من الشباب رهن قبضته التكفيرية. وهذا الفصيل جزء من مجتمعنا.. فتحدد السؤال كيفية المواجهة، نعم للقبضة الأمنية بلا تجاوز.. علي أن يقترن بها ويعززها وربما تهذبها المعالجات الفكرية والفنية والمجتمعية.. وها هي مسرحية 'المحاكمة' تؤكد هذا البعد وهي مأخوذة عن مسرحية 'ميراث الريح' للأمريكيين 'جيروم لورانس' و'روبرت لي'، بعد الإعداد الذي قام به 'الدويري'، الذي وضع في اعتباره محاكمة ما هو قائم بالفعل، كان مقدرًا للمسرحية أن تعرض أيام المعزول منذ سنة ونصف السنة تقريبًا فأي جسارة لهذا الفنان الذي أصر علي أن يقول 'للغولة عينك حمراء'! إن ذكاء الإعداد جعلنا نقف علي الخصائص العامة للدولة الدينية، ثم الخصائص الدقيقة لجماعة الإخوان.. بحيث بدا لنا في النهاية أنهما متطابقان في الملامح والأفكار والغايات، وهم قبل أن يشيعوا الخرافة والخزعبلات، فهم يشيعون الكذب حول المواطن أو 'المعلم' ويلفقون له تهم التكفير.. وهو الذي يعمل عقله ويطالب بالأخونة بل المجتمع ككل بإطلاق سراح العقل من المعتقل 'الإخواني' الذي سجن فيه الدولة والمجتمع علي السواء. إن المخرج يمنحنا رؤية خلاقة لعوالم هذا البلد، والمجتمع.. بعد أن أصبح معظم الناس فيه أسري.. حيث العامة أو الغالبية.. يسبحون في ظلام الجوع والفقر والعوز والمرض.. أما الخاصة أو الصفوة فقد انقسموا حسب المصالح والأهواء، فريق يؤكد أفكار الجماعة التكفير والاستعلاء، وفريق مناوئ يدافع عن 'المعلم' والعلم والتفكير والتنوير.. وهو يدافع عن الحرية والتنوع والتعددية، ولا يبيح لنفسه تكفير الآخر!! وفي هذا نري المسرح وقد تبدي لنا وكأننا حيال محاكمة تدور في العصور المظلمة، حيث لا فواصل ولا حدود بين الجمهور والمحاكمة، والتكفير صار الراية العليا، أما الشعب فهو يسبح في فوضي وهمجية، وغيبوبة وانفصال! في الرؤية الجمالية تتبدي لنا عوالم شتي للمحاكمة بمعناها المتراكم والنوعي، فقانون التناقض يتجسد عندما يتبدل رجل الدين أو بالأحري المتاجر بالدين بصورة شيطان يسلط حنجرته علينا!!، وعندما تتحول حلقة المحاكمة إلي ما يشبه حلبة المصارعة بين المدعي بالحق المدني والمدافع عن التكفيريين والظلاميين، وبين محامي 'المعلم' الذي لا يهدف سوي وجه الحقيقة والانتصار للعقل والإيمان الحقيقي، وثالثًا: عندما تتحول مأدبة السلطة التي تحرسها قوي الأمن نهبًا لأيادي الجوعي والمحتاجين والمتسولين رغم القهر والقسوة.. ورابعًا: كيف تتحول شاشة السينما في الخلفية إلي وقائع حية وملموسة في مقدمة المسرح؟ وكيف تنسحب شخصيات لتتشبث بسلالم عليا في الخلفية كأنها القضبان.. تصرح، وتهزي، وتهتف، وكأنها تأكل لحم أخيها حيًا، وقد اختلط فيها الوجه الكهنوتي، بوجه السلطة الدينية التاريخية.. وعندما تدقق قليلاً تكتشف انك حيال وجه المعزول 'محمد مرسي'!! إن 'المحاكمة' تضع أمام الجميع الدروس البليغة لضرورة الفن الجاد، الكاشف والملهم.. في معالج قضايانا المصيرية والملحة.. وفي المقدمة التكفيريون الذين يحسبهم البعض نبتًا لليوم لكنهم في الحقيقة ميراث عقود من الاستبداد والتسلط. وأبت علي اعتقال العقل، وشل الإرادة الوطنية، وإلغاء التكفير الحر والتنوع.. ولهذا أتوجه بالشكر لجميع المشتركين في هذا العمل الفني الجميل. وأخص بالذكر الفنانين الكبار 'أحمد فؤاد سليم' و'أشرف عبد الغفور' و'حمادة شوشة'.. بعد أن جسدوا لنا دنيانا في مسرح كبير.. بعد أن تعانق فيه وفي دورة كاملة.. الجميل والمفيد والنافع.