وسط هذا الضجيج الغنائي.. والذي يقترن به ويلازمه ضجيج إعلامي.. وكأن الاثنين يخدمان علي بعضهما البعض.. يتقدمهما التهافت في التعبير، والتدني في الأداء.. والضحيّة في النهاية هو الجمهور.. أما الشهيد حقًا فهو العناء المصري الأصيل.. الذي نفتقده بشدة في وقت الشدائد الذي نمر بها.. والحقيقة أنه لا فضل 'لوطني' علي 'عاطفي' إلا بالإبداع والتوهج.. ومن هنا توقفت أمام 'بورتريه' كنت قد رسمته بقلمي لكوكب الشرق 'أم كلثوم' وهي سيدة الغناء العربي بحق.. بمناسبة مرور مائة عام علي مولدها والذي وافق عام 1998. وها نحن نعيش ذكري مرور 39 عامًا علي رحيلها.. والذي أظنها فيه الغائب الحاضر.. وها أنا أنقل بأمانة، وبالحرف الواحد ما كتبته في روزاليوسف منذ ما يزيد علي 15 عامًا.. وكأن حبره لم يجف بعد.. ربما لأن 'أم كلثوم' وإن كانت تمثل لأجيال شابة تراثًا غنائيًا.. لكنه علي جانب آخر تراث ثقافي عريض مثله مثل الجواهر الثمينة وكلما تراكمت عليها طبقات الزمان، ازدادها قيمة، وثراء، وتأثيرًا.. فهل أقول في الليلة الظلماء يفتقد البدر؟! لاتزال فلاحة 'طماي الزهايرة' التي اختار 'محمود مختار' أن ينحت ملامحها علي وجه تلك المصرية التي روضت الأسد وجاورته في تمثاله الشهير 'نهضة مصر' لاتزال تجلس منفردة علي قمة هرم الغناء، بكل المقاييس دون استثناء.. حتي بمقاييس السوق الذي يحلو للبعض أن يضعه معيارًا وحيدًا للنجاح. في عام 1928 وزعت اسطوانة 'أم كلثوم' التي ضمت أغنية 'إن كنت أسامح وأنسي الأسية' من تلحين محمد القصبجي مليون نسخة عندما كان تعداد مصر كلها يكتب في خانة الأحاد فقط، ووفق أرقام السوق الحالية أيضًا، لا تزال أغانيها هي الأعلي، والأكثر تجانسًا علي المستوي العربي، بمعني آخر لا تزال كالقطن المصري وحيد الرتبة 'الأكثر قابلية للتصدير'. ما الذي مكن هذه الفلاحة المصرية التي لم تدخل مدرسة في حياتها، أن تصبح علي حد تعبير 'مصطفي أمين' أكبر النساء المثقفات في مصر؟! وما الذي مكنها من أن تستولي علي قلوب الناس من المحيط إلي الخليج، وعلي امتداد أكثر من نصف قرن من الزمان؟ وما الذي أتاح لها علي حد تعبير شائع أن تكون أكبر الأدلة علي أن خريطة الوطن العربي يعيش فوقها شعب واحد.فالذين فرقتهم السياسة أحيانًا، جمعتهم 'أم كلثوم' دائمًا حول صوتها، وكأن للوجدان كما للأرض قانونًا للجاذبية. حين نلجأ للقياس الشائع أيضًا وهو الكم فحجم إنتاجها المتراكم يعلو علي حصيلة غناء أكثر من حقبة بكل أصواتها ومغنيها. فقد قدمت ما يربو علي '360' أغنية من بينها '80' قصيدة شعرية بالفصحي، والرقم الأخير غير مسبوق في تاريخ الغناء العربي، حتي العصر العباسي نفسه، من بين هذه القصائد '9' قصائد لأمير الشعراء أحمد شوقي وحده، فقد قلبت في دواوينه، وانتقت أبياتها بنفسها، فقد كانت قصائده كما تقول: آخر ما يحتض عقلها وعينها قبل النوم، ومع ذلك فقد ظل الكاتب المفضل لديها هو د.طه حسين، والذي وصفت كتاباته ذات يوم بأن فيها رقة الشعر وموسيقاه، والذي بادلها الغناء يوما بقوله إن لصوتها فضلاً في انتشار الشعر العربي، ولم يجاف 'د.طه حسين' الحقيقة. فأم كلثوم وضعت علي لسان عموم الناس، وبسطائهم أجمل وأحلي عيون الشعر العربي، منذ القصيدة الأولي التي غنتها 'أراك عصي الدمع، شيمتك الصبر' مرورًا بكل الشعراء الكبار علي خريطة الشعر العربي، القدماء والمحدثين وإنها لم تنجح بالمصادفة، ولم تصعد القمة بالدعوات، كما أن طريقها لم يكن مفروشًا بالورود.. ولكن السؤال يبقي: ما الذي أوصل 'أم كلثوم' إلي أن تجاور الأسد في تمثال نهضة مصر؟! إنها لم تكن حنجرة فقط، وإنما كانت قبل ذلك عقلاً، وفوق ذلك وجدانًا، هذا المثلث الذهبي الفريد الذي تتفاعل بين أضلاعه الموهبة، والعقل، والوجدان تفاعلاً خصبًا، خلاقًا.. هو المفتاح الحقيقي الذي فتحت به أم كلثوم كل أبواب النجاح والمجد.. كما فتحت به قلوب الناس.. شيء آخر لا يمكن أن ينكر أو يتجاهل، وهو أن هذه الفلاحة المصرية، أعطاها الزمان فرصة نادرة لأن تولد وتنمو وتنضح في قلب سلسلة متصلة من ثورات التجديد في مصر، كانت علي موعد مع ثورة تجديد كاملة في الأغنية المصرية. تلت قرونًا كاملة من السقوط والانحدار، بعد أن قاد الشاعر الفذ 'محمود سامي البارودي' ثورة حقيقية لتجديد الشعر العربي في أوج ثورة 'أحمد عرابي' زعيم الفلاحين عام 1882، ولم تكن مصادفة بالتالي أن 'أم كلثوم' قد وصل صوتها إلي تجمع كبير من الناس في مولد 'الحسين' الأول مرة قبل أسابيع قليلة من ثورة الشعب المصري عام 1919.. كانت ثورات التجديد متداخلة إلي حد بعيد.. ثورة في مناهج الفكر قادها علي جانب الموروث الشيخ 'محمد عبده' والشيخ 'علي عبد الرازق'. وثورة علي جانب العلاقة بين الأصيل والوافد قادها د.'طه حسين' ولطفي السيد، وثورة في تجديد القوالب الاجتماعية وتحرير المرأة قادها 'قاسم أمين'.. وكان الأزهر الشريف نفسه هو الذي يدفع أمواج التجديد.. في نسيج المجتمع المصري.. ولم يكن التجديد في الغناء والموسيقي ببعيد عن هذا الدور. لقد بدأت 'أم كلثوم' رحلتها في القاهرة، في العشرينيات، حيث احتضنها معلمها الأول الشيخ 'أبوالعلا محمد' الذي كان أزهريًا، يرتدي العمامة، ويحلم بإنجاز مهمة تاريخية علي حد تعبير 'كمال النجمي' في تخليص الغناء العربي نهائيًا من العجمة العثمانية، والرطانة الفارسية، والفجاجة الغجرية، والذي وجد في صوت 'أم كلثوم' ضالته المنشودة ليعيد بقوته تعريب الغناء إذا صح التعبير ولم يكن الشيخ زكريا أحمد ومحمد القصبجي ببعيدين عن الأزهر نشأة ودراسة، وقد خلعا العمامة بعد ذلك، وانضم إليهما 'عبد الوهاب' و'السنباطي' ليشكلوا جميعًا الموجة الجديدة الصاعدة في تجديد الغناء العربي. ولقد كان صوت 'أم كلثوم' دون مبالغة يشكل مجري النهر الجديد، الذي أتاح لهؤلاء الموسيقيين أن يبحروا بالغناء العربي كله، صوب منبعه الحضاري والتاريخي. لقد غنت 'أم كلثوم' في هذا الزمن المبكر قصائد من تلحين الشيخ 'أبوالعلا' ورغم أنه كان يخشي عليها من موت مبكر، لأنها علي حد تعبيره، 'تغني بدمها' فلم يسعفه عمره لاحتضانها سوي خمس سنوات، وقد ردت الجميل. وأعادت غناء ألحانه التي عبأها في اسطوانات قديمة بصوته. وكان في مقدمة هذه الأغاني قصيدة 'وحقك أنت المني والطلب' وهي لمن أراد أن يتعرف علي روح هذه المرحلة، من تأليف الشيخ 'عبد الله الشبراوي' شيخ الجامع الأزهر!! ذلك هو أضلاع مثلث 'أم كلثوم' الذهبي الذي اكتمل بعقل استشعر كل خلاياه ليفهم ويتعلم ويشارك، وجدان ساخن لم يتخلف لحظة عن ركب شعبه، وعن معاركه وآماله وآلامه.. قبل أن تأتي إلي القاهرة، كان موكبها الغنائي الصغير قد عفر جبينه كما تقول في كل قري مصر دون استثناء، دون أن تستنكف أن يكون أول أجر تقاضته هو طبق من 'المهلبية' قبل أن يعد بالملاليم ثم القروش. وإننا لنتعجب لهذه الإرادة الصلبة الغريبة التي كانت تزيح غوائل الزمن بصدرها، لقد بدأت أول حفلة غنائية في الإذاعة عام 1935، وواصلتها بلا انقطاع وشهريًا حتي عام 1973، وحتي في أوج الحرب العالمية الثانية، التي اقحمت مصر في أتونها، أصرت علي تقديم حفلاتها، وكان البوليس المصري يضطر إلي أن يحيط مسرح الأزبكية بمجموعة من عساكره لحمايتها من جنود الحلفاء، ثم يضطر إلي أن يصحبها بعساكره من 'الأزبكية' إلي بيتها في 'الزمالك'، لأن المرور في شارع 'فواد' كان عرضة لمخاطر هؤلاء الجنود الأجانب السكاري الذين يعيثون في الوطن فسادًا. والغريب أنها تتحدث عن غنائها في طفولتها مؤكدة أنها لم تشعر بخوف أو رهبة 'ولم أضطرب أمام الجمهور، لقد وقفت وغنيت بلا اهتمام، وكأنني أغني لعروستي الصغيرة'. وفي مرحلة تالية كان الجمهور هو مصدر خوفها الوحيد، وقبل أن تبدأ وصلتها الغنائية في وقت كانت تتربع فيه داخل قلوب الملايين، كانت تشد طرفًا من الستائر. وتملأ صدرها بهواء عميق، لأنها أصبحت تخاف الجمهور.. 'أنني أخاف اليوم من الجمهور الذي يعرفني وأعرفه، وأعمل له ألف حساب' إن وصف الشاعر 'أحمد رامي' الذي تعرفت عليه مبكرًا هو الذي يفسر هذا المعني بجلاء.. 'كان صوتها قادمًا من قلبها.. وليس من حنجرتها.. وكانت تغني لنفسها، قبل أن تغني للناس.. لقد كانت تبكي وتبتلع دموعها.. راهبة في محراب الفن'.. نعم كانت تغني كأنها تصلي.. لقد أحبها 'رامي' منذ أن غنت له لأول مرة قصيدة 'الصب تفضحه عيونه' وكانت العلاقة بينهما مشدودة طول الوقت. رغم أنها كما تقول: 'تعلمت علي يديه أوزان الشعر، وتذوقه، وفهمه، وأنه كان يقدم لها في كل لقاء كتابًا وديوانًا، فقد قرر عليها قراءة الأغاني للأصفهاني في كامل أجزائه. وكذلك دواوين جميع الشعراء القدامي، حتي أنها تمنت من كثرة ما قرأت أن تكون شاعرة.. ولكن 'رامي' نفسه هو الذي قال لها 'لا عليك أن تكوني شاعرة، إن تذوق الشعر نفسه موهبة'. وهي تفسر هذه العلاقة تفسيرًا مختلفًا فتقول: 'كان رامي يحب الغناء. وكنت أنا أحب الشعر' ولم تغفل عيون 'رامي' عنها، ولم يكن الأمر يخلو من مشاعر غيرة، وأخبرها بين وصلتين في إحدي حفلاتها أنه ضبطها علي المسرح تغني لشخص واحد بعينه بين الجمهور وضحكت 'أم كلثوم' وقالت له: 'إن الأمر صحيح، ولكنها أشارت إلي الصف الأخير في الصالة، حيث كان يجلس مستمع ضرير، قررت أن تتوجه إليه وحده بالغناء'!. ولم يتحول خوفها من جمهورها إلي عزلة، كما أن نجاحها ومجدها لم يتحولا إلي حذر وطمأنينة، فقد ظلت دون مبالغة تكدح لإنضاج فنها، إن 'رياض السنباطي' يؤكد أنها كانت تعمل في اليوم الواحد 12 ساعة متواصلة، دون أن تلتفت إلي طعام أو شراب، وعندما كان الجوع أو التعب يستبدان بمن معها من الموسيقيين، كانت تهدئ ثورته بأكواب الشاي وسندوتشات الجبنة انها لم تتوقف يومًا عن العمل، وعن تطوير نفسها، وعن القراءة والمعرفة، وقد ظلت الأسئلة التي تبحث عن إجابة علي شفيتها، أكثر من الإجابات التي يطمئن غيرها إليها. ولذلك لم يعطها أحد لقبًا جزافًا، كانت كوكب الشرق، لأنها صعدت إلي كبد السماء.. ولم تسمح لسحابة عابرة أن تغطي وجهها، أو تطفيء وهجها، وكانت فنانة الشعب بحق، أنها غنت لكل الناس، غنت لهمومهم لا بهمومهم، ولم تسمح لفنها بأن يخاطب قلة أو صفوة.. طورته وأنضجته.. كلمة، وأداء، ولحنًا.. عبر أجيال متصلة في الموسيقي والشعر والغناء.. بعد هزيمة 1967، عكست رؤيتها لدورها ببلاغة!!! 'إن عودتي بعد '67' لم تكن للغناء، وإنما كانت نوعًا لوضع السلاح الذي أملكه في خدمة وطني'. ويا كوكب الشرق.. يا سيدة الغناء العربي.. أيتها الفلاحة الواقفة إلي جوار الأسد في تمثال مختار.. تتطلع إلي نهضة مصر. لقد مرت مائة عام علي مولدك. وليس رجمًا بالغيب أن قرونًا أخري ستمر.. ويبقي نهار غنائك العذب الجميل.. ممتدًا كأنه أحد وجوه مصر الأصيلة.. لا يقدر عليه الأفول، ولا يدركه الليل.. و'أنا إن قدر الإله مماتي.. لا تري الشرق يرفع الرأس بعدي'.. أهو صوت 'أم كلثوم'؟ أم صوت مصر وهي تتحدث عن نفسها؟!