بعد أن صار المصريون ينالون قطًا أو وجبة من 'الإظلام اليومي' الإجباري حيث انقطاع التيار الكهربائي المباغت. صار فريضة علي كل بيت وأسرة.. لكنه يتفاوت من حيث المدة الزمنية في الانقطاع.. من الحضر إلي الريف، من الأحياء الراقية إلي الأحياء الفقيرة والمهمشة.. ففي حين تقصر مدة الانقطاع في جغرافيا الأولي، تطول وتمتد في جغرافيا الثانية. ولأن المصريين قالوها زمان.. إن 'الناس مقامات'، فماتزال تلك التفرقة موجودة، والتمييز شغال.. رغم قيام ثورتين تكملان بعضهما البعض، وهما تؤكدان المساواة، وحق المواطنة، وقيمة العدل الاجتماعي المنشود، إلا أنه لا هذا، ولا ذاك تحقق.. بدليل انقطاع التيار الكهربائي علي ذاك النحو، ودون إبداء أسباب معلنة، أو الإعلان المسبق عن الانقطاع حتي يتدبر المواطنون شئون حياتهم، ولقد سخرنا طويلاً، من انقطاع التيار أيام المعزول 'مرسي'، والغريب أنه ما أن قامت ثورة 30 يونية، وأطاحت به، إلا واستردت الكهرباء عافيتها واسترد معها الشعب المصري عودة التيار دون انقطاع! لكن ها هو الانقطاع يداهمنا مرة أخري.. وهو يفرق بين 'الناس اللي فوق' و'الناس اللي تحت' لكأنه انقطاع طبقي! وإذ بالناس تتعجب من تلك الحكومة 'المؤقتة' التي تتعامل معهم وكأنها تعيد إنتاج حكومات سابقة، في التجاهل وعدم الاكتراث بحقوق الناس، واحتياجاتهم الضرورية، خاصة بعد أن وصل الإرهاب إلي 'عتبة الدار' كما يقول الفلاحون. إضافة إلي تعرض الثلث إلي حالت الخطر سواء في المستشفيات أو المرافق العامة في 'المترو'، وفي حفظ السلع الغذائية، فالحكومة تضع 'ودن من طين وودن من عجين'، وبالتالي لا تعلن عن أسباب الانقطاع بشفافية، ولا تعلن عن جدول للانقطاع حتي يتدبر كل مواطن أموره الضرورية، وكأنها تدفع الشعب مرة أخري إلي حالة من الإحباط والغضب الذي ربما يدفع البعض إلي اليأس.. وعدم الإيمان بالثورة وبغاياتها ومبادئها التي لم يتحقق منها أي شيء حتي الآن. أوليس هذا هو هدف الإخوان وأعوانهم سواء في الداخل أو الخارج، والذين يرهبون المصريين حتي يكفروا بالتغيير وبخريطة المستقبل التي نهفو إليها ونسعي جميعًا.. فما أحوجنا إلي حكومة، منجزة، شفافة، تضع نصب أعينها الكرامة والحرية والعدالة كدعامات لبقائها، لأن إيمان الجماهير مرهون بتحقيق هذه الأهداف، ودونها نتعرض جميعًا للخطر. من هذا المدخل في الشفافية والمكاشفة والمصارحة.. ومن مبدأ 'صديقك من صدقك القول لا من صدقته'.. تأتي قضية 'التعليم'، والتي هي أم القضايا الوطنية في مجتمعنا الراهن علي نسق 'أم المعارك' كما جاءت علي لسان صدام حسين، فلا تقدم يذكر، ولا بناء حقيقيًا للديمقراطية، ولا حريات وحقوق، ولا نهضة حقيقية في المجتمع ككل.. إلا بتقدم نوعي ملموس في التعليم أو بالأحري تحقيق جودة كما كانت لدينا في سابق العصر والأوان! وقد أصاب من أطلق علي التعليم قضية أمن قومي.. بعد أن تكشفت لنا الحقائق، ورفع الغطاء عن تلك الجماعة، وكيف تغلغلت في شرايين المجتمع أيام المخلوع 'مبارك' عن طريق التعليم والمدارس الخاصة بها.. وقد سمح لها بالانتشار مقابل استخدام 'الجماعة' كفزاعة للغرب ولماما أمريكا تحديدًا! والسؤال: كيف أقامت تلك الجماعة 'مدارس' بالجملة في غيبة الرقابة المجتمعية 'آنذاك'.. وأطلقت عليها 'مدارس إسلامية' لتطبق عليها مبدأ 'السمع والطاعة'، وتكفير المجتمع، كمفاهيم حاكمة للجماعة، والغريب أن تلك المدارس كانت بتكلفة عالية حتي لا تتوقف دعوتها علي الطبقات الفقيرة، والتي اكتفت الجماعة معها بالمعاهد الأزهرية المنتشرة باتجاه جغرافيا مصر الفقيرة، فضلاً عن تدعيمها بالخدمات الطبية في 'المستوصفات' الشعبية لتقديم خدمة طبية رخيصة للفقراء واحتوائهم. ولأن الجماعة تنظر للمجتمع بعينين ومن منظورين، فقد أرادت من خلال العين الأخري الطبقية تجنيد الطبقات العليا والمتوسطة، بتلك المدارس المرتفعة الثمن والتكلفة، مدعية أنها وحدها الإسلامية، وكأن مدارس مصر الأخري علي اختلاف أنواعها مدارس للكفرة لا سمح الله!! في مقابل هذه الحقائق المفزعة، كان لزامًا علي الدولة أن تتحرك وتقفل هذا 'الصنبور' الذي يضخ أفكارًا من شأنها تلويث العقول وإشاعة الفرقة، والتمييز بل والتكفير في ربوع الوطن، وربما هذا ما يفسر جوانب من ظاهرة العنف والإرهاب التي تجتاح أماكن بعينها مثل 'عين شمس' و'المطرية' علي سبيل المثال وساحات التعليم بعينها مثل جامعة الأزهر! ولهذا إذا أردنا حقًا محاربة الإرهاب والتطرف أو ذاك 'التهوس الديني' كما يطلق عليه د.جلال أمين.. واستعادة أبناء مصر وشبابها من براثن تجار الدين، وتجار الأوطان. ينبغي تقدم فوري، وسريع، وناجز في مجال التعليم.. وهذا لا ينفي المواجهات الأمنية الشجاعة التي تمارس دورها الوطني في تأمين المجتمع والناس. ولذلك فنحن نرحب بدعوة وزير التربية والتعليم د.محمود أبو النصر في خطة الوزارة الجديدة في 'إتاحة الفرصة المتكاملة لاستيعاب وتعليم جميع الأطفال بحيث لا يترك طفل مصري بلا تعليم جيد جملة اعتراضية نضع فيها عشرة خطوط تحت جيد ووفق معايير الجودة العالمية'. ويحضرني في هذا السياق الدعوة الحارة، والمتكررة، والمستدامة، والأمينة، للمذيعة الجادة والمتميزة 'رشا الجمال' في برنامجها الأسبوعي 'قوم يا مصري' علي قناة 'ONTV'. والتي تذكرني بدعوات ومقالات الأستاذ 'لبيب السباعي' رحمه الله في الأهرام ومعاركه الكبري في سبيل تحقيق تعليم حقيقي ومتقدم في مصر. ولا أنسي عنوان شهير له 'الصلاة قبل الوضوء' تناول فيها الأمراض الإخوانية في حياتنا منطلقا من التعليم الضار أو المغشوش، كما يقولون أرباب السوابق إلي الأمراض الاجتماعية التي يرتكبونها متمسحين بالدين وكأنهم يجيزون الصلاة قبل الوضوء!! ولعل المفكر الاجتماعي 'سيد ياسين' يلمس الحقائق.. وهو يؤكد ضرورة تعليم الأطفال الصغار المنهج النقدي لا منهج الاتباع. قبل أن نوزع عليهم أجهزة 'التابلت' حتي نضمن جيلاً مستقلاً، متفتحًا، يمارس الحرية وهو يعمل عقله ويتجاوب مع العصر والتحديات. أعود بكم إلي ذلك الإظلام الاجباري والذي فررت منه بأن ذهبت لمشاهدة فيلم 'لا مؤاخذة'. وإذا بي أفاجأ بأن الفيلم لا ينفصل عن قضية التعلم والتعليم. وهو يحارب الإظلام الإجباري الذي يمارس منذ سنين علي الشعب المصري، ولكنه إظلام من نوع آخر. وقد يكون أشد فتكا من انقطاع التيار الكهربائي لأنه يهدف إلي تقطيع النسيج الاجتماعي للمصريين. ومن هنا هو إظلام علي تلك الفتنة البغيضة التي زرعت في جنبات الوطن منذ أيام 'السادات' عندما 'أطلق المارد من القمم' علي حد تعبير الخبير الأمني 'فؤاد علام' عندما فتح السادات السجون للإخوان كي يخرجوا ليقضي بهم علي المناوئين من اليسار والناصريين. فإذا بهم يقتلونه في آخر الشوط ويزرعون الفتن والتي ظلت تسري بين فئات المجتمع وتتغلغل في صفوف الأطفال الصغار وحتي الكبار والعجائز.. ولا أحد يريد أن يواجهها بشجاعة، أو باستئصال شأفتها. وفي هذا السياق.. يجسد لنا الفيلم قضيتين.. الأولي تلك الفتنة الطائفية التي تري وتتغلغل ويتصافح معها الجميع ليل نهار.. وكأنها صارت من البديهيات ومواجهتها تتم موسمية أو شكلية زائفة أو عن طريق بوس اللحي!! أما القضية الثانية فهي قضية التعليم، والتي بدت في تضاريس الفيلم غير منفصلة عن الفقر والغني وبالتالي عن التربية السليمة والحقيقية. فتعليم من غير تربية وعدالة اجتماعية لا يجدي. والفيلم وهو يحقق أرباحًا رغم أن السينما المصرية بعافية.. إلا أنه يؤكد هذا أن الشعب المصري تواق لمشاهدة الفن الحقيقي، الصادق، والكاشف عن قضاياه حتي ولو كانت مؤلمة. إن الذوق العام صار ضد سياسة التعتيم، والتلفيق، والزيف.. ولا عجب من أن بطل الفيلم 'لا مؤاخذة' في العاشرة من عمره أو نحوها 'أحمد داش' وهو طفل مدهش أجاد دوره بطريقة بارعة وقد جاء من أسرة قبطية ميسورة الحال ودخل مدارس أجنبية عالية الجودة. وفجأة يموت الأب، فيضطر ذاك الطفل إلي دخول مدرسة حكومية. فيري ونري معه كافة الأمراض الاجتماعية، بالاضافة إلي تدني العملية التعليمية إلي الحضيض. لكن أبشع ما يصادفه هذا الطفل المسيحي أن يضطر إلي اخفاء ديانته والتظاهر بأنه مسلم وإلا تعرض للدمار!! إن الفيلم يجسد المسكوت عنه برقيّ بالغ.. فهو يبهجنا ويشجينا في الوقت نفسه، لنكتشف عبر رحلة خاضها الطفل هاني الذي أطلقوا عليه 'لا مؤاخذة' عن عيوب وآفات استوطنت القلوب والعقول لكن تحدي هذا الطفل الاستثنائي استطاع أن يكشف لنا في النهاية عن النسيج المصري الأصيل الذي يأبي تلك التفرقة أو الفتنة البغيضة. لقد ظللنا مشدوهين تجاه هذا الطفل المصري المدهش والاستثنائي الذي واجه التحدي الفني، والاجتماعي، والتعليمي.. في رؤية فنية جريئة وناقدة، ونافذة للمخرج المبدع 'عمرو سلامة' والذي خرجنا من فيلمه متضامنين مع 'لا مؤاخذة' وهو الطفل 'هاني' الذي حارب الفتنة والإظلام والظلام بالتعليم والتربية، والابتكار. 'ملحوظة أخيرة' قرأت أن الجيش لديه مشروع لإعادة تأهيل أطفال الشوارع أي تربية وتعليم هؤلاء الأطفال الذين يعدون بالملايين.. وإذا صدق هذا الخبر.. فإننا نكون قد أصبحنا علي بداية حقيقية وجادة. لا لتطوير التعليم فحسب بل لتطوير المجتمع ومحاربة الإظلام والفتن الطائفية.