امتد شهر العسل بين السادات والإخوان من عام 1970 حتي عام 1979.. كان شهر عسل أو سنوات عسل أعمق في أبعادها ونتائجها.. وظلت قائمة وفاعلة طوال حركة المد الشعبي التي تبدت في مظاهرات الطلبة وفي انتفاضة يناير 1977، وكان الإخوان يقودون معظم الحركات الإسلامية خلال تلك الفترة ويلعبون دور الأداة التي يسلطها السادات ضد الاتجاهات التقدمية والديمقراطية. وكان السادات قد أظهر الود والتعاطف مع الإخوان والجماعات الدينية التي انبثقت عنهم وعمل علي احتوائها وتوظيفها حتي يواجه بها التيار اليساري الذي تنامت قوته وعظم نشاطه.. ففتح السجون وأفرج عنهم وأتاح لهم حرية النشاط والحركة وساندهم بالإمكانيات اللازمة. في ذلك الوقت كان عمر التلمساني نجمًا في سماء العمل السياسي في مصر.. كان يدعي إلي كافة الاجتماعات التي يعقدها السادات مع قيادات الدولة ورؤساء أحزابها.. وكان وزير داخليته يرحب به في مكتبه.. ويحفزه علي المشاركة في كافة المؤتمرات والاجتماعات التي ينظمها الإخوان وشباب الجماعات الإسلامية في الجامعات.. وكانت أجهزة أمن الدولة تنقل إليه أن التلمساني يهاجم النظام فيبتسم باعتبار أنه يعرف مالا يعرفونه.. ولم يكن يفوت التلسماني أن يعرّج علي أمن الدولة بين وقت وآخر ليطلعهم علي تحركاته 'حتي لا يظنون به السوء'. ولكن النتيجة كما كتب الأستاذ السيد يوسف في موسوعته المهمة عن الإخوان أن هذه القوي المتطرفة عندما استشعرت قوتها بدأت تعمل مستقلة ووجد السادات أنها كبرت أكثر مما يجب وخرجت عن سيطرته، وأصبحت حركتها غير محكومة بمخططاته.. فبدأ الصراع بينه وبينها.. وظهرت بوادره في الاجتماعات التي كان يدعي لحضورها عمر التلمساني.. حيث دأب السادات علي 'جرّ شكله' ومعايرته تقريبًا بأنه من أفرج عنهم وأخرجهم من السجون وأطلق لهم حرية العمل.. وسمح لهم باستئناف إصدار مجلة 'الدعوة' التي بدأت تهاجمه.. وكان عمر التلمساني بدهائه الشديد يرد بأدب واقتضاب ويكسب الجولة دائمًا.. وبدأ السادات يحذر الإخوان والجماعات المنبثقة عنهم من العمل بالسياسة ورفع شعار 'لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين' وكانت قمة الصراع بينه وبينهم وبينه وبين كافة القوي السياسية مجتمعة في اعتقالات 2 سبتمبر 1981 الشهيرة حيث اعتقل عمر التلمساني وعددًا من قادة الإخوان والجماعات.. وجاءت النهاية فاجعة ودموية عندما قام أحد التنظيمات الدينية في 6 أكتوبر عام 1981 باغتيال السادات. في تلك الفترة من أواخر الستينيات حتي أواخر الثمانينيات.. وهي الفترة التي تولي فيها عمر التلمساني قيادة الإخوان كمرشد ثالث.. وقد تعرض لمقاطعة شرسة من بقايا قيادات الجهاز السري ومؤسسيه.. وكذلك من القطبيين.. وقد هاجموا كثيرًا أداءه وأفكاره.. واتهموه بالارتماء في أحضان السادات وحكوماته وأجهزة أمنه. ومع أن عمر التلمساني ظل عضوًا في مكتب الإرشاد منذ الأربعينيات حتي تنصيبه مرشدًا.. إلا أنه لم ينضم إلي الجهاز السري.. ولم يشارك في عمليات الصراع الداخلي التي خاضها الجهاز السري برياسة عبد الرحمن السندي في مواجهة المرشد المؤسس حسن البنا.. ولا في الصراعات التي قادها الجهاز السري ومجموعة المؤيدين لثورة يوليو 1952 'السيد سابق صالح عشماوي عبد العزيز كامل وغيرهم' ضد الهضيبي المرشد الثاني الذي رفض التعاون مع الثورة.. وقاموا باحتلال المركز العام للإخوان.. وحصار منزل الهضيبي ومطالبته بالاستقالة. ومع ذلك فقد دافع عمر التلمساني عن الجهاز السري المسلح في كل أحاديثه وشهاداته.. وحاول تبرير وجود الجهاز بأكثر من وسيلة وأسلوب.. وحاول إيجاد مرجعية له في سلوك المسلمين الأوائل.. ولعل الأستاذ البنا قد اشنقه من اجتماعات دار الأرقم بن أبي الأرقم، حيث كان الرسول يجمع المؤمنين به في ذلك الوقت المبكر.. وكان لهذا النظام تأثيره العميق علي الإخوان.. فقد أفرز هذا النظام مجاهدين لا يخافون في الله لومة لائم.. ودعاة مخلصين للعقيدة وعلماء علي بينة من أمور دينهم. وفي كل حواراته يتكبد عمر التلمساني المشقة والعنت في الدفاع عن الجهاز المسلح وأسباب وجوده من الأساس فيقول: 'هو الاحتلال الانجليزي سبب نشأة الجهاز واغتصاب فلسطين، فهو نظام أنشئ لمقاومة الاحتلال البريطاني بعد أن رأي الإخوان أن كل الأحزاب لا تفكر في المقاومة العملية.. مجرد خطب رنانة وسياسات وانتخابات وإنما لا شئ أكثر من هذا.. كانت الفكرة كما يقول في تشكيل الجهاز السري هي تحرير مصر من الاستعمار البريطاني وإنقاذ فلسطين من أيدي اليهود والانجليز'. وكما يؤكد عمر التلمساني في أحد حواراته أن 'التفكير في إنشاء الجهاز السري كان بسبب تراجع الحكومات الإسلامية عن الدفاع عن فلسطين.. ولو رجعت إلي قضايا الأوكار.. وسيارة الجيب وما ضبط فيها وصور.. وتقارير لرأيت أن ذلك كله كان من أجل فلسطين وليس لمحاربة حكومة مصر.. وهذا لا يعني أنني أنكر أن هناك أخطاء وقعت في الإخوان.. وفي الجهاز السري.. وهو الأسلوب الذي اشتهر به التلمساني.. اللف والدوران والمراوغة.. ففي نفس الحوار وبعد أن أكد الرجل أن الجهاز السري أنشيء لمحاربة الانجليز والصهاينة عاد ليقول ببساطة شديدة: 'إن الجهاز السري لم ينشأ أساسًا للعنف.. وإنما وضع لتربية الشباب تربية جادة'.. وعندما قيل له إن الجهاز السري نشأ مع نشأة الجماعة تقريبًا.. وأن عبد الرحمن السندي رئيس' الجهاز استطاع مبكرًا أن يستقل بالجهاز وأن يتعامل مع قادة الإخوان وعلي رأسهم المرشد الأول بقوة جهازه السري وأن يعامله معاملة الند.. ثم تسمي كل ذلك أخطاء؟.. لماذا لم يقم البنا بفصل السندي قبل أن تستشري قوته ويصبح خطرًا علي الجميع.. يقول التلمساني في رده المراوغ: 'إن الخطر قد لا يدرك إلا بعد أن يصل الأمر إلي منتهاه.. وهذا ما حدث، لقد نشأ الجهاز لمقاومة الوجود الأجنبي، ثم انحرف عن الطريق، ولو أن الحكومات اعتقدت أننا أخطأنا.. وأخذتنا بالحسني، وتفاوضت معنا بدل التعذيب فربما كان الحال الآن غير الحال'.. وإذا كان عمر التلمساني مرشد الإخوان يري أن قتل أحمد ماهر رئيس وزراء مصر، والنقراشي باشا رئيس وزراء مصر والمستشار أحمد بك الخازندار.. وسليم زكي باشا حكمدار العاصمة.. وأمين عثمان وزير المالية.. وغيرهم عشرات ومئات.. وصولاً إلي الشيخ الذهبي.. وأنور السادات.. إذا كان يعتبر أن كل هذه أخطاء كانت تستلزم الصبر من الحكومة.. وأخذهم بالحسني.. والتفاوض معهم.. فهي الكارثة.. أما صاحب الرأي فيستحق لقب المراوغ العالمي. ويكفي دليلاً علي التلفيق والكذب والمراوغة ما ذكره أحمد حسين زعيم مصر الفتاة من أنه اتصل بالشيخ حسن البنا وعقد معه اجتماعًا حضره مصطفي الوكيل من مصر الفتاة وأحمد السكري من الإخوان للاستفادة من إمكانات الإخوان في تنفيذ خطة وقت الحرب لتفجير ثورة شعبية ضد الانجليز فكان رد البنا: 'إننا لا نبحث عن مغامرة قد تخيب وتفشل' ولعل الواقعة تمثل أبلغ رد علي ادعاءات الشيخ عمر التلمساني.. أما د.عبد العظيم رمضان فينفي كل ما ساقه التلمساني سببًا لإنشاء الجهاز السري المسلح جملة تفصيلا، ويذهب إلي القول بوجود مهادنة بين الإخوان والسلطة البريطانية أثناء الحرب.. وبوجود اتفاق صامت بين الشيخ حسن البنا والانجليز علي محو أسطورة 'الحاج محمد هتلر' في الجوامع.. والامتناع عن أي نشاط معاد للانجليز في مقابل التغاضي عن نشاط الإخوان في القري والمدارس.. ويدخل في إطار هذه المهادنة، مهادنة الإخوان لحكومة الوفد التي تشكلت في 4 فبراير عام 1942.. ويدلل د.رمضان علي ذلك بقوله: 'من الثابت ان الإخوان لم يتورطوا في أي دور من أدوار المقاومة السرية ضد الانجليز أثناء الحرب العالمية الثانية'.. ولعل في كل ذلك أبلغ رد علي ادعاءات المرشد الثالث.. الرجل الهادئ.. الوديع.. الذي يلبس الحق بالباطل.. والباطل بالحق.. ببساطة نادرة.. وخشوع مبالغ فيه.. وما زلنا مع الشيخ عمر التلمساني المرشد الثالث للإخوان.