رئيسة المجلس القومي للمرأة تلتقي الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر    بعد قليل.. نقل شعائر صلاة الجمعة من مسجد الشهيد بالقليوبية    أسعار العملات العربية في بداية تعاملات اليوم 30 مايو 2025    الإسكان: بدء إرسال رسائل نصية للمتقدمين في «سكن لكل المصريين 5»    أسعار اللحوم الحمراء اليوم الجمعة 30 مايو 2025    وزير النقل يشارك في الاجتماع الدوري لشركة الجسر العربي بالأردن    بن غفير: حان الوقت للتدخل في قطاع غزة بكل قوتنا    ماسك يكشف عن خلاف مع إدارة ترامب    أمريكا: مجهول ينتحل شخصية كبيرة موظفي البيت الأبيض    ماكرون: الاعتراف بدولة فلسطينية واجب أخلاقي ومطلب سياسي    غارات إسرائيلية تستهدف بلدة شمسطار في البقاع شرقي لبنان    الخارجية الروسية: موسكو تأمل أن تتعامل كييف بجدية مع محادثات إسطنبول    مصر ضد البلد المضيف.. قرعة كأس العالم للشباب    موعد مباراة الاتحاد والقادسية في نهائي كأس خادم الحرمين الشريفين    مرتديا نظارة.. محمد صلاح ينشر صور احتفالاته بالدوري الإنجليزي    إمام عاشور يحسم الجدل: باقٍ مع الأهلي ولا أفكر في الرحيل    طقس الساعات المقبلة ودرجات الحرارة - أمطار بهذه المناطق    الصحة: البعثة الطبية للحج تنسق مع الجهات المعنية لضمان سلامة الحجاج المصريين    تعليم العاصمة: 212134 طالبا وطالبة بالشهادة الإعدادية يؤدون امتحاناتهم غداً    مديريات التعليم تحدد مهام الملاحظ داخل اللجان قبل بدء امتحانات الشهادة الإعدادية    ضبط 14 شيكارة دقيق وتحرير 22 مخالفة تموينية في البحيرة    تعرف على تفاصيل الحالة المرورية بشوارع وميادين القاهرة الكبرى    ريا أبي راشد: أجريت مقابلة تلفزيونية مع مات ديمون بعد ولادة ابنتي بيومين فقط    ذكرى رحيل "سمراء النيل" مديحة يسري.. وجه السينما المبتسم الذي لا يُنسى    في ذكرى رحيله.. "جوكر الكوميديا" حسن حسني بوصلة نجاح الشباب    ملاكي دخلت في موتوسيكل.. كواليس مصرع شخص وإصابة 3 آخرين بحادث تصادم بالحوامدية    وزير الإسكان:الأحد المقبل..بدء تسليم دفعة جديدة من وحدات مشروع سكن مصر بمنطقتين بالقاهرة الجديدة    وزيرا الاتصالات والتنمية المحلية يشهدان توقيع اتفاق لتوفير الأجهزة التكنولوجية لمجمعات حياة كريمة    إمام عاشور: زيزو هناني بعد التتويج بالدوري.. وإحنا جايين يا ميسي    رويترز: خطة أمريكا لوقف إطلال النار تتضمن الإفراج عن 125 سجينا فلسطينيا    زلزال بقوة 4.8 ريختر درجة يضرب إقليم ألباي في الفلبين    أسعار طبق البيض اليوم الجمعة 30-5-2025 في قنا    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 30-5-2025 في محافظة قنا    انخفاض أسعار الذهب الفورية اليوم الجمعة    مصرع وإصابة 4 أشخاص في حادث تصادم بطريق مصر السويس الصحراوي    «عانت بشدة لمدة سنة».. سبب وفاة الفنانة سارة الغامدي    الإفتاء: الأضحية المعيبة لا تُجزئُ عن المضحي    اليوم.. الأوقاف تفتتح 20 مسجداً جديداً بالمحافظات    «مكتب شكاوى المرأة».. مأساة «سمر» تتحول لقصة فيلم مُلهم لضحايا العنف    «تعامل بتشدد».. تعليق ناري من طاهر أبو زيد على انسحاب الأهلي من القمة    «الجينوم الرياضي».. أولى الخطوات العلمية والعملية نحو مربع الدول العظمى    فوائد الزنجبيل، لتقوية المناعة وصحة الدماغ وجمال البشرة    «مالوش طلبات مالية».. إبراهيم عبد الجواد يكشف اقتراب الزمالك من ضم صفقة سوبر    مدحت العدل يصدر بيانا شديد اللهجة بشأن شكوى جمعية المؤلفين.. ما علاقة حسين الجسمي؟    البرلمان يوافق نهائيًا على تعديلات قوانين الانتخابات    مفاجأة، ريا أبي راشد تعلن خوض تجربة التمثيل لأول مرة (فيديو)    مجموعة الموت.. المغرب تصطدم ب«إسبانيا والبرازيل» في كأس العالم الشباب 2025    هل يجوز الجمع بين نية صيام العشر من ذي الحجة وأيام قضاء رمضان؟    "الإفتاء توضح" بعد الجدل الدائر.. حكم صلاة الجمعة إذا وافقت يوم عيد؟    موعد أذان الفجر اليوم الجمعة ثالث أيام ذي الحجة 1446 هجريًا    حزب "الجبهة الوطنية" يطلق مؤتمرًا موسعًا لريادة الأعمال في بورسعيد    الإمساك.. الأسباب الشائعة وطرق العلاج بوصفات طبيعية    تجاهل تنظيف منطقة في الأذن قد يعرض حياتك للخطر.. تحذير خاص لأصحاب «النظّارات»    متحدث الأوقاف: صكوك الأضاحى بدأ فى 2015 ووصلنا إلى 10 ملايين أسرة    وكيل أوقاف الفيوم يشهد فعاليات كتاب مسجد على مفتاح.. صور    وزير الأشغال العامة الفلسطينى: نشكر مصر على دعمها للقضية الفلسطينية    «الإسعاف»| 123 سنة إنقاذ.. 3200 سيارة حديثة و186 مقعدا لاستقبال البلاغات يوميًا    بالصور- وقفة احتجاجية لمحامين البحيرة اعتراضًا على زيادة الرسوم القضائية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



معركة المائة يوم ويوم حول السويس
نشر في الأسبوع أونلاين يوم 11 - 11 - 2013

جمع الفدائيون بقايا شهدائهم من شقوق مداخل حيَ الأربعين.. وأراحوهم في جوف الثري.. ثم استعانوا بالشيخ حافظ سلامة للحصول علي أسلحة جديدة..
في الصباح ورغم تدمير ثلاثة وثلاثين دبابة وكتيبتيّ مدرعات وصاعقة.. كرر الإسرائيليون طلبهم للمحافظ.. بإعلان استسلام المدينة ولم يرد عليهم أحد..
صوّب الإسرائيليون هزيمتهم حمما من القصف الجوي والأرضي المكثف وكأن هدفهم أن تدفن المدينة كلها حية لتتمكن المدرعات الاسرائيلية من دخولها فوق الأنقاض
كانت المدينة تدرك وفي جوفها خمسة آلاف مدني ومؤخرات بعض الوحدات أنها محاصرة من الجهات الأساسية، وأنها مقبلة علي حرب تجويع وتعطيش وأنها لا تملك خبزاً ولا ماء إلا لأيام قليلة..
حاول وزير الداخلية ممدوح سالم أن يدفع بمائه شاب متطوع ومائة بندقية لدخول السويس.. وأخرج من السجن مهربي مخدرات.. ليمكنا قافلة المتطوعين من دخول السويس عبر ممرات خاصة.. وكان المهربان مثالا في الشجاعة والشهامة قبل محاولة اقتحام السويس بثلاثة أيام، كانت القوات الاسرائيلية قد أتمت ردم ترعة الإسماعيلية التي تنقل مياه النيل إلي المدينة، لكي تموت المدينة تحت الحصار عطشا
نجت السويس من حرب العطش بفضل قرار لعبد الناصر بعد قصف 'الزيتيّة' عام 1968 بتنظيف خط مواسير البترول من القاهرة إلي السويس، وتحويله لنقل المياه العذبة
لم يتجرأ الإسرائيليون بعد خسائرهم الهائلة علي محاولة إقتحام المدينة مرة ثانية، ومع ظلام ليلة 25 أكتوبر كان الجيش الثالث الميداني قد أقام جسرا مؤقتا، يبسط كل ليلة ويرفع كل صباح، وتلاحم الجيش والشعب تلاحماً تعمّد بالدم في الدفاع عن المدينة
علي امتداد مائة يوم ويوم توحدت المدينة شعبا وجيشا كسبيكة من الصلب، وارتدي المدنيون في المدينة 4800 'بلوفر' هدية من الجيش الثالث، واقتسم جنود الجيش الثالث معهم الماء والدقيق والملح..
كان الفدائيون قد جمعوا بقايا شهدائهم.. من شقوق مداخل حي الأربعين. وواروها التراب، قبل أن تخضل أوراق الأشجار القريبة بندي الفجر.
وكان كل شيء في المدينة يحدقّ بعيون مفتوحة في الفراغ دون أن يهتز له جفن.. بالأمس دمروا كتيبة مدرعات وكتيبة قوات خاصة.. وأحرقوا ثلاثة وثلاثين دبابة، عندما حاول الأعداء الإسرائيليون.. اقتحام المدينة.. فماذا سيحدث اليوم؟.. كيف سيكررون محاولتهم؟ وماذا ستكون النتيجة هذه المرة؟
لم ينعس حجر واحد في المدينة، التي شقت ثيابها، وتطلعت إلي أضواء الفجر، مترقبة، ومنتظرة أن تصب الجهات الأربع عليها. حمم انتقام الإسرائيليين من مذبحة الأمس المباغتة.
لم يكن ذلك هو هاجس الفدائيين الباقين، فلم يستعيدوا تفاصيل الأمس، ولم يحسبوا نتائج اليوم.
كان هاجسهم الأول بعد أن أراحوا شهداءهم في جوف الثري، أن يحصلوا علي زاد لا ينفد من أسلحة المقاومة، في جامع الشهداء، سأل أحمد عفيفي الشيخ حافظ سلامة إن كان يعرف طريق بعض الأسلحة المخزّنة.
قال الشيخ: إن هناك أسلحة بالفعل لكنه لا يعرف عنها أو عن وظيفتها شيئًا.
'تعالوا وانظروا وخذوا ما تحتاجون إليه.. '.
ذهبوا ونظروا وناظروا، وغطوا أجسامهم المنهكة بأحمال ثقيلة من الأسلحة. في الطريق اكتشفوا، ربما للمرة الأولي أنهم جوعي بشكل لا يحتمل التأجيل أو الانتظار.
لم يكن ثمة بديل عن تحطيم أحد مخازن الطعام وأحد مخازن السجائر، حصلوا علي ما يشاءون وبعد أن وزعوا فائض الطعام والسجائر علي من قابلهم من الموظفين والجنود، تسلقوا سلالم منزل محمود عواد.. ورموا بأنفسهم وأحمالهم علي الأرض.
كانت الانفجارات وأصوات الطلقات لا تزال تتوالي عشوائيًا في أنحاء المدينة، ولكنهم أحسّوا بصمت عميق خاليا من كل صدي، إلا من رجع أنفاسهم اللاهثة..
الشهداء يغسلون المدينة
لم يمر وقت طويل قبل أن يكرر الأعداء الصهاينة طلبهم للمحافظ باستسلام المدينة من جديد.لم تكن المرة الأولي في تاريخ السويس، التي يُطلب من محافظها أن يرفع راية الاستسلام، ففي 29 يوليو 1882 عندما احتل الانجليز السويس بحرًا، طلبوا من مديرها أن يعلن ولاءه للخديو توفيق، لكنه أصر علي أن ولاءه لأحمد عرابي وحده، ثم غادر المدينة، قبل أن يرفع الانجليز أعلامهم فوقها.
كان المحافظ منذ صباح اليوم السابق قد غادر مبني المحافظة بصحبة مدير الأمن، حيث قرر بوصفه الحاكم العسكري للمدينة أن يفتح مركزًا قياديًا تبادليًا في جوفها، واختار لهذه المهمة دورًا ارضيًا في أحد المنازل المغروسة في شارع جانبي، لا يسمح إلا للأفراد بالمرور.
وفي صباح يوم 25 تكلم المحافظ من موقعه الجديد، وطلب من بقية موظفي المحافظة أن يخلوا المبني تمامًا، وأن ينتشروا داخل تلافيف المدينة، ولم يبق في المدينة سوي عامل التليفون، الذي كان لا يزال يمثل نقطة الوصل الوحيدة مع العالم الخارجي، وعندما كرر الأعداء في الصباح ذاته طلبهم بأن تعلن المدينة استسلامها، وأن يذهب المحافظ ومدير الأمن بصحبة مناديلهما البيضاء إلي الاستاد الرياضي، لم يكن هناك نبض حي واحد في المدينة يمكن أن يقبل بالاستسلام.
كانت المدينة قد اختبرت قدرة رجالها جيدًا، وبرهنت لنفسها أن حرفتها الوحيدة الممكنة، هي المقاومة والصمود، وبدأ قصف الحمم.. موجات متتابعة من الضرب الجوي المكثف الذي يكاد يكون 'ضربًا مساحيًا' هدفه أن تدفن المدينة كلها حية، حتي تدخل المدرعات الإسرائيلية هذه المرة فوق الانقاض، دون مقاومة.
ومدفعيات من كل نوع وعيار، تقذف المدينة بجحيم مستعر من النيران.
كانت الأوامر واضحة: دكوا المدينة حجرًا حجرًا، وأجبروا كبرياءها علي الانحناء.
لكن روح تحدٍ عظيم، كانت تحلّق بجناحين كبيرين في سماء المدينة.. التي غسلها الشهداء بدمائهم في الليلة السابقة ! كانت المدينة تدرك. وفي جوفها خمسة آلاف مدني، ومؤخرات بعض الوحدات، إنها محاصرة من الجهات الأساسية، وأنها مقدِمة علي حرب تجويع وتعطيش.. وإنها لا تملك ما تسد به رمقها، أو تطفئ ظمأها، سوي لأيام قليلة، فماذا إذا أحكم الحصار من حولها وطال أمده، كيف تأكل وتشرب، وتعيش، لكي يكون بمقدورها أن تقاتل؟! ومع أن الحصار قد تم، والأمد قد طال، فقد عاشت وقاومت مائة يوم ويوم.
الصورة من بعيد
في القاهرة كانت صورة ما يحدث في السويس وحولها، تبدو – فيما يبدو –أقل دقة ووضوحا. وعندما حاول قدري نصر أمين شباب المدينة أن يجتاز طريق القاهرة السويس عند غروب يوم 23/10/73 ليصل المدينة قبل أن يحل الظلام لم يستطع أن يعبر الطريق بعد علامة الكيلو 101.
كان قد سبقه علي الطريق ببعض الوقت 'علاء الخولي' مدير التموين. وكان آخر الذين تمكنوا من دخول المدينة بالفعل وكان قد سبقه بوقت أقل 'محمد أبو المجد' أمين الاتحاد الاشتراكي بالمدينة. لكنه فوجئ به يعود في الاتجاه العكسي بسرعة مذهلة.
دخل بسيارته في جوف الصحراء، واحتمي بوحدة مدفعية، قالوا له إن هناك 7 دبابات إسرائيلية تحوم حول المنطقة وأنهم تمكنوا من تدمير 3 دبابات من بينها. أما بقيتها فهي تظهر وتختفي.
وقالوا له: لا سبيل إلي المدينة.. وعليك أن تعود.حمل في سيارته بعض الجنود المصابين، وعاد إلي القاهرة وعند الكيلو 4.5 تركهم في رعاية الشرطة العسكرية.
بعد ساعة واحدة من وصوله إلي القاهرة فوجئ بالنبوي إسماعيل مدير مكتب وزير الداخلية، يقول له إن وزير الداخلية ممدوح سالم في انتظاره.
ذهب إلي وزير الداخلية، وفوجئ بالوزير في غرفة العمليات، أسفل المبني بلاظوغلي.
قال له ممدوح سالم:
هل لديك شباب مدرب علي حمل السلاح؟
قال: نعم.. بالطبع
سحب وزير الداخلية ورقة وكتب عليها أمرا بأن يتسلم مائة قطعة سلاح من مخازن الجبل الأحمر. إضافة إلي كمية من قنابل 'حسام' اليدوية. علي أن تصحبهم 3 سيارات خاصة.
في المساء المتأخر نفسه ذهب وتسلم الأسلحة والذخائر، لكنه شعر بالأسي لأن الأسلحة التي تسلمها كانت متخلفة جدًا، إضافة إلي أن الوزير قد صدق علي منح كل مقاتل متطوع 100 طلقة فقط لا غير.
كان عليه أن يأخذ هذه القوة.. لينضم إلي المدافعين عن السويس، أعطي تعليمات بأن يذهب أولا إلي كوبري القبة، ليقابل المسئولين في مكتب مخابرات الحدود.داخل المكتب وجد خريطة هائلة يتحلق حولها بعض الأشخاص.سألوه: أنت الذي ستدخل بالشباب إلي السويس؟
قال نعم
سألوه: وهل تعرف الطريق؟
قال أستطيع أن أستعين بالخرائط، بعد أن توضحوا لي بالضبط أماكن اختراق الإسرائيليين.
قالوا له بعد فترة صمت مندهش:
علي كل وزير الداخلية أمر بأن يصحبكم اثنان من مهربي المخدرات الذين يعرفون تضاريس ودروب المنطقة جيدًا، وقد أخرجا بالفعل من السجن.
بعد قليل انضم المهربان الخارجان من السجن إلي القافلة وكان بمقدور الذين اشتركوا في هذه المهمة المستحيلة. أن يشهدوا بعد ذلك بان هذين المهربين كانا في غاية 'الشجاعة والشهامة' تحرك الركب فوق طريق السويس.. لكنه سرعان ما أوقف.. قيل لهم إن التعليمات تقتضي بألا يسمح بالدخول إلي عمق الطريق من أي جانب إلا بتصديق خاص من وزير الدفاع المشير أحمد إسماعيل شخصيا.
احتجزوهم حوالي ثلاث ساعات بينما كانت المشاورات والاتصالات مستمرة. لكن القرار الذي أبلغوا به بعد طول انتظار كان مخالفا.
'سوف تغيرون خط السير.. وتذهبون إلي الإسماعيلية.. ثم تسلمون أنفسكم إلي الجيش الثاني الميداني الذي سيتولي تسليمكم إلي الجيش الثالث.. الذي سيقوم بنقلكم إلي داخل المدينة لتنضموا للمدافعين عنها'.
وذهبوا إلي الإسماعيلية واحتضنوا أسلحتهم وانتظروا لكن الأحداث الجسام التي تدفقت بعد ذلك لم يكن متاحا لها أن تتوقف. لتحمل مائة شاب متحمس، ومائة بندقية محشوة، عبر جيشين. ومائة وثمانين كيلوا مترا. حتي قلب المدينة الملتهب.
ولم تكن السويس بدورها مستعدة لأن تنتظر أحدا.. !
في صباح اليوم نفسه 25/10 كان كل شيء قابل للاستخدام الآدمي في المدينة. يتعرض لعملية حصر دقيق. البنزين – الدقيق – الكيروسين الشحوم – المعلبات – الأرز.. إلخ.
ولم تكن نتائج الحصر تطمئن بطول اعتماد علي الذات. فلن يمر أسبوع من واقع هذا الحصر. قبل أن تبدأ المدينة تشكو الجوع والعطش بل لقد كان يمكن أن يكون الظمأ حالاً.. وسابقا علي الحصار الإسرائيلي ذاته.
بدت المهمة صعبة. والأيام شاقة.. خصوصا أن السويس كانت مسئولة قبل الحصار عن تموين الجيش الثالث الميداني بالمياه.. لكن لم تكن ثمة مساحة للخيار !
ولم يبدد الإسرائيليون وقتهم. فقد كان واضحا قبل ثلاثة أيام من ذلك التاريخ.. أن سقوط السويس كان يشكل قمة الهدف الاستراتيجي لعملية اختراق مفصل الدفرسوار. فقبل أن تطرق المدفعية الإسرائيلية أبواب السويس، وقبل أن تقوم الوحدات الصهيونية بأية عمليات عسكرية مباشرة ضد المدينة كان الإسرائيليون قد أتموا منذ يوم 22 صباحا ردم ترعة الإسماعيلية التي تنقل مياه النيل إلي السويس 'غربي المدينة'
وكانت ترعة الإسماعيلية التي حفرها عام 1863 مائة ألف فلاح وعامل مصري تحت سياط السخرة. والتي وصفها علي مبارك في الخطط التوفيقية بأنها 'من أكبر أسباب عمارة السويس' هي مصدر المدينة الوحيدة للمياه العذبة.. لكن قرارا كان قد صدر في أعقاب قصف الزيتية، بتنظيف خط مواسير البترول من القاهرة إلي السويس وتحويله لنقل المياه العذبة. وكان هذا القرار الذي أصدره عبد الناصر نفسه في عام 1968 ينطوي علي رؤية استراتيجية ثبت بعد خمس سنوات مدي عمقها وحكمتها.
وعندما ردم الإسرائيليون ترعة الاسماعيلية. يوم 22/10 تمكنوا بالفعل من قطع المياه العذبة مبكرا جدا عن السويس، لكنهم لم يمارسوا شيئا مبتكرا، بل كان تكرارا لما نفذته القوات المسلحة المصرية قبل ذلك بنحو قرن من الزمن، ففي عام 1882 عندما نزل الإنجليز لاحتلال السويس، حاولت القوات المصرية إحكام الحصار حولها، بردم الترعة نفسها لمنع وصول الماء العذب إليها، وهو أيضا ما فعله الجيش المصري الباسل عندما أقام سدا علي ترعة المحمودية في التوقيت نفسه عند كنج عثمان. ليمنع وصول الماء العذب إلي الاسكندرية بعد أن احتلها الإنجليز وقبع فيها الخديو توفيق.
هكذا نجح الإسرائيليون مبكرا في قطع شريان المياه العذبة عن السويس، وفي مساء يوم 22 اتصل سيد قناوي مدير العلاقات في المحافظة، بفوزي يوسف وقال له:
ليس لدينا ماء، ويبدو أن اليهود ردموا ترعة الإسماعيلية إن الموقف خطير، وقد اضطر الناس إلي تسلق ماكينات الديزل في محطات توليد الكهرباء ليشربوا الماء العكر في تنكات التبريد.
كانت المستودعات الموجودة في المنطقة الزيتية علي مسافة 8 كم خارج المدينة، ترتفع عن مستوي المدينة مائتي متر، لذلك فقد كان مجرد ملئها بالماء، يعني أن المدينة يمكن أن ترتوي دون مضخات.
كانت المشكلة أن صنابير ملء هذه المستودعات وراء خطوط الإسرائيليين. ولذلك فإن الوصول إليها وفتحها يتطلب اختراق مرابض مدرعاتهم.
جمع فوزي يوسف عددا من العاملين في المستودعات، وشرح لهم الموقف. قال لهم لا بديل عن أن نفتح صنابير المياه، وإلا ماتت السويس عطشا. لكن ذلك يتطلب مغامرة غير محسوبة.. وذلك يتوقف علي استعداد كل واحد.. فوجئ بأنهم جميعا يتحمسون للذهاب دون تردد.. اتصل فوزي بسيد.وحدد له مكانا يهشمّون عنده مواسير المياه تحت الأرض، كي يحصلوا علي المياه المتدفقة.
وفي الفجر بدأت المغامرة.
تجرد المتطوعون للمهمة من ملابسهم الخارجية.. واكتفوا بالملابس الداخلية.. وحمل كل منهم دلوا فارغا. وكانت حجتهم المنظورة. إذا ما أقتنصهم الإسرائيليون إنهم ذاهبون ليملئوا أوعية الاستحمام.
يتذكر فوزي زميله سامي سمعان الذي كان في مقدمة الطابور.. وأصر علي أن يخلع الصليب الذي كان يلفه حول عنقه.. حتي لا يبدو شيئا يميزه أو يفصله عن الباقين. عبروا وساروا طويلاً.. ولم يعثروا علي أثر لمدرعة إسرائيلية واحدة، استغرقت الرحلة ثلاثة أرباع ساعة. فتحوا بعدها الصنابير وامتلأت المستودعات وتدفق الماء إلي السويس.. '40 ألف طن'.
اكتشفوا بعدها الدرس الأول الذي طبقوه في التعامل مع الوحدات الإسرائيلية. فعندما يأتي الليل، ينتاب الإسرائيليين فزع رهيب. ولذلك يخلون المنطقة تماما من آثارهم ومن بقاياهم. ويسحبون وحداتهم قبل أن يخيم الظلام تمامًا. ويصعدون إلي القمم الجبلية العالية ويؤون إليها لعلها تعصمهم من المصريين.
لم تمثل هذه المياه التي دخلت السويس فجر يوم 23/10 قبل أن تحاول دخولها المدرعات الإسرائيلية المصدر الوحيد للمياه تحت الحصار. فقد اكتشف الناس أيضا بعض الآبار القديمة. وعند حلقات السمك، تذكر الناس أكثر آبار المياه الجوفية في المدينة قدما. وكان بئرا أسطورية، فقد كانت قادرة علي أن تعطي وحدات الجيش الثالث وحدها مائتي 'جركن' ماء يوميا أما مشكلتها الوحيدة، أنه كانت لا تمنح ماءها إلا مقابل كميات من السكر تلقي فيها. وبقدر ما يعطونها من سكر. بقدر ما تهبهم من ماء.. قد يكون ذلك جزءا من أسطورة الصمود نفسها، لكنهم أعطوها ما تطلب فقد كان الماء أثمن من أي شيء سواه.. وكان نصيب الفرد يوميا بالعدل والقسطاط لترا واحدا !
تلاحم الشعب والجيش
رغم القصف الجوي والمدفعي المركز والمتصل، فوق المدينة ورغم تكرار إنذارات الاستسلام علي امتداد يوم 25/10 لم يتجرأ الإسرائيليون بعد خسائرهم الهائلة، علي محاولة اقتحام المدينة مرة ثانية، ومع ظلام الليلة نفسها، كان الجيش الثالث الميداني قد أقام جسرا مؤقتا قدر له أن يبسط كل ليلة بعد ذلك، وأن يرفع كل صباح. ودفع ببعض وحدات قوات المشاة. للمشاركة في الدفاع عن المدينة. وأخذت قبضة المدينة تزداد تماسكا وقوة.. وتلاحم الشعب والجيش في الأيام التالية تلاحما تعمد بالدم والحقيقة.
ورغم أن الإسرائيليين لم يكرروا محاولة اقتحام المدينة إلا أنهم خلال يومي 25 و26 سعوا بشكل محموم، إلي شن هجمات شرسة، لتوسيع الرقعة التي يحتلونها من مشارف المدينة. واتصل قتال وحشي مستميت خلال الساعات التالية. وكان الشهداء يتساقطون كالثمار الناضجة في كل مكان، وهم يذودون عن أشبار قليلة من تراب المدينة.
والأمثلة لا تنتهي، فمن شباك صغير في غرفة البنك الأهلي كان بمقدور الموظفين في ذلك الوقت، أن يشاهدوا صبيا يافعا يضرب العدو بالقنابل، ثم يعود بسرعة ليقفز متواريا خلف جدار الكنيسة المجاورة.
وتكررت الضربات والقفزات عشرات المرات، قبل أن يختفي الصبي فجأة، وبحثوا عنه دون جدوي، ولم يدلهم عليه، بعد يومين، سوي رائحة غريبة، تنبعث من ناحية الكنيسة، وحين تسلقوا السور، وجدوه جسدا شهيدا يسند ظهره. هادئا إلي الناحية الأخري من الجدار.
وعندما تقرر وقف إطلاق النار في اليوم نفسه '26' وجاءت قوات الأمم المتحدة إلي مشارف المدينة لتحديد خطوط القتال لم يجد الفدائيون بديلا عن أن يلعبوا دور ضباط الاتصال المصريين. ورسموا بالإشارات. وبكلمات إنجليزية لقيطة الخطوط التي تفيد أوضاعهم القتالية.
لم يكن شكلهم العام يدل علي أنهم عسكريون لكنهم تمثلوا الدور. ومثلوه. واصطحبوا عشرات الفلاحين معهم. رضوا قانعين بأن يتوزعوا هنا وهناك تحت دخان الخطر. ليتأكدوا أن هذه المساحات لا تزال في أيدي المصريين.
بهذه الطريقة العزيزة. وبهؤلاء الأفراد المجهولين وقعت خرائط وقف إطلاق النار حول السويس، لكنهم أنفسهم لم يسمحوا لوقف إطلاق النار أن يتحول إلي حقيقة. فقد استمروا ينظمون عمليات المقاومة. وشن حرب استنزاف ليلية ضد أجناب العدو.
دربوا الفلاحين علي القتال، وأمتزج الجيش والشعب في وحدة قتالية لا تقبل الانفصام، فوق أنها أمدت حرب استنزاف لم يتوقف بوقود أشعلها مائة يوم وواحد بالتمام والكمال.
وفي وهج الحصار والنار، كانت السويس تكتشف أن معدنها أصلب، وأن ملامح وجهها أجمل وأروع.
العدل أساس الحياة
كان لزاما علي المدينة أن تمارس حياتها الاعتيادية، تحت سقفها القديم الذي يحتل رقعة فوق الأرض تمتد 1700 متر طولا و 500 متر عرضا. علي لسان البحر الذي يكاد يكون شبه جزيرة تسبح بين البحر وقمة الخليج الضحلة. واقتسم الآلاف في هذه المساحة كل شيء الماء، والهواء والدقيق، والخشب، والخطر، بالعدل والقسطاط المستقيم.
في يوم 6/11/73 بدأ الطعام يدخل إلي السويس، بموجب اتفاقية البنود الستة. لكن الشروط الإسرائيلية كانت تمنع دخول السلع الاستراتيجية التي اعتبر الوقود والزيت والبطاريات من بينها.
كانت قوات الشرطة تتسلم صفائح العسل التي مزقتها 'سناكي' البنادق الإسرائيلية وأجولة الدقيق التي هرستها، عند الكيلو 114 ثم تحملها علي ظهورها إلي المخازن لتخضع بدورها لتقسيم عادل وصارم. فتحت بعض الحملات أبوابها داخل المدينة خصوصا تلك التي لديها مخزون من السجائر خصوصا بعد أن كادت السجائر تصبح العملة الرسمية في المدينة.
لم يكن من الممكن أن تعيش المدينة دون نقود.فلم يكن هناك ما يقايض الناس بغيره.
كان البنك الوحيد داخل المدينة هو البنك الأهلي، وكان ينظم عَمله ثلاث مجموعات متناوبة المدير ونائب المدير ومدير الحسابات.
استبدل مدير الحسابات يوم 21 أكتوبر أجازته مع نائب المدير حتي يتسني له أن يقضي اجازة عيد الفطر مع أسرته في القاهرة، وهكذا دخل الحصار باختياره كما دخلت في اليوم التالي '22' كميات من النقود إلي البنك قادمة من القاهرة باختيارها ايضا، فقد كانت السويس تصرف رواتبها يوم 29 من كل شهر.
بعد فترة كان لابد من صرف رواتب رمزية للناس، وهكذا تقرر أن يصرف كل الناس في السويس راتبا شهريا موحدا قدره 5 جنيهات، كما تقرر أن يصرف افراد الجيش الثالث راتبا شهريا قدره جنيهان.
كانت المشكلة أن النقود الموجودة في البنك سوف تتآكل باستمرار، وسوف تنفد بالتالي وسوف تبدو الدولة عاجزة عن أن تدفع رواتب موظفيها.
كان لابد من البحث عن وسيلة لإعادة ضخ الأموال إلي البنك مرة ثانية، أي اعادة دورة رأس المال من جديد.
اتفق عادل رئيس الحسابات مع التجار علي أن يتعامل معهم بالشيكات المصرفية كبديل للنقود التي يجمعونها من المواطنين، كانت الشيكات مسحوبة علي فروع أخري للبنك، وصالحة لمدة عام وقابلة للتجديد، وقبل بعض التجار أن يعطوا البنك حصيلة تجارتهم نظير شيكات كانت تبدو في ذلك الوقت مجرد قطع من الورق الملون.
أصبحت هذه الدورة هي مصدر التمويل الذاتي لكن الاحتياطي مع ذلك أخذ يتآكل وكان الخوف بعد الشهر الرابع من أن دفع رواتب الشهر الخامس سوف يكون صعباً.
عندما انتهي الحصار بعد مائة يوم ويوم سأل أحمد زندو محافظ البنك المركزي عادل مدير الحسابات في السويس.
ماذا كنت تفعل إذا طال الحصار أكثر وتآكلت النقود تماما؟
قال: كنت افكر يوما بيوم
قال زندو: الحل بسيط كان عليك أن تعتبر نفسك بنكا مركزيا، وأن تصدر نقودا لا تحمل سوي توقيعك وخاتم البنك علي قطعة من الورق الأبيض.
سبيكة الصلب
في يوم 29 يناير 1974 فتح طريق السويس، وخرجت المدينة من الحصار مرفوعة الهامة وضاحة الجبين.
كانت المدينة كلها قد توحدت كأنها سبيكة جديدة من الصلب، لقد ارتدي المدنيون في المدينة 4800 'بلوفر' من الصوف هدية من الجيش الثالث الميداني وشرب جنود الجيش الثالث ماء السويس واقتسموا معها الدقيق والملح.
ولم يكن ذلك كله مدهشا ولا غريبا، فقد رصف نصف طريق القاهرة السويس جنود سلاح المدفعية ونصفه الآخر العمال والفلاحون من أيام، أنها أقدم وحدة وطنية، ولذلك فهي لا تقبل الانفصام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.