تزينت مدينة السويس فرحا واحتفالا باليوم الذى خرج فيه الاسرائليون من المحافظة، ذلك اليوم، الذى وقف فيه الفدائيون ضد العدو الغاشم، واستطاع فيه أبناء السويس، استخراج شهادة ميلاد جديدة لهم ولنا جميعا، وكتبوا تاريخاً جديداً بدمائهم، برفضهم لأى جندى إسرائيلى، وضع قدمًا واحدة على أرض مدينتهم. قبل خمسة وثلاثين عاما، بالتحديد عام 1968، تكونت منظمة سيناء العربية، التى ضمت الكثير من المدنيين، الذين أرادوا الدفاع عن وطنهم ومساعدة القوات العسكرية بأى طريقة، وكانت تضم فدائيين من مدن القناة: "الإسماعيلية وبور سعيد والسويس". بحثت "بوابة الأهرام" عن الفدائيين، الذين كونوا هذه المنظمة، لتعرف منهم ما فعلوه من أجل مصر، ومن أجلنا جميعا، و استطاعت "البوابة " لقاء أربعة فدائيين، من الذين كان لهم دورا كبيرا فى صد العدو الإسرائيلى، ليتذكروا حكايات عن هذه الأيام. فى البداية، سحب بساط المناقشة الفدائى «محمود عواد» قائد مجموعة الفدائيين فى ذلك الوقت، وكان عمره آنذاك 27عاما، أما الآن فهو على المعاش، ولكن قلبه مازال ينبض بالوطنية والإيمان بالله، ليحكى لنا عن دوره فى إحدى العمليات، والتى سماها المصريون عملية «وضح النهار»، وكيف قرر قادة المخابرات القيام بهذه العملية، فى الساعة السابعة صباحا بسبب إنكار الإسرائيليين باستمرار للعمليات الليلية، التى كانوا يقومون بها أمام الرأى العام العالمى. قال عواد: كان لى الشرف أن أرفع علم مصر، لأول مرة على أرض سيناء يوم 5 نوفمبر 1969 (وهو يوم تنفيذ العملية)، وظل هذا العلم مرفوعا حتى يوم 6 أكتوبر 73.. يوم العبور ويتذكر الفدائى محمود يوم وضح النهار قائلا: اختارت المخابرات المصرية مكانا معينا، على الضفة الأخرى للقناة، لانهيار الروح المعنوية لدى الجنود المصريين.. حيث كانوا يتعرضون لغارات جوية رهيبة، لقربهم من موقع إسرائيلى حصين يضربهم بالمدفعية، بالإضافة لتسليط أصوات ليلية، توحى بأن هناك دبابات وسيارات ومدرعات تتحرك، فيستعد الجميع وكأن هناك هجوما علينا. ويكمل عواد بأنه ما إن يظهر ضوء الشمس حتى نكتشف أنه لايوجد شىء، وبالتالى تكون قوة الجنود قد ضعفت، وفى اليوم السابق للعملية عبرنا القناة سباحة، لاستطلاع مكان العملية، وذهبنا لأماكن هذه الأصوات ونحن لانملك سوى خناجر فقط، وكنا كلما دخلنا فى العمق ازدادت قوة الصوت، دون أن نرى شيئا حتى فوجئنا بالأصوات تحت أقدامنا، عبارة عن كتل خرسانة صغيرة، بها ميكروفونات وسماعات تخرج هذه الأصوات، وأيضا أضواء توحى بحدوث تحركات عسكرية، فحطمنا هذه الكتل على الفور، أنا وزملائى وتكشفنا المكان جيدا، ومن شدة حماسى حفرت مكانا للعلم على منطقة عالية، بكل ما أملك من قوة، حتى أدخلت ذراعى كله فى التراب، وكأننى كنت مُصرا على نجاح العملية. أما الفدائى عبد المنعم قناوى -(22 سنة) وقت العمليات ،(58 سنة حاليا)، أحد أعضاء منظمة سيناء-، الذى كلف بعمليات استطلاع فوق سلسلة جبال عتاقة خلف خطوط العدو، فكان سببا فى إنقاذ الجيش الثالث الميدانى بأكمله من دمار محقق، وقت 6 أكتوبر، فهل تتخيلون معى أن يبقى هذا الرجل فى دروب الجبل مائة يوم، فى ظروف وعرة، منها أنه كان معه وعاء ماء واحد، وجهاز لاسلكى لايمكن أن يستخدم فى كل وقت، بسبب مرور طائرات العدو، التى كان يمكنها العثور عليه، وبعد عدة أيام نفدت "زمزمية" الماء، ولم يبق أمامه إلا الندى وقت الفجر.. بالإضافة إلى وجوده فى إحدى الحفر ببطانية خفيفة، لاتمنع البرد القارس عنه، حتى إن أصابعه كانت تتجمد مرات عديدة، وكانت لقاءاته المتعددة مع الأخطار، أكثر من لقاءاته مع أبطال الصاعقة المصرية أعلى الجبل، فكثيرا ما كانت تواجهه الثعابين الخطيرة، ولم يكن أمامه سوى القضاء عليها، أو أن تقضى هى عليه. ورغم كل هذا، صمد وظل يستطلع قوات الأعداء فوق هذه الجبال، وذات مرة عثر على خمسة رجال تائهين فى الجبل، وحينما اقترب منهم بحذر(خوفا من أن يكونوا من الأعداء)، أكتشف أنهم مجموعة جنود وضابط مصرى، ضلوا الطريق أثناء ذهابهم لقيادة الجيش الثالث الميدانى، فاصطحبهم مع دليل يعرف الطرق الوعرة إلى قيادة الجيش، وأثناء الطريق وجد نقطة ملاحظة فوق إحدى التباب عبارة عن خمسة أفراد وطائرة يهودية، فلم ينطق بكلمة حتى وصلوا جميعا لقيادة الجيش، وهناك كانت المشكلة، لأنهم شكوا فى أمره لعدم معرفة شخصيته، فهو تابع للمخابرات الحربية. وصل الأمر إلى قائد الجيش "اللواء عبد المنعم واصل" فى ذلك الوقت، الذى التقى به ولم يصدق أنه فدائى مصرى، إلا عندما أخبره بما رآه فى الطريق، وشاهد بنظارته المعظمة ما رآه قناوى، فأمر قائد الجيش القيادة كلها، بالانتقال إلى موقع آخر فى الليل، وفى اليوم التالى دكت الطائرات الفانتوم الإسرائيلية، جميع أماكن القيادة القديمة.. والحمد لله لم تحدث خسائر فى الأرواح أو المعدات. لم يتمالك الفدائى محمد سرحان (66 سنة) نفسه، وهو يروى قصة أصعب أربعة أيام فى تاريخ السويس، فكانت دموعه تغلبه كثيرا، حينما يتذكر زملاءه الشهداء، فبعد عبور يوم 6 أكتوبر وأثناء المعارك فى 1973، حدثت معركة الثغرة فى منطقة الدفرسوار على بعد 17 كيلو - جنوبالإسماعيلية، فكان العدو يتجه شمالا نحو الإسماعيلية، وهناك كانت فى انتظارهم مجموعة الشهيد إبراهيم الرفاعى، وتصدى لهم بالقتال، فارتدت هذه القوات إلى الدفرسوار مرة أخرى، وطورت هجومها باتجاهها جنوبا، محاولة احتلال السويس، وكان ذلك يوم 24 أكتوبر 1973، ولم يكن أهل السويس يعرفون هذه التفاصيل، ولكنهم كانوا يفاجأون بجنود، يأتون هاربين قبل هذا اليوم، ويقولون لهم إن اليهود قادمون. وفى مساء يوم 13أكتوبر ذهب الفدائيون للصلاة، فى مسجد الشهداء.. والجميل أن هذا المسجد كان مقرا لتلقى المعلومات، فكان أشبه بغرفة عمليات خلال أيام 24، 25، 26، 27،و28 أكتوبر، فمنه يعرف الناس أماكن العدو وينطلقون لمواجهته.. وفى صباح يوم 24 قصفت طائرات العدو السويس كلها، وتلا ذلك دخول الدبابات، وعرف أهل السويس أن هناك أكثر من 300 دبابة تحاصر المدينة، وهم لايملكون أسلحة كافية مضادة للدبابات، وكان الفدائى (سرحان) هو حامل طلقات المدفع ال (RBJ)، المضاد للدبابات، والرامى هو الفدائى الشهيد(أحمد العطيفى)، وكانت الدبابات تدخل فى موجات متلاحقة، عشر تتلوها عشر أخرى، وماإن صوب العطيفى مدفعه نحو الدبابة، حتى أصابت قائد الدبابة، الذى كان يخرج رأسه من باب الدبابة، فى غطرسة شديدة، فانفصلت رأسه عن جسده، الذى سقط داخل الدبابة، فشاهد زملاؤه هذا المنظر، فصرخوا مرعوبين. وظل الحصار مفروضا على السويس أربعة أيام، خرج خلالها بيان من المخابرات المصرية، بأن خسائر العدو 27 فردا فقط.. بينما كانت الحقيقة أكثر من ثلاثة أضعاف هذا الرقم، مما أصاب العدو بالارتباك والحيرة، وفضلوا وقف إطلاق النار على المدينة، خوفا من أن يكون جنودهم قد وقعوا فى الأسر، وفضلوا استخدام صيغة التهديد، مطالبين باستسلام المدينة، ولكن رفض كل الأهالى التسليم، لأنهم كانوا يدركون أنهم لو تخلوا عن مدينتهم، وسلموا للأعداء، لكانوا قد سلموا مصر كلها، ولضاع عبور أكتوبر هباءً.. لهذا ظلوا صامدين حتى خرج الإسرائيليون فى النهاية، من السويس. ومنذ هذا اليوم أصبح يوم 24 أكتوبر، هو العيد القومى للسويس. أما الفدائى عبدالمنعم خالد، فكان دينامو الفدائيين، وكان يقوم بكل الأعمال، من ذرع للألغام، وحماية لزملائه.. فكان مع زملائه بمثابة رادارات بشرية مزروعة فى قلب سيناء الحبيبة، رفضوا أن تظل قناة السويس مظهرا للتدمير والاحتلال بخط بارليف الحصين، ولكنهم أعطوا الفرصة لقادة اليوم، أن تصبح قناة السويس مجرىٍ مائيا دوليا، تعبر منه كل سفن العالم، حاملة الخير. وكانت مفاجأة لنا، حينما عرفنا أن مؤسسة "الأهرام" هى الجريدة الوحيدة، التى رفضت أن تغلق مكتبها فى السويس، أيام هذه المعارك على مستوى المؤسسات الصحفية كلها، ولم يكن هذا المكتب يلعب دوره الصحفى من نقل للأخبار فقط، بل كان مشاركا مؤثرا فى العمليات الفدائية.. حيث كان الفدائيون يختبئون فى المخبأ الموجود، أسفل هذا المبنى حتى يومنا هذا، بعد أن يتلقوا معلومات بوجود العدو فى الأماكن المختلفة بالسويس، من هذا المكان، الذى يعد أشهر الأماكن بالسويس حتى اليوم، والذى يقع بجانب مسجد الشهداء، الذى كتبت على جدرانه أسماء شهداء معركة السويس الخالدة.