علي مر العصور ظلت شخصية الحلاق نمطية لما يصدر عنها من طباع وخصال ووظائف متعددة والاهم من ذلك أنها كانت وعلي الدوام محببة للنفوس ومؤثرة في حياة الجماعة الشعبية في مختلف الأقطار العربية وبخاصة في القري والنجوع، والأحياء الشعبية في المدن العربية وبخاصة الشهيرة منها. وقد نقلت لنا كتب التراث العربي وكذلك المرويات الشفاهية ما يتعلق ويتردد حول تلك الشخصية وبخاصة الجانب الطريف منها كان أشهرها قصة بعنوان ' مزين بغداد وما جري له مع ابن التاجر من العجائب والغرائب والأهوال ' وهي قصة فرعية من حكاية ألف ليلة وليلة الشهيرة ظهرت فيها شخصية الحلاق بجوانبها المختلفة منها تعاليه بشخصيته وأهمية وجوده حتي قال لابن التاجر أنا من طأطأت له كل الرؤوس، وشعرا قال: جميع الصنائع مثل العقود وهذا المزين دار السلوك فيعلو علي كل ذي حكمة وتحت يديه رؤوس الملوك وقد رسمت لنا تلك الحكاية الكثير من أبعاد وخصال تلك الشخصية منها تعدد مجال المهنة ثم الثرثرة والحذلقة ومعرفة كثير من أمور الخلافة فئ حينه ومعرفة أمور البلاد والعباد والقدرة الفائقة علي السرد والانتقال من موضوع إلي آخر وفنية الحكي والمحاكاة مع الزبائن كل حسب طبقته ومهنته، وجاوزنا الصواب إذا ما اعتبرنا تلك المواقف نمر مسرحية تنضم إلي مكونات المسرح الشعبي العربي. وقد أدت تلك الشخصية في حياة الجماعة في بلداننا العربية وبخاصة في مصر ولوقت قريب ادوار عديدة فكان الحلاق مزينا في العرس والأفراح والمناسبات الدينية كالحج والعمرة، وطبيبا معالجا وقيامه بعملية الختان وخلع الأسنان وغيرها من الأمور الطبية في وقت لم يكن فيه الطب قد تطور في الكثير من بلداننا العربية. وما يميز حلاق عن آخر ليس عملية التحفيف ومهارتها فحسب، بل الاستمتاع بقضاء الوقت بجواره وتناول الأحاديث وبخاصة مع الحلاقين المتحذلقين العارفين ببواطن الأمور خفيفي الظل منهم، وأيضا من يعبرون منهم جيدا عن ضيق الحال والأرزاق وسخريتهم من الفقر والعوز عبر أزمنة التاريخ الاسلامي. ومع هجرة العمالة العربية لأوروبا وبخاصة العمالة المصرية هاجر الكثير من أصحاب الحرف والمهن كالحلاق، ويرجع ذلك إلي ما فرضته متطلبات المهاجرين العرب والضرورة الملحة لوجود الصالونات العربية كما ألفها الناس من قبل في بلدانهم، ومن المألوف الآن أن تجد في الكثير من الأحياء الشعبية وبخاصة التي يكثر فيها مهاجرونا بباريس وبعض المدن الفرنسية صالونات الحلاقة التي يديرها حلاقون عرب، فهذا مغربي وهذا جزائري وآخر تونسي وذاك مصري. وعادة ما تجد تلك الصالونات مزدحمة بالزبائن الذين جاءوا من اجل التزيين، ثم دخولهم مع الحلاق في حوارات لا تنتهي عن ما يعرفه الحلاق من خبرات عن هموم الغربة ومشاكلها من إقامة ومسكن وعمل وأيضا نصائحه وقصصه التي يرويها عن بعض المشاكل الاجتماعية للمهاجرين كموضوعات الحب والزواج والطلاق وبعض الموضوعات الدينية ثم أخبار بلداننا فتشعر من انك داخل منتدي ثقافي واجتماعي وسياسي وليس صالونا للحلاقة. تلك هي الشخصية النمطية التي عرفناها في بلداننا والتي لم تتغير كثيرا عندما شاهدناها في الكثير من الأحياء الباريسية، فلم يكن المهاجر العربي يحلم يوما بوجود تلك الصالونات وبهذا التنوع لتلبي له احتياجاته بعد أن سئم الحلاقة علي الطريقة الأوروبية المخالفة لتقاليده وأيضا غلاء الأسعار، كما انك تري الآن حرص تلك الصالونات علي كتابة واجهاتها بالعربية كحلاق عربي ثم كوافير. وقد التقينا بأحد أصحاب تلك الصالونات المصرية هو صالون'الحاج سعيد الاسكندراني ' في شارع باريس الشهير في مدينة كليشي القريبة من باريس هو'سعيد مصطفي قطب من حي سيدي جابر بالإسكندرية مواليد 1953م جاء إلي فرنسا عام1999م مع مهرجان باريس للكوافير وبعده فضل البقاء فيها، في البداية واجهته صعوبات الإقامة والعمل عندما فرضت عليه ظروف الحياة الصعبة أن يعمل لمدة بسيطة في مجال المعمار لكسب قوت يومه ولكنه لم يستطع مواصلة ذلك وفضل مزاولة عمله الاصلي الذي مارسه من سن الثانية عشر حتي حصل علي دبلوم في الكوافير والموضة وعمل في هذا المجال بالقناة الخامسة بالتليفزيون المصري، كما انه يمتلك صالونا لوالده في الإسكندرية، ويقول قررت أن أعمل في البداية متنقلا بشنطتي بين الزبائن من المصريين والعرب، ومن أظرف ما مررت به موقف يتشابه مع مواقف نجيب الريحاني في فيلم غزل البنات عندما دعاني مقاول مصري كبير إلي منزله وقدمني إلي زوجته الثرية وهي فرنسية من أصول عربية لعمل الكوافير اللازم لها وعندما رأتني بشنطتي صرخت في وجه زوجها وطلبت منا الخروج فورا مستنكرة هذا الموقف، ولكني وبخبرتي المعهودة ابتكرت لها في مخيلتي تصورا جميلا و مناسبا لوجهها واستخدمت مهاراتي لإقناعها أن تعطيني الفرصة بالتجربة فحولتها إلي شخصية مستجيبة لي وفي دقائق معدودة جعلتها تنظر في مرآتها فرأت وجهها بصورة جميلة وجذابة لم تعهدها لنفسها من قبل، وعلي الفور وجدتها تصرخ فاعتقدت أنها غير راضية عن عملي ولكن تبدد خوفي بعد أن رأيتها تقبل زوجها وتقبلني وتعترف له بعبقرية المصريين في كثير من مجالات الحياة، وسعدت بي أكثر عندما عرفت أنني من الإسكندرية وأنعمت عليّ بالأموال والهدايا و أعطتني بدله لن أنساها، كما قامت بالاتصال بصديقاتها من الفرنسيات الثريات وقدمتني لهم علي أنني أمتلك موهبة لم تعهدها في أكبر الصالونات الفرنسية من قبل' فقلت: والله وضحكت لك الدنيا يا سعيد'. بعدها بدأت في إجراء التراخيص اللازمة وقمت بعمل بعض الدورات اللازمة وافتتحت شركتي 'المسماة 'كوافير سعيد'، في البداية كان الصالون يستقبل زبائنه من الرجال، ولشدة موهبتي وحبي للكوافير والموضة ولخبرتي السابقة في الكوافير الحريمي بدأت سمعتي تنتشر بمدينة كليشي وغيرها وتوالت النساء علي الصالون الذي أصبح معد للرجال والنساء معا لأنني متخصص أيضا في تزيين العروسين. ومن أهم ما يتميز به الحاج سعيد هو اهتمامه بالزبون ولديه من الخبرة بان يختار له التسريحة الملائمة بمجرد رؤيته، كما انه يمكن أن يكون محاورا جيدا ولكن يفضل ذلك بعد انجاز عمله، وهو مجامل إلي حد كبير كما أنه متخصص في قص الشعر وعمل الصبغة بكل أنواعها والاستشوار ورسم الحواجب وكل ما يلزم الوجه كما أنه يحضر معه المسكات من مصر، يقول سعيد أن الشعر وقصه وتصفيفه جزء رئيسي من اهتمامات الناس في مختلف الأزمنة والأمكنة منذ القدم ولا ننسي أن الحضارة الفرعونية القديمة هي أول من عرفت الزينة والتزين وكانت الملكة كليوباترا من أجمل الأمثلة لذلك، ولهذا لم أنسي وضع الكثير من البرديات الفرعونية الموضحة لذلك خارج وداخل الصالون، ويقول أيضا انه من المعروف أن المصريين شغوفين بالحلاقة وموسوسون ويخافون من تجربتهم مع الحلاق وبخاصة مع الذي لا يعرفونه جيدا، وهذا يرجع إلي أنهم زبائن لهم اهتمامات خاصة بقصات الشعر المتنوعة و قصات الذقن والشارب للظهور بصورة جميلة أمام الآخرين، و لذلك تري الآن سعادة كبيرة بين أبناء الجالية المصرية لوجود الحلاق المصري الذي كانوا يفتقدونه في بباريس فيما مضي ولم يصدقوا يوما أن يجدوه بينهم. وسعيد قطب كما شاهدناه شخص محب لمهنته كريم وأصيل يشعرك بأنه يعرفك من قبل، حلو المظهر واللسان ولديه مهارة في استقبال الزبائن، كما أن حديثه ممتع عن قضايا الغربة، ورحيما مع غير القادرين من الزبائن حتي توافرت فيه الكثير من شخصية الحلاق النمطية العربية والمصرية الأصيلة. وقد اختتم الحاج سعيد هذا اللقاء وهو يمارس عمله مع احد الزبناء من مصر وهو الأخ 'إسلام طاهر ' من محافظة البحيرة خريج الحقوق وأكدا معا علي سعادتهما بالثورة المصرية ونهايتها السعيدة في الثلاثين من يونيو وبخاصة في استرداد المصريين من جديد لثورتهم والتخلص من حكم الإخوان الذي كان سينال من مصر وثقتهما كبيرة في الجيش المصري وإرادة شعب مصر كغالبية أبناء الجالية المصرية بفرنسا، وهما يتمنيان أن تعود مصر إلي مكانتها ومكانة شعبها بالعالم لأننا هنا نفتخر بأننا مصريين بين كل الجاليات الأجنبية وأمام الفرنسيين أنفسهم .