الطبيعة التي هي المنظومة الكونية التي خلقها الله سبحانه وأودع فيها جميع خلقه وأرسي فيها قوانينه الإلهية ونواميسه التي تكفل انتظامها وبقاءها. وقد كانت الطبيعة عند القدماء موضع تقدير واحترام وتقديس، وليس في ذلك شيء من المبالغة بالنسبة لهم، بل هو اعتراف متواضع منهم بعظمة الطبيعة وكرمها غير المحدود, وعلاقة الإنسان بالأرض 'التراب' أكثر من أن تكون تاريخاً وعادة وألفة وعبوراً. إنها علاقة كينونة وصيرورة. تحيط الأرض الأم بجسم ابنها وتتخطَّاه. فيها وبها يتكوَّن، وفيها يذوب. منها يظهر وفيها يغيب الإنسان جزء من هذا الكون الشاسع المترامي الأطراف، وهو بدوره المُكلّف باستخلاف الأرض وإعمارها، لذا لابدَّ من أن ينظر إلي هذا التكليف بعين الاهتمام ويوليه العناية الفائقة لكي يستطيع بلوغ غايته من وجوده وبما يكفل تحقيق التطور والرقي والتكامل الذي ينشده في ظل الحضارة الفاضلة الأرض جزء من المنظومة الكونية التي وضعها سبحانه للأنام في قوله 'وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ''الرحمن: 10'، والتي حظيت بالعناية والبركة الإلهية 'وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ''فصلت: 10'، والأرض هي ميدان عمل الإنسان وممارسة دوره فيها، وهي التي جعلنا الله مستخلفين فيها وأمرنا بإعمارها 'هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها''هود: 61'، وبين الإنسان والأرض علاقة وثيقة فهي بمثابة أمه التي خرج من بطنها، وخلق الله سبحانه مكونات جسمه من مكوناتها 'مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَي''طه: 55' وهي الوعاء الذي يحتضن جميع الأجسام 'أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً' 'المرسلات: 25'، 'وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً''نوح: 17' وهذا يعني أن علي الإنسان أن يتعامل معها بكل محبة واحترام ويتعاطي مع المخلوقات الأخري التي تعيش فوقها بكل عناية ورفق ويشعر بالمسئولية تجاهها فهي المكان الذي أنشأه الله منه وجعله خليفة له فيها لإعمارها وليس لتدميرها 'وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ''الأنعام: 165' من أهم أسباب شقاء الإنسان اليوم هي 'الغربة' التي يعيشها مع الطبيعة، فالفجوة كبيرة بين الإنسان وأمّه 'الكونية' الطبيعة، وكلما ازداد تحضراً ورقياً في مجال العلوم والتقنيات، كلما ازداد بُعداً وعقوقاً لها وأمعن في تدميرها والإساءة إليها، جاهلاً بحقوقها ومتطلباتها، وأوضح مثال علي ذلك الانتهاكات البيئية واستنزاف الموارد الطبيعية والإفساد في الأرض بشتي أنواعه. ولتخفيف شقاء الإنسان وإحساسه بالغربة لابدَّ من رجوعه إلي أمّه 'الطبيعة' والعودة إلي أحضانها والعيش في كنفها محترماً قوانينها ونظامها الرباني البديع، معملاً فيها تفكيره، متأملاً في موجوداتها، حاملاً محبته لها ومشتملاً علي أخلاقها السامية أينما كان وأينما حط رحاله وكما قال ابن القيم الجوزيّة 'بالمحبة وللمحبة وجدت الأرض والسموات، وعليها فُطرت المخلوقات ولها تحركت الأفلاك الدائرات وبها وصلت الحركات إلي غاياتها واتصلت بداياتها بنهاياتها وبها ظفرت النفوس بمطالبها وحصلت علي نيل مآربها وتخلّصت من معاطبها واتخذت إلي ربها سبيلاً وكان لها دون غيره مأمولاً ورسولاً وبها نالت الحياة الطيّبة وذاقت طعم الإيمان'. والمحبة هي القوة التي تحرّك التطور والرقي والكمال وهي أهم قانون تجري الطبيعة عليه ووفقه، فكلّ ما يتوافق مع هذا القانون تنسجم معه وتتعاون لإنجاحه وازدهاره، وعلي العكس، فإن كلّ ما يتعارض معه، تقف له بالمرصاد شاجبة له وتعاقب عليه بحسبه و الانسان لا يستطيع العيش خارج الأرض وهذا مارواه الترمذي وغيره: 'إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض.. ' الحديث. ولقد أثبت العلم الحديث أن جسم الإنسان مكون من عناصر الأرض. ' الأرض منها خلقنا وإليها نعود ومن خيراتها نعيش وعلي ثرواتها نتنعم ', وتشير الكثير من الآيات القرآنية إلي قيمة التدبر في هذا الكون والتفكير فيه وتدعو إلي النظر والبحث والتنقيب عن أسرار الحياة وبداية الخلق، يقول تعالي: 'قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الله الخلق' ولذلك دائما هناك ترابط عاطفي بين الانسان والأرض وحنين جارف للطبيعة لانه جزء منها, ولذلك لابد وان يشعر كل جزء بالأخر