نشرت صحيفة نيو يورك تايمز الامريكية مقالا للدكتور احمد زويل الفائز بجائزة نوبل في الكيمياء تحت عنوان: ' الثورة التي تحتاجها مصر'. تناول زويل اهمية دعم وتطوير راس المال البشري وضرورة ابعاد التعليم والعلوم عن الخلافات السياسية. وفيما يلي نص المقال: عندما كنت صبيا في مدينة دسوق بمصر، وهي مدينة تقع علي فرع رشيد من نهر النيل، علي بعد نحو 50 ميلا شرق الإسكندرية، كانت أسرتي تعيش علي بعد خطوات من أحد المعالم الرئيسة المحلية، وهو المسجد الذي كان يُسمي باسم أحد المشايخ الصوفيين في القرن الثالث عشر. وكنا نسمع الأذان للصلاة خمس مرات في اليوم. وشجعنا إمامنا علي الدراسة، حيث كان يخبرني أنا وأصدقائي مرارا وتكرارا بأن الرسالة التي أُوحي بها إلي الرسول محمد 'صلي الله عليه وسلم' كانت تبدأ بقوله تعالي: 'اقرأ'! حيث إن التعليم هو نسيج وبنيان ثقافتنا وديننا. غادرت مصر في عام 1969، من أجل إتمام الدراسات العليا في جامعة بنسلفانيا. ولقد عملت في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا 'كالتك' لمدة 37 عاما، وحملت الجنسية المزدوجة لمدة 31 سنة. بيد أن التزامي تجاه البلد الذي وُلدت فيه لم يتذبذب علي الإطلاق. وقد كان للاضطراب السياسي، حيث اندلعت ثورتان وجرت الإطاحة بنظامين في غضون سنتين، تأثير علي مصر، حيث جعلها في وضع سياسي مجهول بشكل عميق. ولكن ما تم فقدانه في المؤامرات المميتة بين كل من الليبراليين العلمانيين والإسلاميين السياسيين هو ما تسبب في اندلاع الثورة، طموحات شباب مصر. تعد مصر دولة صغيرة، مثلها مثل العديد من المجتمعات العربية. طالب الناشطون الذين ملأوا ميدان التحرير في عام 2011 بالحرية والعدالة الاجتماعية، وهما غايتان مشروعتان في حد ذاتهما، بيد أن هدفهما المطلق 'حسبما أري' كان متمثلا في إحداث تغيير اجتماعي واقتصادي، وجود فرص تعليمية بما يؤدي إلي خلق وظائف ملائمة وحياة كريمة، وهو ما يعد ضروريا لتحقيق الازدهار في العالم الحديث. وبصفتي أول مصري وعربي حائز جائزة نوبل في العلوم، وكذلك بوصفي مبعوثا خاصا سابقا أرسل من قبل إدارة أوباما لتطوير العلوم في منطقة الشرق الأوسط، فإن هذه الأمور هي اهتماماتي الأساسية. غالبا ما ينسي الغربيون السجل التاريخي الطويل لمصر وإنجازاتها العلمية. وتعد جامعة الأزهر، مركز التعليم الإسلامي، أقدم تاريخيا من جامعتي أكسفورد وكمبريدج حيث تسبقهما بقرون. ولقد كانت جامعة القاهرة، التي تأسست في عام 1908، مركزا للتنوير للعالم العربي بأسره. وكانت الريادة في أول انتخابات ديمقراطية في مصر في الفترة من عشرينات إلي خمسينات القرن الماضي للمثقفين والمفكرين، الذين كانوا في الطليعة، في ظل النظام الملكي الذي خلف الحكم البريطاني. وقد اشتملت فترة التحديث هذه، التي وُلدت فيها، علي تأسيس معاهد علمية، مع ظهور مجالات الصناعات الحديثة، مثل الصرافة، ووسائل الإعلام الإخبارية والمنسوجات وأفلام الرسوم المتحركة. وقد كبرت أثناء فترة حكم جمال عبد الناصر، الذي شارك في ثورة 1952، ثم ترأس قيادة البلاد حتي وفاته في عام 1970. وكانت فترة حكمه عبارة عن حالة من النقص في الديمقراطية، ولكن لم تنقص روح التفاؤل. وكانت العلوم والهندسة والتكنولوجيا من أعلي فروع المعرفة في جامعات مصر، التي جذبت أفضل الطلاب والعلماء من العالم العربي. وتطلبت مشاريع البنية التحتية العملاقة، مثل مشروع السد العالي في أسوان والمفاعل النووي في أنشاص، وجود مهندسين مهرة، كانت مصر قادرة علي توفيرهم. وبصفتي محاضرا بجامعة الإسكندرية، فقد أجريت بحثا نشرته الجرائد الدولية. وعلي الرغم من مغادرتي مصر للحصول علي شهادة الدكتوراه في الولاياتالمتحدة، فإن ذلك الرحيل لم يكن سببه الرغبة في الحصول علي حياة جيدة. لكن في الثلاثين سنة الماضية، وتقريبا منذ اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات 'خليفة عبد الناصر'، تدهورت حالة البلاد.وأثناء فترة حكم الأسبق الرئيس حسني مبارك، أدي الاهتمام بالمدارس والبنية التحتية إلي إعطاء الأولوية للتركيز علي الإعلام والأمن والمنتجعات الضخمة والمشاريع الترفيهية، علي الرغم من أن العدد المتزايد للسكان قد أدي إلي زيادة المطالب المنادية بالتعليم، والتي لم تجر تلبيتها. ومما لا أفتخر به أن مصر والعالم العربي بأكمله لم يقدموا سوي مساهمات متواضعة في مجال العلوم والتكنولوجيا. هذا الجزء من العالم، الذي كان الرائد في مجال العلوم والرياضيات أثناء العصور المظلمة لأوروبا، صار الآن تائها في عصر مظلم من الأمية ونقص المعرفة. وباستثناء إسرائيل، فإن المنتج العلمي للمنطقة يعد متواضعا في أحسن الأحوال. لقد قطعت تركيا وإيران شوطا كبيرا، وخطتا خطوات واسعة في مجال التكنولوجيا. وعلي النقيض من ذلك، اعتمدت مصر 'في ظل حكم مبارك' علي عوائد قناة السويس والسياحة والغاز والبترول، مع وجود القليل من الإسهامات في مجالات صناعات التكنولوجيا الحديثة. وبعد إطاحة مبارك، طلب مني عصام شرف، الذي تولي رئاسة الوزراء لمدة أقل من عام، أن أقوم بتأسيس ما سمّته الحكومة 'مدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا'، وهي مشروع علمي وبحثي كنت قد اقترحته علي مبارك وعدد من رؤساء الوزراء لمدة تقارب 15 عاما، ولكن من دون أن يحالفه النجاح. وفي ظل الدعم الشعبي الهائل، قمنا بجمع أموال لإنشاء المشروع علي مساحة تزيد عن 100 فدان في ضواحي القاهرة. واستمر القادة الذين يحكمون مصر منذ الثورة الأخيرة، التي اندلعت في شهر يونيو 'حزيران'، في دعم هذا المشروع. 'يجب أن يكون التعليم والعلوم أولويتنا الوطنية'، وفقا لما ذكره عصام حجي، عالم فضاء في معمل محركات الدفع الصاروخي بوكالة 'ناسا' الأميركية، وأحد مستشاري الرئيس المؤقت عدلي منصور. ويجري الآن إجراء الأبحاث في مجالات الطب البيولوجي والطاقة الشمسية وتقنية النانو، بالإضافة إلي مجالات أخري. وفي الصيف الماضي، تقدم نحو 6000 شخص للالتحاق بالجامعة. إنني مستمر في دعم المشروع وقيادة مجلس الأمناء الذي يضم ستة علماء حائزين جائزة نوبل، ولكن يجب أن يتوقف العنف حتي يتسني تحقيق النجاح لهذا المشروع. وكذلك فإن نسبة البطالة العالية بين الشباب، الذين يشكلون ثلث سكان مصر البالغ عددهم 90 مليون نسمة، لا تضمن سوي عدم الاستقرار. تعد مصر محورا حيويا للولايات المتحدة علي المستوي الاستراتيجي، بسبب قناة السويس ومعاهدة السلام المبرمة مع إسرائيل والتعاون مع الجيش الأميركي ووكالات الاستخبارات. بيد أن معظم المحادثات بشأن المعونة قد تركزت علي النفوذ السياسي. ويتعين علي أميركا، عوضا عن ذلك، أن تفكر في المعونة من منظور جديد غير سياسي، تمنح الولاياتالمتحدة نحو 1.5 مليار دولار أميركي لمصر كل عام، وتمنح ثلاثة مليارات دولار لإسرائيل، وتذهب المعونة الأولي الممنوحة لمصر للتزود بالمعدات العسكرية في المقام الأول، في حين أن المعونة الممنوحة لإسرائيل تعد أقرب إلي شراكة لا تتضمن فقط الأمور العسكرية، ولكن أيضا التعاون العلمي والصناعي. أطالب قادة مصر، أيا كانت معتقداتهم الدينية أو السياسية، بأن يعزلوا التعليم والعلوم، ويجعلوهما بمنأي عن عداواتهم. وأطالب أيضا القوي العظمي، مثل الولاياتالمتحدة، بدعم تطوير رأس المال البشري. فعلي سبيل المثال، ساعدت المعونات التي منحتها أميركا لدول اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، بعد الحرب العالمية الثانية، في تمكين هذه الدول من أن يصبح دورها حيويا علي المستوي الاقتصادي. لا أزال متفائلا بشأن مصر، التي لن يقبل شعبها بالوضع القائم منذ نصف قرن مضي من الزمان. ويتمثل السؤال، الذي أعجز عن الإجابة عنه بصفتي عالما، فيما هي الحالة التي ستحل محل الوضع الراهن، وما الفترة التي ستستغرقها؟ المصريون معروفون بصبرهم، الذي ربما يكون مستمدا من خلود نهر النيل، بيد أن صبرهم بدأ ينفد مع عدم تلبية طموحاتهم. إن أي جماعة ترغب في التمثيل الصادق لآمال الشعب المصري يجب أن تجعل الإنجاز التعليمي والنمو الاقتصادي من أهم أولوياتها. * أستاذ الكيمياء والفيزياء في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا الحائز جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999