بعد أن غبتم عنا ثمانية عقود ، حان الوقت لعودتكم بما يجب لكم من تأثير في منطقة الشرق الأوسط . كلمات صادقة نقلها وزير خارجيتنا أحمد أبو الغيط في ترحيب مصري بالانبعاث التركي الذي حل زمنه أخيرا ليعاود تفجره ، ولو معنويا ، أمام بلطجة إسرائيلية أضافت بهجومها علي قافلة الحرية البحرية ضحايا جددا تزين بهم مقتنياتها من الذبائح البشرية. كلمات رنت بعمق معانيها في الاجتماع الثالث للمنتدي العربي التركي باسطنبول ، بشرت بعودة التيار مع وريثة الإمبراطورية العثمانية والذي دام انقطاعه منذ الحرب العالمية الأولي ، وأذنت بإضاءة تلك المساحات المظلمة التي طرحت نفسها علي العلاقات التركية العربية بدون رغبة حقيقية في وجودها لدي أطرافها. وقد كان الغضب التركي مؤخرا تجاه إسرائيل ، مكملا لآخر شاهد فيه المنتدي الاقتصادي العالمي بدافوس السويسرية في مطلع العام الجاري إنسحاب رئيس الوزراء التركي " طيب أردوغان " احتجاجا علي مقاطعته بينما كان في سياق رده علي الرئيس الإسرائيلي " شيمون بيريز " ، بشأن الاعتداء الوحشي الذي شنته قواته علي قطاع غزة وأزهقت فيه قرابة الف وثلاثمائة نفس ثلثهم من الأطفال ، و قال موجها الحديث اليه : ( عندما يتعلق الأمر بالقتل فإنكم تعرفون جيدا كيف تفعلون ذلك ، إنني أعلم تماما إنكم قتلتم حتي الأطفال علي الشواطيء) أهلا بتركيا كانت غائبة عنا وإن كانت حاضرة دائما في تاريخنا وفي ذاكرتنا ، أهلا بكل من يحقق لنا مؤازرة حتي لو جاءت من أقصي بلاد الدنيا عنا ، أهلا بعودة ذلك التيار الذي كان ساريا يوم بعث قادة الصهاينة وفدا تلو آخر يتوسلون السلطان " عبد الحميد " أن يقطعهم الأراضي في فلسطين ، فيقابلهم برفض قاطع أشار اليه " هرتزل " في مذكراته فكتب يقول : ( قال السلطان لرئيس وفدنا ، انصح هرتزل ألا يمضي في هذا الاتجاه ، إنني لا أستطيع أن أبيع موطيء قدم من هذه الأرض لإنها ليست لي وإنما هي لشعبي ، لقد حصلوا علي هذه الإمبراطورية وغذوها بدمائهم ، اثنان من ألوية جيشنا في سوريا وفلسطين قتلوا حتي آخر رجل ، وسقطوا صرعي علي أرضها دون أن يستسلم منهم أحد ، ويمكن لليهود أن يوفروا أموالهم ، فإذا ما تجزأت إمبراطوريتي ، فقد يتمكنون من أخذ فلسطين بلا مقابل إلا أنها لن تقسم إلا علي جثثنا ولن نقبل بتشريحها لأي غرض كان). وفي فرمان بتاريخ 21 من ذي القعدة سنة 1308 ه (1890 م ) أمر السلطان بأن : ( لا يسمح بقبول اللاجئين اليهود المطرودين من كل بلد ، وبما أنهم ليسوا من مواطني إمبراطوريتنا فيتحتم إرسالهم الي أمريكا دون تأخير ، فلا يمكننا قبول من طردتهم البلاد الأوروبية) . لذا لم يكن غريبا أن يكون موقف السلطان تجاه المشروع الصهيوني هو أحد أهم العوامل التي عجلت بخلعه وإسقاط آخر الخلافات الإسلامية فبداية عهد من القومية الطورانية في تركيا والعربية في العالم العربي ، وما حققه ذلك من تباعد بين الجانبين ، بذر له الأعداء وقتئذ ما يلزم لكي تنمو شجرة الشقاق سريعا ، وهو ما تمثلت خلاصة عصارته في قول كل من الضابط الإنجليزي " لورانس " الذي قاد الثورة العربية : ( لقد كنت واثقا قبل أن أحضر الي الحجاز أن الحركة العربية هي التي ستقطع أوصال الدولة العثمانية ) . وفي حسرة الشريف " حسين بن علي " الذي تحالف مع الإنجليز بقوله : ( لقد تجاهلت النقد بشأن علاقاتي مع بريطانيا ودعوتها لي لإعلان الثورة تجديدا لمجد العرب ، وكانت نتيجة ذلك نهاية العرب ونهاية تركيا علي السواء ) . وربما قد يكون من الأوفق الآن ، وبعد أن حقق الجانبان تطلعاتهما القومية ، أن يدخلا معا إلي ما هو أرحب منها ، بما يرسخ مزيدا من التقارب بينهما ، دون خلافة عثمانية ولا ثورة عربية .