المقارنة بين جمال عبدالناصر وأي حاكم مصري أو عربي آخر في العصر الحديث تدخل أحيانا في باب العيب، وأحيانا في باب إهانة العقل! ومع ذلك فبعض المواقف تستدعي التاريخ كما حدث في الأيام الماضية مع حديث المعونة الأمريكية.. فقد تذكر الناس كيف تعاملت مصر في عهد عبدالناصر مع موقف مشابه، وكيف رفضت مصر الضغوط، وأعلن عبدالناصر الاستغناء عن »المعونة« لأن شعب مصر يرفض التفريط في استقلاله وكرامته. لم يكن عبدالناصر يومها »عام 4691« يقول كلاما في الهواء، بل كان يتخذ الموقف الذي تمليه الكرامة الوطنية علي أي حاكم. ولم يكن يغامر بمستقبل البلاد، بل كان يستند علي عشر سنوات من النضال العظيم من أجل الاستقلال الوطني، ولم يكن عبدالناصر هو الذي سعي لعداء أمريكا، بل كانت أمريكا هي التي فعلت لأنها كالعادة تريد عملاء لا أصدقاء! كانت التجارب أليمة، ومع ذلك كان عبدالناصر حريصا علي إبقاء شعرة معاوية مع الأمريكان، ولم يجد بأسا في اتفاق »المعونة« التي كانت في حقيقتها مجرد تسهيلات مالية تحصل مصر علي فائض القمح الأمريكي، وتسدد الثمن بالجنيه المصري، وكان ذلك يوفر لمصر بعض النقد الأجنبي الذي كانت تحتاجه بشدة لتحقيق خطة التنمية الطموحة التي كانت تتبناها. ثم جاء الوقت الذي أرادت فيه واشنطن أن تستغل الموقف وتفرض الشروط التي كانت تتضمن الرقابة علي تسليح الجيش والتفتيش علي البرنامج النووي المصري بالإضافة طبعا إلي تغيير السياسة المصرية المناهضة لإسرائيل والاستعمار وكان طبيعيا أن يرفض عبدالناصر وأن تستغني مصر عن »المعونة« وتدوس عليها بالأحذية. إذا كان البعض يعتبر ذلك من »المواقف العنترية«!.. فما أحوجنا لهذه المواقف بعد سنوات طويلة من التبعية، ومن وضع 99٪ من أوراقنا في يد أمريكا، لتكون النتيجة هي كل ما نعاني منه، وما ثرنا عليه، وما نحاول تغييره مستفيدين من دروس التاريخ، ومن ثورة قامت لتستعيد الكرامة والاستقلال الوطني. وفي الأزمة الأخيرة حول المعونة الأمريكية والتهديدات بقطعها، واستغلالها لإهانة الاستقلال الوطني، كان طبيعيا أن يتذكر الناس تجربة عبدالناصر.. ليس لأنه صاحب »المواقف العنترية«! ولكن لأنه قائد تجربة عظيمة لشعب مصر، عرف فيها الطريق وامتلك القيادة الوطنية والمشروع الحقيقي للنهضة، فكان طبيعيا أن يتآمر الأعداء، وأن يقاتل الشعب دفاعا عن كرامته واستقلاله، وأن ينتصر وينهزم، ولكنه حتي في عز الهزيمة لم يفقد ثقته بنفسه أو بقيادته، ولم تنكسر إرادته، ولم يقبل أن يتنازل عن أرضه.. أو عن كرامته. لهذا يظل عبدالناصر بعد أربعين عاما من الرحيل هو الحاضر في كل ثورة، وهو الرمز في كل معركة لتحرير الإرادة واستعادة الكرامة الوطنية.